أوجُه الغواية في السينما
Published On 5/5/2017

إسراء مقيدم
بحسب الأسطورة اليونانية، يقابل أوديسيوس سيرسي إلهة الجمال، التي تمتلك هواية تحويل الرجال لخنازير يرعون في قصرها بعد غوايتهم. بحسب الأسطورة، عندما طالبها أوديسيوس بإرجاع رفاقه إلى هيئتهم البشرية مرة أخرى، هم الذين رفضوا لاعتيادهم معيشة الحيوانات الشرهة. وبعيدا عن الميثولوجيا الإغريقية، فتصدير صورة الغواية عن المرأة ووجود نموذج “الأنثى الغواية” يمتدّ لأبعد من ذلك. فبحسب الرواية الدينية، حاولت “زليخة” امرأة العزيز غواية يوسف النبي، ولما امتنع عنها انتهى به الحال في السجن لسبعة أعوام.
ربما لا نملك دليلًا على معرفة المخرج المصري الراحل صلاح أبو سيف بأسطورة سيرسي، لكن المؤكد أن نموذج “امرأة العزيز” قد لاح بعقله أثناء إعداده المعالجة الدرامية لرواية “أمين يوسف غراب” والتي ستقدّم على الشاشة عام 1956 بعنوان “شباب امرأة”، قبل أن تذهب لمهرجان كان بعد ذلك بعنوان “العلقة”.
في مكان ما بقاهرة الخمسينات، تفتن “شفاعات” الخمسينية صاحبة النفوذ والرغبة والفراش الخاوي، بـ”إمام” الطالب الجامعي القروي الذي يدفئ بجسده فراشًا آخر بغرفة مستأجرة بمنزلها، تنجح شفاعات في استدراجه لعلاقة عاطفية تجمعهما قبل أن نعرف أنها مهووسة بتملّكه والسيطرة على حياته.
وفي مكان آخر في “هوليوود”، تحديدًا “بوليفارد”، تعقد “نورما ديزموند”، نجمة السينما الصامتة الموشكة على الأفول، اتفاقًا مع “جوي” كاتب السيناريو ينصّ على مساعدتها في مسودة فيلمها الذي تكتبه، في مقابل الإقامة بقصرها الذي هو أقرب لقلعة، حصن، أو سجن. يظلّ الاتفاق ساري إلى أن تتورط نورما عاطفيًا تجاه جوي، وتستدرجه هي الأخرى لعلاقة عاطفية، يتحول جوي خلالها من مجرد “كاتب خفي” إلى هوسها الأكبر والسبب الوحيد لاستمرارها في العالم.

للوهلة الأولى، ربما ستثير مصادفة تشابه حبكة الفيلمين، (شباب امرأة) و (Sunset Boulevard) استغراب أي متابع للسينما. كلا الفيلمين إنتاج الخمسينات، كلاهما يمتلكان نفس الحبكة الرئيسية (امرأة مُسنّة نسبيا تقوم بإغواء شاب حديث العهد بالحياة)، كلاهما يمرّان بنفس التصاعد الدرامي وصولًا لنفس النهاية تقريبًا، إلا أن بأخذ المردود الميثولوجي السابق ذكره في الاعتبار، يصبح التقاط السينما لهذا الخط مفهومًا، فسواء كان بشكل متعمّد أو غير مقصود، نجحت السينما في تجاوز دورها الترفيهي وتقديم صورة تشريحية تُفكِّك المجتمعات.
على الجانب الآخر، ففي الوقت الذي يقف فيه فيلم “شباب امرأة” بشفاعات عند حدود الغواية، جاعلًا من ذاته فيلما شبقيًا لا يكشف عن شخصياته أكثر مما يظهره الصراع الرئيسي، والوحيد، بينهم، تطّرق Sunset Boulevard لجوانب أخرى أكثر إنسانية تكشف صراعات داخلية لدى شخصياته، جاعلة من الفيلم حكاية عن شخصيات تناضل لخلق مساحة لها في عالم طاغ يجبر وجودهم على التآكل، وهو ما ميّز شخصية “نورما ديزموند” لتصبح أكثر من مجرد امرأة مفتونة بشاب يصغرها.
