مغربية مُهددة بالقتل في فرنسا

محمد موسى

لم يكن يدور في خلد المخرجين البلجيكيين فينسنت كوين وغيلوم فاندنبرغيان أن زينب، الفتاة المغربية التي بدءا بتتبع حياتها في المغرب منذ عام 2011 وعندما كانت ناشطة في منظمات المجتمع المدني في بلدها، ستتحول في غضون سنوات قليلة إلى اسم معروف في فرنسا، وسيرتبط اسمها بالمجلة الكاريكاتورية الفرنسية الجدليّة “شارلي ايبدو”، التي عملت فيها ككاتبة، وستنجو من العملية الإرهابية التي استهدفت المجلة في السابع من شهر يناير عام 2015. بيد أن التجربة المروعة تلك التي خلفت عشرة قتلى ستكون المقدمة فقط للكابوس الذي يُطبق اليوم على حياة زينب، فهي مهددة بالقتل من مجهولين، وتعيش منذ سنوات تحت حراسة الأمن الفرنسي المُشددة.

عندما غرد أحدهم بعد حادثة شارلي ايبدو ومن على موقع تويتر للرسائل القصيرة بهاشتاغ: “اقتلوا زينب”، قام ما يقارب 6000 مشترك في موقع التواصل الاجتماعي ذاك بإعادة إرسال التغريدة تلك للترويج لها. هذا يلخص وإلى حد ما مناخ الكره والانتقام الذي أحاط بزينب بعد العمل الإرهابي. زينب أيضاً ليست شخصية عادية، فهي غاضبة وصدامية، متسرعة وانفعالية، أعلنت عن إلحادها في مجتمع إسلامي متدين، واختارت عن يقين دخول معارك مع التيار السلفي والمتشدد في بلدها وبعدها في فرنسا، وتحولت إلى أحد الوجوه الإشكاليّة في الإعلام الفرنسي، تُهيج طلاتها عليه الكثير من ردود الأفعال الغاضبة، والتي تحولت في السنوات الأخيرة إلى دعوات بالقتل.

تواجه أشباح الماضي، خائفة مما يحمله المستقبل

يجمع المخرجان ما يمكن أن يعتبر سيرة أولى لزينب في فيلمهما التسجيلي القاتم “لا شيء مُغتفر”، إذ مازالت شخصيتهما الرئيسية في خضم ظروف ذاتية وعامة عاصفة ومتقلبة، وتنذر حياتها بتحولات جديدة ربما تكون أكثر تطرفاً مما مرَّت به الشخصية لليوم. ستهيمن حادثة شارلي ايبدو على معظم زمن الفيلم، وعبرها – بما تنطوي عليه من تطرف وقساوة – سيحاول العمل التسجيلي العودة وتحليل الظروف التي أتت منها الشخصية الرئيسية، والطريق الذي قادها لأن تكون في الصف الأول لمعركة طويلة وغير واضحة المعالم مع التفسيرات المتشددة للنصوص الإسلامية المقدسة، وعلاقة هذه التفسيرات بالعنف والعمليات الإرهابية التي تهيمن على العالم اليوم.

يبدأ الفيلم بمشهد كبير الدلالة ويلخص وإلى حدود كبيرة الشخصية العنيدة والتصادمية لزينب، إذ تصورها الكاميرات من الخلف وهي تسير عكس اتجاه سير مجموعة كبيرة من المغاربة في شارع حي في الدار البيضاء، حيث ولدت ونشأت الشابة المغربية المثقفة والتي ستنخرط في عمر مبكر كثيراً في العمل النسوي. يصور الفيلم زينب أثناء عملها مع زميلة لها في إذاعة محلية تتوجه إلى النساء المغربيات، وينقل كيف كانت تشرح عبر الراديو عن حبوب تُعين على إجهاض النساء الحوامل، كبديل عن العمليات المكلفة أو الخطرة. لن يبقى الفيلم طويلاً في المغرب، إذ إن زينب ستودع أقرباءها وأصدقاءها في ربع الفيلم الأول، والوجهة ستكون باريس.

في باريس، ستجد زينب في زملائها في مجلة “شارلي ايبدو” العائلة المهنية والإنسانية التي كانت تبحث عنها، وستتولى الصحفية المغربية مهمة التحقيق وكتابة النصوص في القصص التي تتعلق بالإسلام في المجلة. وعندما تبدأ الاحتجاجات العالمية ضد المجلة، يزداد عناد محرري الأخيرة ومنهم زينب ويصرون على مواصلة عملهم بالحدة نفسها، رغم أنهم يعرفون أن ما يقومون به يجرج مشاعر مسلمين كثر. ينقل الفيلم اجتماعات التحرير التي غلب عليها الفكاهة، كما تتبع الكاميرا في مشهد صادم كثيراً زينب إلى نافذة المبنى الذي كانت فيه المجلة، والتي كان يمرّ من أمامها شاب بلحية طويلة ويرتدي الجلباب الإسلامي، وكيف أن الشاب أثار رعباً بين العاملين في المجلة، بخاصة أن عربة الشرطة التي كانت تقف امام المبنى لم تنتبه لذلك الشاب.

