“لعبة الدعاية” ذات الوجهين
أمير العمري
كتبت ونشرت مؤخرا في هذا الموقع عن فيلم “نابالم” لكلود لانزمان الذي صوره في بيونغ يانغ عاصمة كوريا الشمالية، دون أن يتضمن- كما كان متوقعا- كثيرا مما يمكن أن يكشف لنا ما يدور داخل هذه الدولة الغامضة التي تبدو مثل لغز محير في العالم. ثم شاهدت فيلم “لعبة الدعاية” (2016) The Propaganda Game للمخرج الإسباني ألفارو لونغوريا، وأدهشني كثيرا أن أشاهد للمرة الأولى صورا من الداخل، تبتعد تماما عن النمط السائد لما عهدناه من لقطات تصور عادة بكاميرات مهتزة، وبإضاءة قاتمة، لمناظر التقطت سرا من داخل هذا البلد، بل وجدت أننا أمام فيلم احترافي من الطراز الرفيع، يصور الكثير من التفاصيل المدهشة التي لاشك في طرافتها وجدتها وجاذبيتها مهما اختلفنا في محتواها.
من الصحيح القول إن الإسباني الفارو لونغوريا مخرج “لعبة الدعاية” لم يصور في فيلمه إلا ما سمحت له السلطات في كوريا الشمالية بتصويره، لكنه تمكن، رغم ذلك، من صنع فيلم مثير بصريا وفكريا، يمزج بين المقابلات المصورة والوثائق التسجيلية وصور الأرشيف ولقطات من برامج التليفزيون في الغرب، كما يستخدم الرسوم الملونة البديعة الكورية، وقصاصات الصحف والصور الثابتة والخرائط ورسوم الجرافيكس. هو يبدأ بأن يروي جانبا من تاريخ البلاد، على خلفية من لقطات الحرب الكورية في أوائل الخمسينيات، لكن ما يشغله أساسا هو الحاضر، ما يحدث حاليا وراء الستار الحديدي الذي ربما يكون الوحيد من نوعه الباقي في العالم.

يمكن القول أيضا إن الفارو ربما لم يتمكن أن يعكس- كما ينبغي- حقائق العيش في ذلك البلد الذي يتم تصويره في الغرب بل وفي العالم الخارجي منذ سنوات- باعتباره معسكرا كبيرا للاعتقال والتعذيب والقتل أو ساحة للدعاية الفجة والاستعراضات العسكرية التي تمتلئ بالحشود البشرية الضخمة، والاحتفالات التي لا تنتهي بتمجيد “الزعيم” في شكل ممتد ومستمر من أشكال “عبادة الفرد”. لكن من الصحيح أيضا أن الفارو حاول أيضا أن يناقش كل هذه الأفكار المسبقة المستقرة في الغرب عن كوريا الشمالية من الداخل وبشكل مباشر.
لم يكن دخول لونغوريا إلى “الدولة المحظورة” سهلا بل اقتضى سنوات عدة إلى أن نجح في الحصول على تصريح بالتصوير هناك، وهو يشرح أمام الكاميرا في مدخل فيلمه، أنه نجح في ذلك بفضل رجل من أبناء جلدته هو الإسباني “أليخاندرو دو بينوس”، الذي يصفه بأنه الأجنبي الوحيد الذي تمكن من كسب ثقة الكوريين وأصبح يعمل لديهم كجسر بينهم وبين العالم. أليخاندور الذي يجيد الإسبانية والإنجليزية وبالطبع اللغة الكورية، ترك بلاده والتحق بالنظام في كوريا الشمالية بدوافع أيديولوجية، فهو شيوعي ستاليني يؤمن كما يظهر ويقول في الفيلم بأن “الاتحاد السوفيتي خان مبادئ ستالين، والصين الحالية خانت مبادئ ماوتسي تونغ ولم تعد دولة شيوعية، وهو لذلك لا يريد أن يتغير النظام في كوريا الشمالية إرضاء للأمريكيين أو لأي طرف في العالم حتى لو كان معنى هذا العيش وراء ستار حديدي. يظهر أليخاندرو في الفيلم أولا بزيه العسكري كضابط في الجيش الكوري الشمالي قبل أن تطلب منه السلطات أن يتفرغ للعلاقات الخارجية.