فما هي العوامل التي أدّت لاختلاف اللغة السردية في فيلمين يتبنيان نفس القصة الرئيسية؟ وكيف لحبكة درامية واحدة أن تعكس صورتين شديدتيّ التباين عن مجتمعين شديدا الاختلاف؟
الجنس غاية أم وسيلة
في مجتمع مكبوت جنسيًا مثل المجتمع المصري، ربما يمكن قراءة فيلم “شباب امرأة” بشيء من الثورية وادّعاء صلاح أبو سيف قد حاول خلخلة الثوابت بتقديم حكاية يصبح الجنس فيها هو الغاية الأساسية، وتضمين هذا في سياق مجتمعي معادي للجنس خارج مؤسسة الزواج، يجعل من شفاعات (امرأة شبقة مثارة بطالب جامعي يصغرها) نموذجًا أكثر إثارة للاهتمام وأكثر تشجيعًا على التناول، وبشكل يستحق معه أن يستولي الجنس على الحكاية ويصبح هو المحرك الرئيسي للأحداث.
بمعنى آخر، فإن تقديم فيلما عن الجنس في مجتمع يمارسه خفاءً، ويصم نساءه بعدة وصمات أخلاقية إن أعلنّ ممارستهن له، يصنع حكاية تبدو مكتملة، وجديرة باقتناصها على شريط سينمائي في دور العرض، كما لو أن “أبو سيف” قد قرر مكاشفة مجتمعه ومواجهته بخباياه، وهو ما أنجح الفيلم لدرجة وصوله لمهرجان كان.

أما على الجانب الآخر، في “هوليوود”، فالجنس وحده غير كاف، وصناعة فيلمًا عن علاقة جنسية بين رجل وامرأة في مجتمع متصالح مع الجنس سلفًا لا يصنع حكاية قوية، لا يصنع حكاية من الأساس. من ثم، تحتّم تضمين الجنس في سياق أكبر ليصبح جزءًا من حكاية أشمل، فيتم النظر إليه باعتباره مجرد وسيلة لتلبية احتياجات أكبر لدى الشخصيات، فلا تصبح الحكاية عن نورما وغوايتها لجوي، ولكن لماذا قامت بإغواءه من الأساس.
“we didn’t need words, we had faces”
هكذا تقول “نورما” لجوي بينما تشاهد معه أحد أفلامها، نعرف أنها أحد أشهر نجمات السينما الصامتة، نعرف أيضًا معاناتها بسبب تراجع السينما الصامتة لصالح المنطوقة. وفي عالم قد قرّر أن يدعم المشاعر الإنسانية بأحرف وكلمات محكمة الصياغة، تواجه النجمة أفولًا ��سريًا، ترفضه بالمعاندة حينًا، وتحاول مجاراته حينًا آخر، للدرجة التي تدفعها للعب بالقواعد الجديدة وكتابة فيلمها الخاص وفي أثناء ذلك تفتن بجوي كاتب السيناريو الشاب، لا لقوته الجسدية أو لقوامه، وإنما لموهبته العصرية في صياغة الكلمات، وانتمائه لعصر تعجز هي عن التآلف معه.

على الناحية الأخرى، فالتركيز على الجنس وحده في شباب امرأة تسبّب في تسطيح الشخصيات إلى حد كبير، لا نعرف شيئا عن دوافع شفاعات الحقيقية أو احتياجاتها الإنسانية التي جذبتها لإمام، وبالإضافة لذلك، اعتماد “أبو سيف” المجاز والتأكيد على كونه يقدم فيلمًا محتواه الخطيئة، بدءا من تحذير الشباب في بداية الفيلم بجملة أبويّة النبرة على غرار “لو مسمعتش الكلام هتبقى زي إمام” ووصولًا للجوء للمجاز وتشبيهه بالبغل المغمى في فناء “شفاعات”، سواء بلغة الصورة أو بجمل شديدة المباشرة في الحوار نفسه، في تناصّ واضح مع أسطورة سيرسي التي تحول الرجال لخنازير، كل هذا قد أدى لخلق شخصيات نمطية تمتلك رغبات إلا أنها لا تمتلك أية دوافع حقيقية، كما لو أن جميع أبطال الفيلم بغال مغماة، تتبع تعليمات المخرج وتنفذ رغباته بلا أي داعي.
