“نابالم” من دون نابالم!
أمير العمري
ضمن قسم “العروض الخاصة”- في مهرجان كان السينمائي الأخير، عرض الفيلم التسجيلي الفرنسي “نابالم” Napalm (100 دقيقة) إخراج كلود لانزمان الذي عرف بفيلمه التسجيلي الطويل “شوا” Shoah (9 ساعات) عن الهولوكوست الذي عرض عام 1985 وأحدث ضجة كبيرة، وقوبل بقدر كبير من التهليل في الصحافة الأوروبية والفرنسية بوجه خاص، باعتباره كشفا جديدا في مجال “الوثائقي”.
لم يكن “شوا” فيلما موضوعيا بل “قصديا”، أي فيلم مصنوع من وجهة نظر مسبقة تريد أن تفرض رؤية أحادية في تناول تلك الفترة المظلمة في التاريخ الأوروبي، فقد كان لانزمان يصور في فيلمه ما وقع لليهود على أيدي الألمان النازيين باعتباره حدثا فريدا خارقا في التاريخ، معزولا عن السياق العام لمسلسل التصفيات والقتل في إطار صراع دولي شامل، كما كان يزعم أن ما تعرض له اليهود الأوروبيون، لم يتعرض له غيرهم، وبالتالي تصبح “المعاناة” اليهودية في معسكرات الاعتقال الألمانية ثم ما يقال عن “الإبادة الجماعية” في “غرف الغاز” الأسطورية، التي لم يثبت وجودها علميا حتى يومنا هذا، مأساة فريدة خاصة تتميز بنوع من القداسة (ومن هنا استخدام كلمة هولوكوست اليونانية التي تعني القربان المقدس الذي يحرق كاملا تقربا من الإله) ومع ذلك تعتمد نظرية الإبادة على شهادات شهود من البشر كشفت المراجعات التاريخية زيف الكثير منها، لكن هذه الشهادات تظل الأساس الفكري لفيلم لانزمان الإشكالي.

لانزمان الذي تحول من صحفي كان يرأس تحرير مجلة “العصور الحديثة” الفكرية التي كان يكتب فيها سارتر وسيمون دي بوفوار في ستينيات القرن الماضي تحول إلى السينما في الثمانينيات، وآثر أن يتناول في أفلامه التسجيلية ما يسميه “الذاكرة اليهودية” باعتباره صهيونيا مخلصا، بل إن فيلمه “تساهال” السئ السمعة عن الجيش الإسرائيلي كان محاولة لتبرير الممارسات الإجرامية التي يقوم بها هذا الجيش في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ تأسيس إسرائيل حتى يومنا هذا.
يعود لانزمان إلى مهرجان كان الذي سبق أن شارك فيه ست مرات، بفيلم “نابالم” ولكن من خلال موضوع بعيد للمرة الأولى عن اليهود والهولوكوست وإسرائيل، فقد صوره في بيونغ يانغ عاصمة كوريا الشمالية، في مغامرة كان يمكن لها أن تثمر فيلما مختلفا جريئا وجديدا في مادته لو أن لانزمان استطاع أن يقدم لنا من زاوية جديدة، ما لا نعرفه عن ذلك “الكيان” الغريب وما يكمن في داخله، مستخدما طريقته الشهيرة في الخداع والتضليل كما سبق أن فعل وهو يجري مقابلات “سرية” مع بعض المسؤولين السابقين في الإدارة البيروقراطية النازية في “شوا”. لكن لانزمان يبدأ أولا من “المدينة المحرمة” الشهيرة في العاصمة الصينية بكين، لكي يقول لنا إنه مازال ينتظر الحصول على تصريح بدخول كوريا الشمالية التي شاء العودة إليها بعد زيارته الأولى لها في عام 1958 أي بعد نحو ستين عاما، ثم الزيارة الثانية القصيرة التي قام بها في عام 2004. ولانزمان في الحادية والتسعين من عمره، وهو يظهر تقريبا في كل مشاهد فيلمه، يتوكأ على عصا، بعد أن أصبح كهلا، مترهلا، يتحدث ويروي ويعلق على الصور بصوته الخشن، من أمام أو وراء الكاميرا. في المشهد الأول تقتنص مصورة الفيلم كارولين شامبتييه، لقطات من السيارة لمعالم مدينة بيونغ يانغ الحديثة التي أصبحت تمتلئ بناطحات السحاب والبنايات العملاقة الضخمة المشيدة على الطريقة الأمريكية، لكي تقول للعالم إن أبناء كوريا الشمالية يهزمون الحصار، وإن لديهم القدرة على العمل والبناء. وفي لقطات من الأرشيف يعود لانزمان إلى الحرب الكورية (التي استمرت ثلاث سنوات -1950- 1953) وكانت في الحقيقة حربا بين السوفيت والصينيين من ناحية، والأمريكيين من ناحية أخرى، على أرض شبه الجزيرة الكورية، وانتهت كما هو معروف بتقسيم كوريا إلى دولتين متنازعتين حتى يومنا هذا.
