الحياة السريّة لـ “الحارس الشخصي”
قيس قاسم
كم تبدو الشخصية الرئيسية في فيلم “الحارس الشخصي” التي يلعبها الممثل “كيفن كوستنر” باهتة ومسطحة عند مشاهدتنا وثائقي المخرج “جارن هايمان” حول حياة الحراس الشخصيين والعالم الذي ينتمون إليه ومحاولته الجادة لرصدها من خلال قصص تتجاوز النظرة السطحية لمهنتهم، والتي تقترن عادة في ذهن الأمريكان بخاصة، بحُراس وحماة الشخصيات الفنية المشهورة، من مغنيين وممثلين إلى ما هو أبعد بكثير.
فعمل “الحارس الشخصي” كما يقدم أمامنا في Bodyguards: Secret Lives from the Watchtower يتجاوز ذلك “الترف” إلى المخاطرة المباشرة بالنفس، حين يتعلق الأمر بحماية شخصيات سياسية متنفذة وأخرى غنية أو مرافقة مسؤولين تولوا مهمات في مناطق خطيرة تشهد صراعات مسلحة، إلى حد يصبح معها طرح الأسئلة المحيرة حول خياراتهم المهنية مشروعًا ومنفتحًا على مقايسات نسبية يبقى العنصر الشخصي فيها قويًا يجاوره أيضًا العنصر الاجتماعي ويكون السياسي جزءًا مكملاً لها، وفي محاولة الإحاطة بها سنقف أمام معالجة سينمائية لـ”موضوع” حيوي لا يمر وقت دون أن نشاهد بعض مفرداته أمام أعيننا ولكن قلما ننتبه إليها أو حتى التفكير بـ”نماذجه” البشرية -الضخمة عادة- المدججة بالعضلات، المتحفزة واليّقظة طيلة الوقت، لدرجة تبعث الحذر بمجرد الاقتراب منها.
لكن وبعد معاينتها في فيلم “حراس شخصيون: حيوات سرية من برج المراقبة” سنُعيد النظر فيها ونلتفت إلى وجودها من منظور آخر تبلور عبر رحلة ممتعة، شجعتنا للمضي بها تعليقات الممثل “كيم كوتيس” اللاذعة والمؤثرة والمتناغمة مع مستوى كل قصة من قصصه المتناولة جانبًا ما من حياة الحراس الشخصيين ارتباطًا بالشخص “المَحمي” وطبيعة عمله.
اعتمد الكندي “جارن هايمان” على مبدأ الدخول إلى عمق البحر من الجرف. ابتدأ الغوص في عالم “الحراس الشخصيين” من مستوى منخفض ثم ذهب إلى الأعمق فالأشد عمقًا وظل يلاحقهم لدرجة تثير الإعجاب بجلادة بعض صناع الوثائقي. فلكي يخرج عملهم مقنعًا، لا يلامس السطوح فحسب، بل يغور في التفاصيل، يواظبون على الحضور ومتابعة موضوعهم بتروي، إدراكًا منهم بأن الملازمة الشديدة للشخصيات ومراقبة تفاعلها الحي مع المكان الذي يتواجدون فيه واحدة من عناصر تحقيق رؤيتهم. لهذا رأينا كيف نقل الوثائقي تجارب مختلفة المستوى من الحفلات الموسيقية الصاخبة إلى حماية السفراء في أفغانستان. ومن تجربة الشركات الأمنية السيئة خلال المرحلة الأولى من احتلال العراق إلى التجربة المشرقة لحراس القائد الجنوب أفريقي “نيلسون مانديلا” بعد نهاية نظام “الأبارتيد” وتوليه منصف رئيس البلاد.
تقسيم زمن الوثائقي لفصول سهل على صانعه العودة إلى كل حكاية من حكاياته أكثر من مرة ليشبعها بحثًا وإحاطة ويعطي لبطلها فرصة تذكرة جوانب ربما لم يتذكرها في البداية. وبذلك اتخذ الوثائقي لنفسه شكل السرد الروائي وما وجود “الراوي” سوى تعبير عن ذلك الاختيار، الذي وسع من مساحة العرض وقوى المتن الحكائي المشحون بالمشاهد واللقطات القريبة والقليل الاعتماد على التسجيلات الجاهزة. وبهذا اكتسب “أصالته” وقوته جاءت من قوة أبطاله وقدرتها على التعامل مع الكاميرا بأريحية لأن أكثريتهم سبق لهم العمل في أجواء تحيطها عادة عدسات المصورين الصحفيين من كل جانب. كما في حكاية الحارس الشخصي “أنتوني” وتجربته مع مغني الهيب هوب “كيرتس جيمس جاكسون” المشهور باسم “50 سنت”. من نوازعه التحليلية استخلاص نتيجة أو الإحاطة بشرط من شروط قبول الشخص حارسًا شخصيًا أو أن يصبح مشهورًا .
