تنويعات زمانية على التغريبة السورية!
قيس قاسم
أشكال سرد التغريبة السورية ومضامنيها تتعدد على قصر الحدث زمنياً، وبسهولة يمكن تلمس ذلك في الأفلام الغربية الإنتاج كالنرويجي 69 MINUTES OF 86 DAYS الذي يفتح باب التأمل واسعاً في قدرة صناع الوثائقي على ابتكار تنويعات مختلفة على ثيمة واحدة مثل؛ الهجرة السورية. تنويعات المخرج النرويجي ايجيل هوسشولد لارسن اقترنت بإحاطة صورته بمناخ موسيقي باذخ أريد له أن يكون من بين عوامل تميزه، غير أن درجة تناغمهما (الموسيقى والكاميرا) كانت موضع ترقب مشروع فليس كل تنويع مختلف موفق، بخاصة حين يتعلق الأمر بسرد تراجيديات بشرية ليس للترف موضع فيها.
69 دقيقة هو طول الفيلم و86 يوماً هي عدد أيام الرحلة التي قطعتها طفلة سورية مع أهلها هرباً من الموت. بلغة الرياضيات كل دقيقة من الشريط تقابل تقريباً يوما وربع اليوم في الواقع. لخلق مناخ بصري قادر على سرد تفاصيلها كان لا بد من توفر عوامل أخرى غير (المونتاج) قادرة على تكثيف الإحساس الحقيقي بالزمن وتقلباته في إطار المكان المتنوع التضاريس، ولأن صاحب المشروع هو من تكفل بتصويره وجد في فكرة كتابة نص موسيقي خاص به قبولاً لقناعته بقدرتها على منح المَشاهد المصورة معاني تعبيرية إضافية بخاصة وأن ثيمة الفيلم ليست بجديدة كلياً، فهناك عدة وثائقيات تناولت موضوع الهجرة السورية وركز بعضها أيضاً على الأطفال وهذا ما أدركه بشكل جيد الثنائي الموسيقي؛ “أودون ساندفيك” عازف آلة التشيلو و”بوجه ويسلتوف” عازف البيانو وبتوافقهما اللافت حققا شروط الانسجام المطلوبة بين الصورة الموثقة لمسيرة طفلة تعجز لغتها الشفاهية لصغر سنها (ثلاث سنوات) عن التعبير الكامل عنها وبين جعلهما المقاطع الموسيقية المصاحبة للمشاهد المصورة بعناية وسيطاً قادراً على المساعدة في التعبير عن حالتها إلى جانب وظيفة أخرى أنطيت بهما أراد بها مخرج العمل تعميق معاني مشاهد سبق استخدامها في أفلام أخرى، مثل؛ سواحل بحار رست عندها وتكومت بقايا أمتعة راكبي قوارب “الموت”، لتبدو بفعل قوة وجمال الموسيقى المصاحبة لها مختلفة عنها.
ربما لهذا السبب لم نشعر خلال الدقائق العشر الأولى من فيلم “69 دقيقة من 86 يوما” بتكرار أو إعادة مملة بل ثمة انطباع متولد بفعل المزج المؤثر بين الصوت والصورة بأننا نراها لأول مرة ونشعر بشدة آلام بشر قادتهم مصائرهم إلى أمكنة لقوا فيها حتفهم أو نجا بعضهم من الموت وكان لا بد من إسماع قصصهم وجلها مشحون بعواطف إنسانية كقصة الطفلة السورية “ليان”، وكل ما فيها يستحق التوثيق لسبب بسيط هو؛ عدم خوفها من الكاميرا ولا اكتراثها بالمصورين والفنيين ولما عندها من حيوية وعفوية تستحقان الالتقاط والتأسيس عليها لتقديم التغريبة السورية من منظور مختلف، الطفولة والبراءة عنوان أحد فصولها الحزينة.
الطفلة السورية كانت نقطة ارتكاز حكاية الفيلم وعمقها الدرامي وعليها فُصلت كل المقاييس التقنية. فالكاميرا وأثناء ملاحقتها لها عبر دول وبحار اضطرت إلى النزول إلى مستوى رأسها وقطعت في مرات كثيرة بقية الأجساد المحيطة بها استجابة لرغبة إبقائها مركزاً طيلة الوقت (86 يوما) فهي البطلة وعلى حكايتها تم بناء مستويات السرد. ولأن رحلتها مع أهلها في دروب طويلة كان من المنطقي أن يأخذ سرد الوثائقي طابع “فيلم طريق” بامتياز. كل مرحلة تصور أحوال المهاجرين السوريين وتسجل فصلاً من التغريبة السورية الكبرى. يلاحظ في خضمها ذوبان الفرد في المجموع وذوبان الطفلة أسهل بين جموع تحيطها بالرعاية فهي تنتقل عبر الأمكنة بصحبة بعض أفراد من عائلة والديها. كانت تتنقل بخفة من يد إلى يد حتى كان يصعب علينا أحياناً معرفة والديها الحقيقيين، هذا أمر لم يعبأ به صانعه كثيراً، فتركيزه كان منصباً على نموذج بشري يمكن له أن يُوسع، حتى اسمها لم نسمعه إلا مرتين تقريباً. هذا الانصهار “الإجباري” لم يكسر حدته سوى فرادة الطفلة الحيوية، اللبقة ذات الخيال الواسع المُحيل الواقع إلى حكايات يصعب الإمساك بخيوطها.