في هذه اللقطات القديمة المصورة بالأبيض والأسود، ومنها لقطات كثيرة تم التقاطها من الطائرات الحربية الأمريكية، نشاهد معالم الدمار الهائل الذي حل بالمدينة، ويقول لانزمان إن الهدف كان تدميرها بالكامل، وإن القصف أدى إلى قتل أربعة ملايين نسمة، وبعد التقسيم أعاد الكوريون الشماليون تحت قيادة كيم إيل سونغ بناء العاصمة، لكنها أصبحت مدينة شبه خالية مترامية الأطراف، لا يمكن للمرء فيها سوى أن يستخدم الوسيلة الأولية في الانتقال أي المشي لمسافات طويلة مرهقة للغاية.

رحلة لانزمان إلى بيونغ يانغ رحلة منظمة متفق عليها مع السلطات، وهو يتجول في أماكن محددة مصحوبا طوال الوقت بمرافق حكومي يمسك بذراعه، ويحاول لانزمان الإفلات منه أمام الكاميرا أكثر من مرة، كما يداعبه مرات أخرى، لكن المرافق صامت تماما، مبتسم دائما. يأخذونه لزيارة متحف حربي يعرض بعض بقايا الطائرات الأمريكية التي أسقطتها قوات الدفاع الجوي والدبابات التي تم الاستيلاء عليها حيث تشرح له فتاة كورية برتبة رائد ترتدي الزي العسكري، تاريخ النزاع وتفاصيل المواد والأشياء المعروضة بدقة شديدة وبالتواريخ، بلغة إنجليزية سليمة، بحيث لا يملك لانزمان سوى التعبير عن إعجابه الشخصي بذكاء وقوة ذاكرة هذه الفتاة التي تؤدي بالطبع مهمتها التي دربت عليها والمكلفة بها من قبل السلطات.
وهي تقول له إن الأمريكيين أسقطوا فوق بيونغ يانغ وحدها 480 ألف قنبلة، بينما كان عدد السكان 400 ألف نسمة، أي أن نصيب الفرد أكثر من قنبلة واحدة، وتضيف أنهم ألقوا أيضا اثنين وثلاثين مليون لتر من النابالم، لكن قصة النابالم الذي اتخذه لانزمان عنوانا لفيلمه ستتضح أكثر في النصف الثاني من الفيلم.
يقوم لانزمان بزيارة وتصوير المكان الأثير الواقع فوق قمة جبل حيث يرتفع تمثالا الزعيمين كيم إيل سونغ مؤسس الدولة وابنه الذي خلفه كيم يونغ إيل، حيث نرى كيف تحول المكان إلى شبه مزار إجباري بعد أن أصبح مفروضا على كل عروسين في يوم زفافهما المجئ إلى هذا المكان (الذي اكتسب قدسية خاصة!) لوضع أكاليل الزهور تحت قدمي تمثالي الزعيمين كما نرى في اللقطات!

لقد غطى لانزمان على هدفه الحقيقي من زيارة كوريا الشمالية هذه المرة بزعم أنه جاء لتصوير فيلم عن رياضة التايكوندو. لذلك يأخذونه إلى ناد متخصص في هذه الرياضة لكي يصور كيف تمارس فتاة كورية أقرب ما تكون إلى “الطفلة المعجزة” هذه الرياضة ضد عدد من الرجال الأشداء وتقهرهم جميعا ببراعة شديدة!
وفي الجزء الثاني من الفيلم ينتقل لانزمان لكي يتوقف أمام تجربته الشخصية خلال زيارته الأولى لكوريا الشمالية عام 1958 فيروي كيف أنه قام بزيارة البلاد ضمن وفد من الحزب الشيوعي الفرنسي للتعبير عن تضامنهم مع النظام الشيوعي القائم هناك، ويتحدث عن الفندق الذي نزلوا فيه، وكيف كانت شوارع المدينة مدمرة، ولم يكن هناك وقتها سوى شارع واحد عريض ممهد خال تماما، شق خصيصا لكي يمر منه الأجانب أو أعضاء البعثات الدبلوماسية، ويستخدم لانزمان في هذا القسم الكثير من الصور الفوتوغرافية الثابتة التي يظهر فيها مع زملائه الفرنسيين.
