الجحيم المقدس وإغواء السقوط

أمير العمري

هذا واحد من أكثر الأفلام الوثائقية غرابة وقدرة مدهشة على تحقيق “صدمة الوعي”. إنه يروي قصة مثيرة تدفع إلى التفكير فيما يحدث من أمور غريبة تحدث في عالمنا، كما يعرض الكثير من اللقطات والمشاهد الخاصة التي تعتبر “وثائق” حقيقية تشهد بدقة على كل ما وقع هناك. مدخله البعد الذاتي أو التجربة الذاتية، ولكنه يتناول ظاهرة قديمة راسخة في الثقافة الأمريكية، ربما كانت تشبه من زاوية ما ظاهرة “تشارلز مانسون” وعصابته التي ارتكبت جرائم القتل المروعة عام 1968. ومن أشهر ضحاياها الممثلة “شارون تيت” زوجة المخرج “رومان بولانسكي”. القبيلة الجديدة تعرف باسم “حقل بوذا” Buddahfiled ومن الأفضل أن نطلق عليه قبيلة “مايكل “، هي أيضًا لا تبعد كثيرًا عن “لوس أنجلوس” حيث كانت قبيلة “مانسون”.

الفيلم بعنوان “الجحيم المقدس” Holy Hell ومن إخراج “ويل ألين” Will Allen الذي يبدأ فيلمه بأن يروي لنا عن نفسه، كيف درس التصوير السينمائي ثم كان يشعر عام 1985 -وكان في الثانية والعشرين من عمره- بالاغتراب عن المجتمع، وعن أسرته التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى، كما كان يطرح الكثير من التساؤلات حول هويته وما يريد تحقيقه في الحياة. وكانت تدور في ذهنه تساؤلات كثيرة حول الحياة والموت. من هذا المدخل عثر “ألين” على ما اعتبره بمثابة “العائلة البديلة”، كما لمسها في جماعة “حقل بوذا” التي أسسها رجل يطلق على نفسه اسم ““مايكل “” ويناديه أتباعه بـ “المعلم”.

داخل القبيلة

هذه القبيلة cult تضم نحو 150 فردًا من الشباب والفتيات، كانت تتخذ لها مقرًا في منزل كبير في منطقة معزولة من غرب هوليوود، تحيطه حديقة واسعة ويقع بالقرب من غابة وبحيرة. هذا المنزل هو “الجنة المنشودة” حيث يمارس ““مايكل “” تعاليمه باعتباره نبيًا جديدًا يبشر برسالة تدعو إلى الحب والسلام، يعد الشباب بتحقيق السعادة المطلقة التي يقول إنها يجب أن تنبع من ذواتهم، كما يعدهم بتخليصهم من كل مشاكلهم النفسية، بل إنه ينجح في إقناعهم بقدرته على ترتيب لقاءات لبعضهم مع الله. إنه إغواء الوصول إلى التطهر الروحي، والنقاء المطلق، وتحقيق درجة عالية من الشفافية تكفل أن يشعر المرء بالسعادة، وبأنه قد تخلص من كل مشاكل الدنيا.

يعمل “ألين” في الخدمة الشخصية الخاصة للمعلم، يعد له الطعام، ينظف غرفته، يأتيه بكل ما يطلبه، يغسل قدميه. أما “المعلم” نفسه أو ““مايكل “”، فنراه معظم الوقت عاري الصدر حتى وسطه، يرتدي سروالاً قصيرًا، يسبح مع أتباعه في البحيرة، يرقص في وسطهم، يغني ويحتفل معهم بالحياة.

ولكن كيف أمكن الحصول على هذه اللقطات التي نراها في الفيلم رغم خصوصيتها الشديدة؟ يقول ألين إنه بعد سنتين قضاهما في خدمة المعلم طلب منه الرجل أن يصبح المصور الخاص له، أي أن يصاحبه في كل مكان، لتوثيق نشاطه بالصورة بواسطة كاميرا فيديو من تلك التي كانت شائعة في الثمانينيات. وكل ما نشاهده في الفيلم هو من تصوير “مايكل “، وقد نجح في إخفاء الكثير من المواد التي بلغت 35 ساعة لدى أحد أصدقائه خارج القبيلة، وهي التي استعان بها في صنع هذا الفيلم الذي يتميز بالإيقاع السريع مع مزيج من الموسيقى والأغاني، وتتابع في اللقطات التي تبدو وقد اقتنصت مباشرة من داخل الحدث رغم أنها ربما لا تتمتع بالرونق والنقاء بسبب طبيعة الكاميرا المستخدمة. واستعان ألين فيما بعد بالمصورة “بولي مورغان” التي صاحبته وهو يعود لمقابلة ““مايكل “” بعد مغادرته القبيلة في 2007، ليواجهه مع مجموعة من رفاقه، بينما يحيط ب”مايكل “ عدد ممن فضلوا البقاء داخل الجماعة. وقد نجحت المصورة “مورغان” في اقتناص الصور وهي تختبئ داخل دغل قريب، أي أنها كانت تصور خلسة.

