صانع الرئيس في حربه ضد العالم!

قيس قاسم

تربك تصريحات الرئيس ترامب وسياساته المثيرة للجدل المشهد السياسي الأمريكي، وبدا وفقها في نظر العالم رجلاً غريباً، كلماته تُشيع الفوضى في كل مكان وسلوكه يحدث شرخاً كبيراً في صورة مؤسسة تقع على عاتقها مسؤوليات خطيرة، خفة التعامل معها لا تتوافق أبداً مع ثقلها الدولي!. ربما يكون هذا الانطباع العام الغريب، الذي تَرسخ في أذهان الناس عن الرئيس الجديد منذ ظهوره خلال الحملات الانتخابية حتى تلقده المنصب الأرفع في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن المخرج الأمريكي الألمعي “مايكل كريك” صاحب التحف السينمائية من بينها؛ “الولايات المُنقسمة الأمريكية” يذهب في فيلمه الجديد Bannon’s war إلى تحليل سلوكه ومواقفه من خلال بحثه الرصين في شخصية مساعده الاستراتيجي الأول “ستيف بانون” ومن خلال محاولة رسم “بورتريه” شخصي ل”صانع الرئيس” كما يسميه رجال الإعلام، سيسهم ومساعده “مايك ويسر” تقديم منظور سينمائي مختلف يساعد على تصحيح الانطباع الشكلي عن الرئيس، بإحالتهما سلوكه ومواقفه إلى جوهر سياسة، تعبر بالكامل عن أفكاره وتصوراته عن العالم وتتوافق بدورها مع رؤية رجل آخر طالما “قاتل” لتحقيقها على الأرض. سياسة تعتمد الفوضى منهجاً وزعزعة الاستقرار وسيلة، كما أحال خبراء واعلاميون ومستشارون أمريكان، جلهم من المقربين من مواقع اتخاذ القرار، تصرفاته إلى أيدولوجية تعتمد في تكتيكاتها لتحقيق أهدافها النهائية على احداث هزات عنيفة في المجتمعات والدول واشاعة فوضى تربك الخصوم وتفكك المؤسسات التقليدية. ف”الرجل جاء إلى المدينة ليهز أركانها!” بالضبط كما خطط الاستراتيجي والاقتصادي والسينمائي “ستيف بانون” لحربه ضد العالم!.

زيارته للبنتاغون في أول يوم عمل له أُعتبرت الخطوة الأولى الخارجة عن السياق التلقيدي للادارة وتشي بجلاء توجهه الجديد، كونه الرئيس الأمريكي الوحيد، الذي عملها ودخل بصحبة مساعده الاستراتيجي على عجل ليملي على مسؤوليها سياسته الجديدة دون علم ادارته ووزرائه بخطوطها الرئيسة: محاربة “الإرهاب” الاسلامي ومنع دخول بعض مواطني دول عربية واسلامية الأراضي الأمريكية وتقليص فرص الهجرة اليها إلى أقصى درجة. خطوات صيغت بعبارات كتبها “ستيف بانون” بنفسه وكان يعرف مسبقاً أنها ستثير حفيظة قطاعات من الرأي العام الأمريكي ضدها، وهذا ما أراده بالضبط. أعلنوها يوم الجمعة بتعمد حتى يتاح لأكبر عدد من الناس الخروج في أيام العطل التي تليها احتجاجاً. هذه واحدة من التكتيكات المراد بها تحقيق استراتيجيات في وضح النهار كما تشير بحوث الوثائقي التمهيدية قبل الدخول إلى عمق متنه. كان الهدف من احداث الهزة ايصال رسالة لمؤيدية وناخبيه بأن الرئيس يفعل ما وعدهم به، وثانياً اخضاع الليبراليين لواقع جديد والتذكير ثالثاً بشعار رنان طالما حلم به راسم الاستراتيجية الجديدة؛ أمريكا تعود ثانية دولة عظمى!. لعرض بعض أفكار “بانون” وقبل الشروع بملاحقة مسار حياته يقدم الوثائقي شريط فيديو نادر يظهر فيه مخاطباً عبر “السكايب” وفود حضرت مؤتمر للفاتيكان قبل سنوات. ركز فيه على الخطر الإسلامي القادم، وتهديده المباشر للمسيحية واليهودية. وصف الصراع بينهما على أنه صراع حضارات موجه بالأساس ضد الغرب “المتأزم” بسب سياساته المتساهلة وتوقع أن يأخذ شكلاً أكثر عنفاً بعد تسيّد التطرف الديني البيئات الإسلامية المعاصرة!.