في sunset هناك دوافع حقيقية، تخلق بدورها رغبات، ويصبح الجنس مجرد وسيلة لتحقيقها. وهي عناصر لم تتوفّر في شباب امرأة رغم خصوبة الحكاية. ربما يصلح الجنس أن يكون غاية رئيسية في السينما، إلا أنه لا يغني عن أهمية وجود دوافع تجعل منه غاية مفهومة.
الانحياز للمجتمع أم لأفراده
بعد مرور أكثر من ثلثي زمن الفيلم، يجلس إمام لمنضدة صغيرة، ضامًا كلتا يديه لقدميه، بينما تقف شفاعات فوق رأسه مؤنبّة إياه لمحاولة التنصّل منها. يبدو على إمام الارتباك كأي تلميذ لم يقدِّم فروضه المدرسية، بينما يعرض لنا صلاح أبو سيف المشهد من منظور علوي، يسمح لنا من خلاله أن نكون في موقع الإله، نحديدًا، الإله المعترف به في المجتمعات المحافظة والذي يرى الجنس خطيئة إذا ما تم خارج الإطار الشرعي.
ربما لو جرّدنا علاقة شفاعات وإمام من ظروف نشأتها، وحاولنا تقييمها بمعزل عن سياقها المجتمعي الرافض لها، والرافض للجنس في العموم، لأصبحت علاقتهما مجرد علاقة طبيعية لشاب عشريني لا ينكر عليه أحد احتياجاته الجنسية ولا يرى فيها تعارض مع مسيرته الدراسية.
إلا أن ما حدث هو أن “صلاح أبو سيف” انصاع للمجتمع بدلا من الانحياز لشخصيات فيلمه، والمجتمع لا يحب الجنس، على الأقل منزوعًا من سياقه التشريعي المتعارف عليه. لابد إذن من تقديم شفاعات كدنس ونبت شيطاني وخطيئة، تعطّل إمام عن دراسته وتبعده بالطبع عن دينه.
الرسالة السابقة مرّرها “ابو سيف” من خلال ظهور شخصية “حسبو” معاون شفاعات في أعمالها. ربما يمكن تفسير حسبو في البداية أنه نبرة أخلاقية وعظية، إلا أن مع تكشف الأحداث نعرف أنه أحد عشاق شفاعات السابقين، نعرف أيضًا أنها تسببت في تخريب حياته، المصير ذاته الذي يهدد إمام لو لم يبتعد عن شفاعات.
“حسبو” ليس إلا دعامة لتشويه شفاعات، صحيفة أعمالها السيئة التي لابد من تقديمها كي يقبلها المجتمع على الشاشة. شفاعات تحب الجنس وتنصاع لرغباتها؟ لابد أن تقدم كشخص شرير بالمفهوم السطحي للشر، تغوي الرجال وتستهلكهم ثم تتخلص منهم وتلتفت لآخرين، يبدو الأمر كما لو أن محاولة أبو سيف للإفلات من وصاية المجتمع الأبوي قد أوقعته في فخ الانصياع له.
أما في Sunset Boulevard فصحيح أن الفيلم يقدم حكاية لعدة أفراد أيقونية تعبر عن المجتمع الأمريكي (فجميعهم يعملون بهوليوود) إلا أن المجتمع نفسه لم يكن له سلطة على الفيلم بأي شكل.
فمنذ البداية ينحاز المخرج بيلي وايلدر لأبطال فيلمه جميعًا، لا يحاول إرضاء المجتمع فلا يحشو السيناريو بمشاهد تعنى بتقديم شخصيات طيبة وأخرى شريرة بالمفهوم التقليدي وإنما يقدم بشرًا .. لهم نزعاتهم ودوافعهم، ولا تتعارض سقطاتهم الأخلاقية مع إنسانيتهم، وإيذائهم نتيجة ضعفهم لا أنانيتهم. يظهر ذلك من خلال “ماكس” المكافئ لـ “حسبو” في الفيلم.