كلُ مَن في الطريق والخيام المنصوبة على عجل فوق الأرصفة أو داخل الثكنات المزدحمة هم أهلها، الرجال تعرفهم وتسير معهم دون خوف فالعالم بالنسبة إليها آمن ما دامها وسط “مجموع” يحبها وربما يجد فيها براءة مرتجاة وسط الخراب. حيوية الطفلة أعطت حيوية لوثائقي أراد الإمساك بالتعابير والرموز وأراد تعميق قوة كل مشهد فيه بقوة اللقطات المقربة وبالتالي وجدنا أنفسنا أمام نص مبني على عناصر ديناميكية تكفي وتزيد لعرض ذوات متفردة على الشاشة وعبرها يمكن رؤية بقية شعب يختط طريقه في أمكنة أخرى نحو الموت أو الهجرة. لا لغو في الوثائقي النرويجي. ثمة تعابير عابرة نسمعها هنا وهناك بلغة أهل بلدان تختلف تضاريسها كلما مضت العائلة نحو وجهتها النهائية: السويد. فهناك ينتظر الطفلة جدها وأقرباء ربما لا يختلفون بالنسبة إليها عن الذين تركب معهم القطارات والباصات والبواخر. فالطفلة اعتادت السير مبكراً في جغرافيات تتغير كل يوم وتتجدد ساعة بعد أخرى، خلالها ينهك التعب جسدها الصغير فتنام. يقسم الوثائقي النوم كما هو في الواقع إلى قسمين: الكبار قلقهم يطير النوم من عيونهم ليلاً ويحط فيها عند الفجر فيما الأطفال ينامون حالما تغيب الشمس. دورة نوم مضطربة تفرضها رحلة البحث عن الأمان في مكان آخر يمكن ربما النوم فيه لأيام متواصلات! فيما الأطفال يسهون عنه نهاراً حالما تجر انتباههم أشياء صغيرة أثناء سيرهم مع الجموع نحو الأمل بالنجاة.

لا كلام في السياسة والدوافع فكلها تقريباً صارت معروفة، المهم “ليان”. كيف ستعيش تلك اللحظات وكيف ستتذكرها بعد سنوات؟ أسئلة تؤجل الاجابة عليها وهي غير قادرة عليها أصلاً، فاللحظة الراهنة ومثل كل طفل في العالم تأخذها إلى سماع قصص وخلق بعضها من نسج خيال بكر قادر على خلق عالم مواز للعالم المنهك الذي تسير فيه. قوة المراقبة والعيون المتحركة في كل اتجاه تشي بحذر وخوف لكنها لن تشغل بالها به، حال الأشياء الأخرى ربما كانت تلك وسيلتها الغريزية لتخفيف الخوف المتسرب اليها من المحيطين بها. ذكاء “ليان” حاد براءتها وظرفها تغوي الكاميرا للبقاء بجوارها لدرجة يبدو فيها الآخرون هامشيون على عكس الحقيقة!. تذمرها قليل وأسئلتها مختصرة. هل علمتها تجربة مرافقة القلقين المتجهمين بأن لا بوح في الطريق إلى النهايات المحفوفة بالمخاطر.
يكفي الهمس لايصال الفكرة أو معارضتها. تكفي الحركات العصبية القليلة لقول الكثير فالكل يحمل تقريباً ذات الأفكار والهواجس. ربما تعلمت الطفلة منهم الهروب إلى هامش الموضوع والبقاء قرب أطرافه. لم تسأل عن وجهتها النهائية بالحاح كانت تعرف أن جدها هناك وهم في طريقهم اليه، أمنت النهاية وتركت تفاصيل الرحلة للكاميرة النبهة الملازمة لها، لدرجة تبدو وكأنها قد تم ربطها حول جسدها ولهذا لم تُضيع المهم من عمر رحلتها المحفوفة باحتمالات الفشل والخيبة، ناهيك عن الموت والغرق في البحار العاتية. حيوية الطفلة تعبير مكثف عن قوة الأمل الموجود في داخلها ربما هذا تحميل اضافي على تفكيرها الطفولي البسيط، لكن مدلولاته تقول ذلك. فكل خطوة كانت تقربها من السويد كانت تسبقها بأغنية تحورها مثل بقية القصص العجائبية ويشي مضمونها بخوف متستر داخلها. بعضها يحيل إلى تراكمات نفسية مردها الخوف من الحرب والهجرة. تسمعها من أهلها أو تجدها في حركات وتعابير الناس الذين رافقوا أهلها في تغريبتهم وكانوا جزءاً منهم. حتى الأغراب ثمة مستركات معهم أما الأطفال أشباهها فكانت لهم أيضاً فرص للظهور معها في وثائقي أراد القول؛ إن الرحلة لن تنتهي بوصولهم إلى نقاط حدودها لأنفسهم كملاذات آمنة. فحياة الطفلة السورية ما زال ينتظرها الكثير وينتظرنا منها أو من يشبهها قصص ليس بالضرورة ستأخذ ذات الايقاع السردي الذي أتخذه لنفسه “69 دقيقة من 86 يوماً” وتفرد به عن بقية وثائقيات مهمة دارت حول التغريبة السورية وجُسدت مراراتها على الشاشة.