من بوابتين سيدخل الوثائقي، المزدحم بالتفاصيل والمعلومات الدقيقة والجديدة في إطار موضوعه الرئيس، الذي يعتمد كما في بقية أفلام “كيرك” على أسلوب سردي متفرد قلة من المخرجين قادرين على تحقيقة بذات المستوى الرفيع فنياً وفكرياً، للتعرف على خلفية الصورة المتشكلة في ذهنه عن العالم؛ الأولى نشأته في بيئة محافظة وقاسية وثانيهما سينمائية منجزه فيها شديد الارتباط بأفكاره ومواقفه باعتباره واحداً من الذين دخلوا عالم هوليوود من بوابة المال ثم هجروها إلى السياسة.

 في ولاية فرجينيا المحافظة وفي بيت عائلته عمالية كاثوليكية أيرلندية الأصول تغذى عقله على الصرامة وحب القسوة تجسدت في سنوات نضجه بانضمامه متطوعاً إلى صفوف البحرية الأمريكية.

وقت نشوب “أزمة الرهائن” في إيران كان على متن سفينة أشرفت قيادتها على عملية تحرير رهائن السفارة. فشلها أشعره بالاحباط وأشبعت الخيبة ذهنه بكراهية المنطقة وسكانها. رجوعه من المياه الدافئة محبطاً دفعه لدراسة الأقتصاد وبعد تخرجه عمل في بنك “غولدن ساكس”. خلال فترة قصيرة صار واحداً من ألمع الاستشاريين الماليين كما حقق أرباحاً كبيرة في البورصة ومضارباتها وبدلاً من تكريس طاقته في ذلك الحقل الواعد اتجه على غير المتوقع إلى هوليوود لينتج أفلاماً ويخرج بعضها. ولأنه حقل أفكار توقف الوثائقي عنده طويلاً وبمساعدة نقاد كبار راح يحلل ويفكك نصوصه الوثائقية وأبرزها فيلمه عن الرئيس الأمريكي ريغان. لم يخفِ إعجابه بأفكاره وشخصيته كما لم يتأخر في استغلاله السينما وسيلة للتعبير عن كراهيته للعرب والمسلمين وليمرر عبرها أيضاً رؤيته المتشائمة للعالم مستغلاً أحداث 11 سبتمبر للبرهنة على صحتها وزيادة قناعته بضرورة المشاركة في حرب “عالمية” تجري بين التمدن والتوحش. في خاتمة أحد أفلامه يستخدم تعبير “التوحش” إلى جانب تعابير أخرى مثل “”بشاعة” “كراهية” وكلها يمكن من خلالها الدخول إلى قلوب الناس البسطاء. سيعزز حبه للاطلاع والمطالعة على تشكيل تصور ذهني كامل عن العالم الذي يريده ويعمل ك”مقاتل” فيه، وسيزيد تعرفه على “بريتبارت” اليميني وصاحب الطموح الكبير في حقل الاعلام على تعزيز قناعته بصحة تصوراته وألمعية أفكاره. بعد وفاته تولى هو مسؤولية ادراة موقع “بريتبارت” الشعبوي وسيتحول على يديه إلى أعلى الأبواق المنادية بالشعبوية الجديدة، المعبرة عن مصالح اليمين الأمريكي المتشدد.

يطل من خلال الموقع وجه “ترامب” كونه من أشد المعجبين به والمثابرين على قراءته فيما سيجد “بانون” فيه المقاتل، الذي طالما حلم بالوصول من خلاله إلى مبتغاه في تدمير “المؤسساتية” التقليدية واحداث تغيير راديكالي في واشطن لم تعرفه من قبل. مقالات الموقع صارت لسان حال ترامب وصارت معلوماته وفضائحياته السياسية مصدر ثقافته الأرئس. يقتبس منه تعابيره السياسية ويفسر الأحداث وفق تحليلات محرريه. يتوقف الوثائقي عند نطرية “العبارات” التي راهن عليها “بانون” كثيراً وآمن بقوة تأثيرها وقدرتها على تحريك الجماهير البسيطة. قاموسه سيصبح مرجعاً لوسائل اعلام كثيرة ومقولاته سيرددها ساسة يمينيون في مناسبة أو من دونها.