حوار مع الرب

يروي “ألين” إن المعلم قال له بعد فترة إنه قضى ليلة بأكملها يتناقش مع الرب بشأنه، فقد كان مصيره قد تحدد بالموت، لكنه نجح في إقناع الرب بتأجيل موته. ولم يقتصر الأمر على “ألين” وحده بل كان ““مايكل “” يدخل في روع الجميع أن وجودهم معه، يخدمونه ويطيعونه في كل شيء ويمارسون الطقوس التي يعلمهم إياها، هي الوسيلة الوحيدة التي تكفل نجاتهم، أما إذا خرجوا عن “المزرعة” فسيواجهون المرض ثم الموت.

يظهر في الفيلم 14 شخصًا من الذين كانوا ضمن قبيلة “مايكل “ ثم اكتشفوا الحقيقة وغادروا. تروي إحدى الفتيات كيف أن “مايكل “ منعها من زيارة والدها عندما كان يرقد على فراش الموت يحتضر، وأنها استجابت لأمره. ويروي أحدهم أن “مايكل “ حذره من أنه إذا غادر فسيصاب بمرض الإيدز ثم يموت خلال سنة واحدة.

كان الرجل- كما نرى- يدخل في روع أتباعه ضرورة التجرد: “إن لم تستطع الوقوف عاريًا أمام معلمك فلن تستطيع الوقوف أمام الله”. وكان يطالبهم بالتخلص من أي ارتباط لهم بعائلاتهم، ورفض كل الأمور الحياتية المعتادة: الاستغناء عن التليفزيون، عن صحبة الكلاب، التليفونات، الصحف، الكومبيوتر، عدم احتساء الخمور، والتركيز على الرياضة أي بناء الأجسام، والرقص (خاصة الباليه الذي كان يدربه عليه) والتمثيل أحيانًا وتصوير الأفلام وعروض الرقص. كان يطالبهم بالتجرد من أجل الوصول إلى حالة من النشوة الخالصة، مؤكدًا لهم أن التجلي الذهني هو “النشوة الحقيقية” أو قمة اللذة، وليست اللذة الجنسية. وكل هذه الأمور تتجسد في الفيلم من خلال أمثلة عملية ومواجهات، وأحاديث وتعاليم “المعلم” وشهادات الشهود من الذين تمردوا على الخضوع له.

جنون العظمة

من أول لحظة ونحن نشاهد هذا الفيلم يمكن أن ندرك أننا أمام عقلية مريضة مصابة بخلل نفسي خطير أدى إلى مزيج من النرجسية وجنون العظمة والرغبة في السيطرة. الرجل يحظر إقامة أي علاقات جنسية بين أفراد “القبيلة”، كما يجبر النساء على إجراء عمليات إجهاض في حالة الحمل كما تروي إحداهن بالفعل، تحت التهديد بطردها من “القبيلة” إن لم تستجب، وهي تستجيب بالفعل، دلالة على مدى خضوع الشباب لسطوة هذا الرجل الذي كان يستخدم التنويم الإيحائي لتحقيق السيطرة على أذهانهم. ولكن لابد من الاستدراك بالقول إن هؤلاء الشباب كان لديهم من البداية استعدادًا خاصًا لتقبل هذا النوع من السيطرة والخضوع لقوة من رأوا فيه نوعا من “النبوة”. وعلى الرغم من التساؤلات الكثيرة التي بدأت تدور في أذهان الكثيرين منهم في مرحلة لاحقة، إلا أنهم كانوا يستبعدون ويرفضون تصديق أن “مايكل “ يمكن أن يكون شخصًا مخادعًا، وأنه يستخدمهم لتحقيق مآربه الخاصة، دون أن يقيم وزنًا أو اعتبارًا لهم أو لمشاعرهم، فقد أصبحوا عبيدًا له سواء من الناحية الذهنية أو بشكل عملي. لقد بلغ إيمانهم به درجة شبيهة بالإيمان بالمقدس تحت وهم أنه يملك علاقة خاصة بالله.

كان “مايكل “يحصل من كل منهم على 50 دولارًا مقابل كل جلسة من جلسات التنويم أو “العلاج بالتنويم” أي مساعدة الشخص في الوصول إلى حالة الاستنارة. وقد زرع في أذهانهم قدرته على اختيار البعض منهم- أي الذين يرى أنهم قد بلغوا مرحلة من الصفاء الذهني واتاحة الفرصة لهم لرؤية الله. وكما نرى في الفيلم من خلال اللقطات العديدة المصورة لهذا النوع من الجلسات، كان “مايكل “يحدق في عيني الشخص بطريقة خاصة وهو يطالبه بالتطلع إليه، ثم يضغط بقوة على جبهته أو جانبي رأسه بينما يجثو الشخص على الأرض أمامه، يستمر في الضغط بقوة الى أن يصبح الشخص مثل العجينة اللينة، يتخيل أنه يرى أشعة من الضوء قادمة من وراء الطبيعة، تسري في رأسه على شكل ومضات- كما يروي بعض الضحايا السابقين لهذا الوهم الكبير- ثم يصرخ في نشوة وسعادة متصورًا أنه بلغ أخيرًا اليقين الذي كان يتعذب من أجل الوصول إليه.