وفي قصة “أنتوني” الكثير منها. انتقاله من العمل في شركة حراسة شخصية إلى تأسيس شركة خاصة به، فرضت عليه التعامل مع الوسط الفني والذي ليس بالضرورة رومانسيًا دائماً. بل في أحيان قد يرتبط بشخصيات وصلت إلى منصة الشهرة، فيما تاريخها الشخصي مليء بالعنف وحتى التورط في ارتكاب جرائم. يحكي كيف تفرض عوالم هؤلاء المقرونة بالعنف والشهرة الفنية مراقبة حذرة ومشددة لاحتمال عودة ماضيهم أمامهم في لحظة من الزمن يكون خلالها موكل بحمايتهم وبالتالي قد يتعرض مشروعه وحياته أيضًا لخطر التعطيل، كما حدث مرة ودخل في معركة تبادل الخصوم فيها إطلاق النار وأصيب خلالها ببعض العيارات. عرضه لجسده يشير إلى وجود آثار رصاص كثيرة فيه وبفضلها اكتسب سمعته كحارس شجاع موثوق، فمن شروط العمل الناجح أن يصاب المرء بطلقات نارية!
في حكاية المغني الكندي “جوستن بيبر” وحارسه “ميكي أرانا” بعض الاختلاف لأن الأخير يميل إلى ترجيح العقل أكثر من القوة ويعتمد على فن القيادة للتحكم بفريق عمله والأجواء المحيطة بعروضه وجلها سلمية يغلب عليها الصخب فيما الخطر المحتمل فيها يأتي غالبًا من المراهقين المعجبين واندفاعهم القوي نحو “فنانهم” المفضل ويشكل له ذلك كابوسًا دائمًا يجبره على خلق توازن دقيق بين القوة والفن والانتباه على طول الخط للتوازن المفروض بين “الزبون” وبين “حارسه”. يتوقف الوثائقي عند العلاقة الملتبسة تلك فبينما يؤدي الحارس دوره يتعامل المحروس معه كشخص يؤدي واجبه. في حين تفرض العشرة المتواصلة والتواجد المستمر سوية نوع من الصداقة يجهد الحراس في ضبط حدودها ومن شروط نجاح الحارس قدرته على التحكم بمشاعره وتغليب الوظيفي على الإنساني فيها ومن جهة أخرى على المحروس ضبط فرحته بجمهوره فأي تسامح منه قد يؤدي إلى كارثة وأتعاب يتحمل الحارس وزرها.
علاقات نفسية ومصالح متداخلة ومتضاربة يتوقف الوثائقي عندها كثيرًا من خلال تجارب بعض الحراس مع محروسيهم أو مكلفيهم تعطي انطباعًا بـ “فجاجة” المهنة على المستويين الجسدي والنفسي وتضع حقائق محزنة أمام المتابع لسلوك وتضحيات الحارس والفتور المستقَبل له في الغالب. وفي حال حدوث العكس ونشأت علاقات صداقة فالضوابط الشديدة تفرض عليها قواعد عمل تُبقي الحدود واضحة لا يُسمح بتجاوزها إلى الإنساني السوي.
من عالم مفرح صاخب إلى عالم معتم وقاس ينتقل الوثائقي بسهولة لافتة وكأنه قد حَضَرنا له مسبقًا وإلى هذه الناحية لا بد من الإشارة إلى أن انتقالات الوثائقي المكانية والزمانية لم تخل بتوازنه وانسيابته بل مرت كلها في نسق سهل ومرن وفرت متعة بصرية لا يمكن تجاهلها. فـ “الحراس الشخصيون” ينتمي إلى فئة الوثائقي الجامع بين “غرابة” الموضوع وجمال معالجته بصريًا.
وما دمنا في التقييم فلا بد من التوقف عند الحاجة وتكريسه وقتًا أكثر من المطلوب لتجربة الحارس الشخصي للمجرم الشهير “وويتي بولجر” دون تقديم مبررات كافية لاختيارها ضمن قصصه. صحيح أنها تتعلق بفكرة الإخلاص والخيبة والتورط في عالم الجريمة دون رغبة صاحبها، فإن قصة الحارس الشخصي “كين وويكز” انحرفت عن مسارها وجرى التركيز من خلالها على جرائم “بولجر” الفظيعة دون أن تغني متن الوثائقي الحكائي كثيرًا، في الوقت الذي مر سريعًا على قصص نساء مهنتهن “الحراسة الشخصية” مثل الرجال وكانت الحاجة للتعمق في تفاصيلها ضروريًا.