نعرف أن ماكس زوج نورما السابق الذي يحبها لدرجة العمل كمدير منزلها، نعرف أيضًا أنه يحاول إسعاد قلبها لدرجة تزييف مئات الخطابات الأسبوعية من معجبين ليس لهم وجود، ولدرجة القبول بوجود عشيق جديد لنورما، لا يدفعه للهرب مثلما يفعل حسبو، بل يحثّه على البقاء، رغم علمه بشكل مسبق أن رغبات نورما لامتلاكه ستودي بحياته، إلا أنه يقبل لأن وجود جوي يعني سعادة نورما، حبيبته.
الأهم من ذلك، فإن وجود “ماكس” بحبه الخالص كان أساسيا في الكشف عن مكامن الخلل في علاقة جوي ونورما، والتي تقوم على تبادل المنفعة بشكل أساسي. هو إذن ليس مجرد عنصر إضافي تم الزجّ به في مسار الأحداث لإرضاء المشاهد بحكاية يقبلها، مثلما حدث في شباب امرأة، لكنه عنصر رئيسي في حكاية عن الضعف الإنساني.
لأن المجتمع يحب النهايات السعيدة
ينتهي كلا الفيلمين بالنهاية المنطقية لتسلسل الأحداث، فيمنح وايلدر شخصياته النهايات المنطقية، لا يلقي بالمسؤولية على كاهل شخص بعينه، لا يحاول الثأر للمجتمع ربما لأنه لا يضعه في حسبانه.
تقتل نورما جوي لتهديده بالرحيل عنها، تفعلها ثم تفقد عقلها تمامًا، يستحق جوي نهايته وهو بذلك لا يقدم كضحية وإنما كشخص طبيعي يتحمل عواقب اختياراته.
أما صلاح أبو سيف، فبعد عدد من المقدمات الموحية بالشر الكامن تحت بشرة شفاعات المثيرة، بيستمر في إرضاء المجتمع، بمنحها نهاية يستحقها الأشرار، فيثأر للمجتمع بقتل شفاعات، ويثأر لحسبو بأن يصبح هو قاتلها، وينجي إمام من شباك الأنثى الشريرة، مخففًا عن عاتقه مسؤولية تلك العلاقة التي يراها المجتمع آثمة.
نهاية كلاسيكية لا تختلف كثيرا عن نهايات حكايات الطفولة، إذ تموت الساحرة الشريرة ويتزوج الأبطال في سعادة. وفي ذلك إجحاف واضح لمسؤولية إمام، وتبرئة له من أي اختيار قد يصنفه المجتمع كسقطة أخلاقية، بعكس جوي، الذي استفاد من علاقته بنورما أكثر مما استفادت هي، فجاءت نهايته كأحد عواقب أفعاله.
الفرق الواضح بين الفيلمين هو المجتمع، ربما حاول أبو سيف في البداية أن يغرد خارج السرب بتقديم نموذج عادة ما يثير الخوف، أي الأنثى التي تستجيب لرغباتها، لكن محاولاته الإمساك بالعصا من منتصفها، ربما للنجاة من الرقابة المجتمعية التي هي أكثر شراسة من الرقابة الفنية، أدّت بوعي أو بدون للانصياع لأحكام المجتمع الأخلاقية وتقديم فيلم يشبه مجتمعه بدرجة كبيرة.
إذ يمكن لكل إمام ممارسة الجنس مع من تحلو له، طالما أن المخرج في النهاية سيجد وسيلة لتحميل أية “شفاعات” المسؤولية وحدها. ليس هذا فقط، بل سيوفّر له جنة “سلوى” التي تكافئه وتعوضه عن جحيم شفاعات.
ربما يشبه “شباب امرأة ” المجتمع الذي خرج من رحمه، إلا أن Sunset Boulevard بنهايته المثيرة للأسى أكثر شبهًا بالحياة. وهي، كما يبدو، لا تعد أي منا بنهاية سعيدة.