لم يكن الشاب ذاك أحد الاخوين الفرنسيين المسلمين اللذين قاما بالعملية الإرهابية في عام 2015. والتي عندما يصل الفيلم إليها تسوده الظلمة، محاكياً الأجواء التي عاشتها زينب أثناء الحادثة، إذ إنها اختبأت وقتها في إحدى خزائن المكتب لتنجو من موت كان قريباً للغاية. لا تتذكر المرأة المغربية الكثير من يوم الحادثة والأيام التي أعقبتها. وكانت تبدو في المشاهد الأرشيفية لتظاهرة عملاقة في باريس شاردة تماماً وكأنها في عالم آخر. لكنها ستعود سريعاً إلى غضبها وإطلالاتها على الشاشة، والتي ستقود هذه المرة إلى تهديدات جديّة بالقتل، وحراسة أمنية مُشددة منذ ذلك التاريخ.

ارتبط اسم زينب بالمجلة الكاريكاتورية الفرنسية الجدليّة "شارلي ايبدو"، التي عملت فيها ككاتبة

يصغر عالم زينب تدريجياً، بعد أن تترك العمل في “شارلي ايبدو” على أثر تغير المناخ العام في المجلة حسب وصفها، وستقل طلاتها الإعلامية، ويذهب الكثير من اهتمامها في الحفاظ على سلامتها. ينسحب الفيلم في نصفه الثاني مع بطلته إلى عالمها الذي كان يضيق، وتهيمن المشاهد الداخلية والتوليف البطيء على الأزمان التي اختبأت فيها زينب بسبب تهديدات القتل والمتواصلة لليوم، ويصورها الفيلم وهي تعيش الضجر والوحدة والخوف في شقتها السريّة. وعندما تحمل زينب (يبقي الفيلم هوية الوالد مجهولة)، تبدأ هواجس جديدة تلح على الفتاة المغربية، وتساؤلات عن صواب توقيت قرار الإنجاب في هذا الوقت. يواصل الفيلم تسجيل يوميات البطلة بعد إنجابها لطفلتها، مُركزاً على انفعالاتها التي كانت تهيجها أعمال إرهابية ضربت فرنسا في العامين الأخيرين، وينتهي العمل وزينب بعيدة كثيراً عن السلام أو الأمان الذي كانت تستمتع به قبل سنوات قليلة فقط.

اختار المخرجان مقاطع من الحوارات التي أجرياها مع زينب كتعليق صوتي لبعض مشاهد الفيلم، وكان صوتها يقود المتفرج وهو يتنقل بين المشاهد الذاتية الخاصة والعامة للفيلم. رغم ذلك بقي الكثير من الغموض يحيط بالشخصية الرئيسية، وبالخصوص عن فترة نشأتها في المغرب، والظروف التي جعلها تُقدم على خياراتها الجريئة في الحياة. لا ريب أن حادثة شارلي ايبدو جعلت الفيلم يأخذ انعطافة كبيرة، ليركز على تبعات وآثار هذه الحادثة على المرأة المغربية، لكنه توقف في البحث في الظروف المؤسسة لشخصية زينب، والذي كان يسير بشكل ممتاز في دقائق الفيلم الأولى، مما جعل هذا العمل التسجيلي يخسر بعضاً من قوته البحثية.

لا يقدم الفيلم شخصيته كضحية فقط، إذ إنه يبرز أيضاً عنادها وتسرعها، والذي جعلها تتورط أحياناً في تفسيرات مبسطة لقضايا شديدة التعقيد. على الجانب الآخر يُولي الفيلم الأزمة المتعددة الطبقات التي تعيش فيها شخصيته اليوم معظم وقته، فيصورها في مشاهد عديدة وحيدة، تواجه أشباح الماضي، خائفة مما يحمله المستقبل، حتى أن الشقة الأنيقة التي تعيش فيها بدت قريبة من سجن، تراقب زينب من شبابيكها العالم في الخارج. كما أن الفيلم وفي مشهد مهم رغب أن يكشف لمشاهديه عما يعينه العيش تحت حراسة الأمن الدائمة، فقدم من نافذة شقة زينب، مشهد طويل لركوب شخصية الرئيسية السيارة، وكيف كانت محاطة برجال أمن حذرين للغاية. المفارقة أن هذا المشهد يُشبه على صعيد موقع الكاميرا المطل من نافذة شقة عالية على الشارع في الخارج، ذلك المشهد الذي شاهدت فيه زينب الرجل الملتحي وهو يقترب من المبنى القديم لمجلة شارلي ايبدو.


إعلان