إنها فكرة بحث الإنسان المرهق عن اليقين الديني. وفي ظل الفراغ الروحي الهائل الذي ينتج عن طغيان الثقافة المادية يصبح الأمريكيون تحديدًا الأكثر استعدادًا لتصديق دعوات الدجالين من هذا النوع. في الفيلم، يقول شاب من الضحايا السابقين لمخرج الفيلم وهو يتحدث إليه أمام الكاميرا مباشرة، إن نموذج “مايكل “موجود في كل مكان ويراهنه على وجود مثل له في بلدته نفسها!

الهوس الجنسي

رغم إصرار “مايكل “على حظر أي علاقات جنسية بين الرجال والنساء من أفراد المجموعة إلا أنه كان في الوقت نفسه قد أقام علاقات جنسية شاذة مع عدد كبير من الشباب، عن طريق الترغيب والإغواء وبعد نجاحه في فرض فكرة الطاعة العمياء للزعيم “الروحي” (وهي الفكرة الفاشية). لقد كان يوهم كل منهم بأن علاقته به هي علاقة خاصة مميزة وأنه لا يجب أن يخبر أي شخص بما يجري بينهما حفاظا على خصوصيتها.. لكن بعد مرور سنوات طويلة بلغت 22 سنة في حالة صانع الفيلم “ويل ألين” تنكشف الحقيقة، وتسقط أسطورة “المعلم”. فسوف يتضح أنه كان يقيم علاقات متعددة مع شباب حتى من غير المثليين، وبشكل جبري. ورغم أنه كان يستنكر ويرفض أي علاقة مع عالم الطب والجراحة لكن بعض أتباعه من “المتشككين” يكتشفون أنه كان يجري باستمرار الكثير من عمليات التجميل. وتروي إحدى النساء أنها عندما كانت تسبح معه ذات يوم في البحيرة رأت رموشه الصناعية تسقط على خديه. 

“مايكل “فنزويلي الأصل، واسمه الحقيقي هو “خاييم غوميز”. ذات يوم أرسل شخص كان ينتمي فيما مضى إلى القبيلة، رسائل عديدة بالبريد الالكتروني إلى جميع أتباع “المعلم” يكشف لهم فيها الكثير من الحقائق عن “مايكل “، كيف أنه كان ممثلاً في الأفلام الإباحية. ثم ظهر كممثل ثانوي في بعض الأفلام منها فيلم “طفل روزماري” الذي يظهر في مشهد الحفل الذي يقيمه السحرة بعد استيلائهم على “طفل روزماري”، في خاتمة الفيلم. ويكشف مرسل تلك الرسائل أن “مايكل “شاذ جنسيًا ونصاب كبير يستغل الشباب ويسخرهم لخدمته، وأنه مهووس بنفسه. وعندما يواجهون “مايكل “بهذه المعلومات يستنكرها ويزعم أنها صادرة عمن يريدون تدميره، ورغم أنها تتسق مع الكثير مما كان يعرفه أعضاء “القبيلة” عن “مايكل “ وشذوذه، إلا أنهم رغم ذلك يستمرون في الخضوع لوصايته، ومن بينهم “ألين” الذي يحسم أمره أخيرا في 2007 ويقرر التمرد والخروج عن القبيلة مع شقيقتيه وشقيقه بعد أن تم تدميرهم نفسيًا. 

ينتقل “مايكل “بأتباعه مرتين خلال فترة الـ 22 عاما التي قضاها ألين ضمن حاشيته، أولاً إلى أوستن في ولاية تكساس، بعد أن تكثر الأقاويل حوله، ويبدأ ضباط وكالة المباحث الفيدرالية في التنقيب في سيرته ونشاطه. ثم إلى هاواي، ويحذر هو أتباعه من الإدلاء بأي شيء عنه ملوحًا لهم بأن من يفعل ذلك سيموت على الفور. ولكن ما الذي دفع هؤلاء جميعًا إلى البقاء تحت سطوته طوال سنوات؟

إنهم جميعا أناس طبيعون، متعلمون، مثقفون، ينتمون للطبقة الوسطى أي أنهم لا يعانون من مشاكل مادية، بل كانوا في الحقيقة ينفقون أموالهم عليه، فكيف إذن كان ممكنًا أن يحدث هذا؟ هذا هو السؤال الذي يكرره “ألين” على نفسه في الفيلم دون أن يمكنه التوصل إلى إجابة عليه.

ولعل هذا السؤال يظل أيضًا مطروحًا بقوة مع ما يخبرنا به الفيلم في نهايته من خلال المعلومات التي تظهر على الشاشة، من بقاء عدد كبير من أتباع “مايكل “حوله حتى وقتنا هذا، وانتقاله إلى جزيرة هاواي، أي أن قصة فيلمنا هذا لم تصل إلى نهايتها بعد! 

 


إعلان