أما ما يستولي على معظم القسم الثاني من الفيلم فهي القصة التي يرويها لانزمان بصوته مدعومة بصور من بيونع يانغ في الزمن الحاضر، للطرق والجسور التي يقطعها سيرا مع مرافقه الكوري. فهو يروي كيف نصحه الطبيب في فرنسا قبل سفره إلى كوريا عام 1958، بضرورة تعاطي حقنة يوميا من فيتامين ب، كنوع من الوقاية، وقد طلب من السلطات الكورية إرسال شخص متخصص يمكنه حقنه بالفيتامين لمدة أسبوع، فأرسلوا له ممرضة كورية شابة شديدة الجمال كما يروي، جاءت أولا في صحبة ستة أشخاص لكنه قال لهم إنه لا يستطيع أن يعري مؤخرته للحقن أمام هؤلاء الأشخاص، فتراجعوا قليلا إلى الوراء، ثم أصبحوا ينقصون واحدا كل يوم إلى أن انتهى الأمر بوجوده مع الفتاة بمفردهما. ويمضي ليروي كيف أنه وقع تقريبا في حب تلك الفتاة- كيم كوم سون- وأراد أن يقابلها في الخارج وأنها جاءت لتقابله في هذا المكان الذي يقف فيه اليوم عند مدخل الجسر في مجازفة كبيرة من ناحيتها بسبب حظر الاختلاط مع الأجانب، ثم كيف قاما بنزهة معا في قارب في النهر، ثم كيف حاول إدخالها إلى الفندق ولكن وقع ما لم يكن في الحسبان، فاضطر لإخراجها وتهريبها بعيدا عن أيدي رجال الأمن الذين تم استدعاؤهم للفندق، واصطحبها إلى الخارج حيث قام بتوصيلها حتى باب المستشفى الذي كانت تعمل وتقيم فيه في مغامرة يعتبرها خارقة في ذلك الزمان وفي ظل تلك الظروف.

يتذكر لانزمان كيف أن الفتاة وكانت تتبادل معه الحديث بالإشارات أي دون وجود أي لغة مشتركة بينهما، قامت بالكشف عن جزء من جسدها أمامه لتريه أثر الحرق الذي أصابها من النابالم. وكيف أنه لم ينس قط هذا المنظر.
فيلم لانزمان فيلم شخصي تماما، يكتفي بالتوقف طويلا أمام ذكريات المخرج في شبابه عندما كان قلبه يهفو لإقامة علاقة عاطفية مع فتاة لا تتحدث لغته، شعر أنها ترغب في التواصل معه لكنها عاجزة بسبب الظروف المفروضة على العلاقات بين الكوريين والأجانب، وكيف أنه أصر على العودة بعد نحو ستين عاما، لكي يتذكر ويروي تفاصيل كثيرة، زائدة عن الفيلم تفقده إيقاعه تماما وتخرجه عن فكرة “اعادة اكتشاف” بيونغ يانغ بعد كل هذا الغياب الطويل، وتقلصه إلى مجرد لقطات عامة لبعض المناظر الخارجية التي يحتل فيها لانزمان نفسه المساحة الأكبر في لقطات كلوز أب قريبة لوجهه وهو يروي ويجاهد لكي يتذكر، ثم يشرح ويستطرد، مع غياب فادح للصور وفقر شديد في المادة السينمائية، واختلال في المونتاج الذي يعجز عن الإحاطة بالمكان.
يقول لانزمان إن قصة الممرضة الكورية (كيم كون سون) ظلت في ذاكرته منذ ذلك الحين، وكلما كان يرويها على أصدقائه كانوا ينصحونه بأن يصورها في فيلم تسجيلي. لكن المشكلة أن لانزمان لا يمتلك سوى صورة غامضة قديمة لمحبوبته الغائبة التي لا يعرف مصيرها اليوم، وإن كان ينهي فيلمه بالكشف عن أنه تلقى منها بعد عودته إلى فرنسا قبل 58 عاما، بطاقة بريدية عليها كلمات تعبر عن امتنانها له.