على عادته لم يغفل “كيرك” جانباً مهماً من جوانب احاطته برسم شخصياته وثائقياً فيذهب هذه المرة إلى تشبيهه بشخصية “توماس كرومويل” في بلاط ملوك بريطانيا ودوره في ادارة سياسة الملك هنري السابع خلف الستار، حين يتوقف عند لحظة انسحاب المرشحة اليمينية “سارة بالين” من الحملة الانتخابية للوصول إلى البيت الأبيض، وكيف أشعرته بخيبة أمل كبيرة. انسحاب “حصان طروادة” من السباق بدد رهاناً عليها وضيع وقتاً شحن خلاله الرأي العام لدعم “مقاتلة شجاعة” في جيش الحرب على الإرهاب. بعدها صار من المنطقي التوجه إلى “حصان” جامح آخر وجده محصناً في نيويورك بترسانته المالية الضخمة وبطموح شديد في أن يصبح يوماً رئيساً لأعظم دولة في العالم. تقاربهما السريع أوصل “بانون” إلى “الدائرة الضيقة” للمليادير وسيكلفه، بعدما وجد فيه ما كان يبحث عنه طويلاً، بادارة استراتيجيات حملته الانتخابية. أراد “المُنظر” لعب دور صانع الملوك الخفي وأعجب سلوكه هذا السياسي القادم من عالم المال والذي من خصاله الأبرز كراهيته الظهور أمام العامة بحاجة أحد مهما كان. جَمعَهم شعار “أمريكا أولاً” واستغلالهما “السذاجة” على المستوى المحلي. فقد كانا على قناعة بأن الشعب الأمريكي ساذج ويمكن بسهولة التأثير عليه عبر الدعاية المركزة والتوجه نحو المشاعر لا العقول لاشاعة نوع من الشعبوية الجديدة تتوافق منطلقاتها مع قناعتهما الفكرية.

سيتفرغ المستشار الطموح لكتابة خطب الرئيس القادم وسيردد الأخير تعابير لا يقولها سوى “بانون” نفسه، ويلتزم بالكامل بخطط وضعها له، تدعو إلى اظهار مزيد من “العدائية” مع الخصوم وعدم احترام قواعد العمل الحزبي والسياسي التقليدي ليظهر أمام الشعب الأمريكي وكأنه واحد منه تحركه حماسته ووطنيته لا حساباته الحزبية الضيقة. مراجعة تكتيكات المستشار تشير إلى أسباب نجاح “ترامب” في الوصول إلى دفة الحكم، وحرصه على تشكيل فريق من الخبراء المشهود لهم بيمينيتهم وكراهيتهم للإسلام لاحاطته ونصحه بإحداث المزيد من الهزات والارتجاجات على مستوى السياستين الداخلية والخارجية والتنقل السريع من موقف إلى أخر، فعبر هذه الوسيلة فقط يمكنه تحقيق أهدافه وتجسيد تصوراته عن العالم الذي يريد تشييده. قوة نفوذ المستشار تجليها، كما يظهر في مسار الوثائقي المتماسك والغني في بحثه وتوسيع مساحات معالجاته الفكرية والدرامية ورسمه الدقيق لملامح شخصية شديدة الارتباط بما يشهده عالمنا من تحولات، لأمريكا النصيب الأكبر فيها، صموده أمام وسائل الاعلام الأمريكية وخروجه منتصراً في صراعه مع المقربين من عائلة ترامب الراغبين في ابعاده. أظهرته الصحف وكأنه الرئيس الفعلي للبلاد وعلى غير عادة رجل مال طموح برغماتي بامتياز يزيح كل من يقف في طريقة أو يحاول خطف الأضواء منه، صَبَر عليه وأبقاه قريباً منه حتى اللحظة، لأنه ليس من السهل عليه ايجاد شخص آخر تتوافق رؤيته الخاصة للعالم وتنسجم طريقة عمله إلى حد كبير مع أسلوبه الخاص. فالإثنان من طينة واحدة ينتميان إلى مدرسة سياسية شعبوية تختبر اليوم تطبيقات نظريتها “الاهتزازية” على العالم في انتظار جني ثمارها.


إعلان