بعدها يدخل الوثائقي إلى مياه أعمق عبر قصة شريكين أسسا شركة حماية للشخصيات السياسية المتواجدة في مناطق الحروب. جاءا -الكولمبي الأصل “شامير بوليفار” والنيويوركي “تايرون كورنيل”- من عوائل فقيرة ووجدوا في الخدمة العسكرية مصدرًا للرزق. وبعد سنوات من العمل فيها شرعا في الاعتماد على نفسيهما. أحدهم ذهب إلى العراق في مهمة لحماية السفير الأمريكي وهناك سيعيش تجربة الشركة الأمنية “بلاك ووتر” السيئة السمعة. كُلف بالعمل والتنسيق معها ورأى بأم عينيه ما لحق بالجنود الأمريكان من إذلال وخسارات طالته بعضها وتركت آثارًا على جسده وحسرة في نفسه على تلوث سمعته. في حين رسخت تجربة زميله في أفغانستان قناعته بعدم الثقة بالأشخاص في مناطق الحروب.
فالخوف دفعه مرة لقتل رجل، يشعر حتى اللحظة بثقل فعلته. من تجارب الحماة الشخصيين في العراق وأفغانستان الكثير من العبر والاشتراطات من بين أشدها وقعًا على الحراس النظر إلى عملهم كـ “مرتزقة” يبحثون عن المال والمغامرة!
أما على المستوى المهني فالعمل في “المنطقة الرمادية” يتطلب كفاءة ليست من السهولة توفرها في زمن الحرب حيث الخوف يدفع الواقفين فيها إلى الخروج منها عند إحساسهم بالخطر نحو مناطق “حمراء” يُضَيّعون أنفسهم وإنسانيتهم فيها. على عكس تجربة أخرى يساعد القائد السياسي الفذ والمناضل الجنوب أفريقي “نيلسون مانديلا” على تحقيقها ويقوم العضو السابق في “فرع الأمن الخاص” في سردها. نشأ الرجل الأبيض على كراهية السود في ظل حكم عنصري انتمى إليه بالكامل، وحين خرج مانديلا من سجنه وتولى حكم البلاد أصر على أن تكون حمايته الشخصية من الجانبين؛ البيض والسود. لم يصدق المتغذي عقله بأحكام مسبقة تُعامل كل المناضلين السود “إرهابيين” أن رئيسًا منهم يمنحه الثقة ويخاطر بحياته بتعينه واحدًا من فريق حمايته الخاصة. حتى بقية الحراس السود لم يتقبلوا الفكرة.
هدف مانديلا منها تقديم نموذج نادر لصورة قائد بلاد أرادها أن تكون جديدة، الشخص فيها مهما كان لونه وعرقه يولي مهنته حيادية تضع مصلحة جنوب أفريقيا فوق مصالحه الشخصية وأفكاره. سيحكي المنتمي السابق إلى أشد أجهزة الأمن العنصرية قسوة كيف أثرت التجربة فيه وغيرته بالكامل وكيف صنعت منه الحراسة الشخصية إنسانًا جيدًا يقوم بما تتطلبه اشتراطات الدولة الجديدة على مواطنيها كلهم.
العودة إلى “أنتوني” تلخص موقفًا عامًا من المهنة رغم خصوصيتها. شكا كثيرًا من “سجنه”. فعمله كحارس شخصي حرمه من خصوصيته وكرس كل وقته لشخص آخر يلازمه كظله، ويتفاعل مع متع الحياة ومبهاجها من خلاله. لا يتذكر الحارس متى احتفل آخر مرة بأعياد الميلاد ومتى سيكوّن أسرة مثل باقي الرجال. المال الذي جمعه اكتشف بعد تجربة طويلة أن لا معنى كبير له ما دام وجوده مرهون بالشخصية التي يحميها لا بذاته. بعد كل تلك السنوات، يتمنى لو عاد الزمن ثانية كي يتمكن من اختيار مهنة أخرى غير الحراسة الشخصية. وكنادم على عمر أضاعه ينصح الشباب بإكمال دراستهم والحصول على عمل أقل خطورة لا يلغي وجوده ككائن مستقل ولا يغيبه في ظل كائن آخر عنده سلطة ويريد أحدً يحميها له!