تتردد أفكار أليخاندرو كثيرا في الفيلم خلال حواراته التي لا تتوقف مع المخرج الفارو، وهي حوارات لا تتم في غرف مغلقة بل أثناء الجولات المشتركة المتعددة التي يقوم بها الفارو بصحبة أليخاندور في العديد من الأماكن في العاصمة بيونغ يانغ، وزياراته إلى الأماكن العديدة التي حددتها السلطات بالطبع والمفهوم أنه لا يمكنه تجاوزها، وهو دائما مصحوب بالمرافقين.
نحن نرى للمرة الأولى في أي فيلم وثائقي صورا ولقطات خلابة ملونة تفيض بالسحر والحياة، تكشف لنا صورة معاكسة لكل ما سبق أن شاهدناه عن كوريا الشمالية (استعراضات، حشود عسكرية، صواريخ تنطلق، مشاهد الفقر والتدني والتخلف والمجاعات .. الخ). هنا تبدو بيونغ يانغ مثل مانهاتن في نيويورك بناطحات السحاب الحديثة العملاقة، والحدائق الشاسعة ومنها الحديقة الكبيرة المخصصة لألعاب الأطفال بما في ذلك ألعاب الماء باستخدام أحدث الأجهزة والمعدات والابتكارات التي توازي أرقى ما يوجد في الغرب.
يتوقف الفيلم أمام ثلاثة محاور يسعى المخرج لسبر أغوارها والكشف عما يكمن وراءها: المحور الأول يدور حول الزعيم وعلاقة الشعب به، هل هي علاقة حقيقية، تعكس حبا حقيقيا؟ هنا يوقف الفارو أمام الكثير من الناس العاديين في الشوارع ويستجوبهم، وبطبيعة الحال ليس من الممكن أن نتوقع أن يتطرق أحدهم إلى أي ملاحظات سلبية، سواء عن الزعيم الحاكم الفرد الحالي “كيم جونع أون” أو عن النظام السياسي عموما. إنهم يؤكدون جميعا أنهم “سعداء”، ويعتبرون الزعيم الأب الحقيقي للأمة، بل إن إحدى المرافقات تبكي في تأثر واضح أمام الكاميرا وهي تتحدث عن الزعيم كونه قد أصبح الأب الأكبر للكثير ممن فقدوا آباءهم مثلها في الحرب.

عبادة الزعيم
فكرة عبادة الفرد (أو بالأحرى “الزعيم”) نلمسها بوضوح في اللقطات الأرشيفية التي تصور جنازة الزعيم المؤسس للدولة كيم يل سونغ، وكيف تبكي الجماهير وهي تودعه، ثم يتوه المخرج بالأسئلة حول هذا الحدث إلى بعض من عاصروه الذين يؤكدون جميعا أن صدمتهم في وفاته كانت هائلة، وأنهم كانوا يشعرون بفقدان الأب، وهو ما يمكن تلمسه في جنازات الكثير من زعماء العالم “التاريخيين” الذين راجت حولهم أسطورة “الزعيم والأب الملهم” مثل ستالين ولينين وتيتو وعبد الناصر وبومدين..الخ
ومن أجل تفقد مظاهر العيش داخل البيوت، يذهب الفارو بصحبة مرافق لزيارة إحدى الشقق الحديثة التي تمنحها الدولة للأفراد والأسر في الأبراج الجديدة الشاهقة، فنرى سيدة كورية تطهو الطعام في المطبخ. يسألها الفارو عما تقوم بطهيه اليوم، لكنها تضحك دون أن تجيب، ثم يسألها عن طريق المترجم، ما إذا كان يمكنه الإطلاع على ما يوجد داخل الثلاجة، لكنه لا يتلقى ردا، لكن المترجم يقول له إن السيدة خجولة للغاية ولا تستطيع الحديث أمام الكاميرا!
يتحدث الكثير من السكان عما توفره الدولة لهم فهي مسؤولة عن السكن والعلاج والتعليم بشكل كامل، ويقول ضباط سابق من قدامى المحاربين يظهر أمام الكاميرا وهو يرتدي الزي العسكري بكامل نياشينه، إنه يحصل أيضا على الطعام والخضراوات بكميات كافية، كما تمنحه الدولة معاشا تقاعديا جيدا، وتأمينا صحيا شاملا.

المحور الثاني الذي سيصبح محورا رئيسيا للفيلم الذي يستمد عنوانه منه، يتعلق بالدعاية: أولا الدعاية التي يستخدمها النظام مع الشعب نفسه ويحاول ترويجها عن كوريا الشمالية في العالم، أو الدعاية القادمة من الخارج من قبل الولايات المتحدة وأجهزة الإعلام الغربي عموما.
يشرح أليخاندرو الأمر لالفارو فيقول إن الدعاية جزء أساسي من مبدأ “تعليم الجماهير” أو التثقيف العقائدي حسب نهج الحزب الشيوعي، وهي مبررة طالما أن “كوريا تعيش حالة حرب” يحيط بها الأعداء الذين يهددون وجودها، لذلك فسلاح الدعاية مهم للغاية، بنفس أهمية بناء الصواريخ والقوات المسلحة القوية التي تضمن بقاء الدولة. يهبط الفارو سلم إحدى محطات قطارات الأنفاق مع أليخاندرو لنرى كيف حولت الحكومة الأنفاق إلى تحصينات قوية وملاجئ يحتمي فيها السكان في حالة نشوب حرب نووية.
يرفض أليخاندرو رفضا قاطعا أي نوع من الانفتاح على الغرب، بدعوى أن الغرب لا يقبل سوى إخضاع كوريا الشمالية وضمها للجنوبية وتحويلها إلى قاعدة عسكرية للأمريكيين، وسوق للمنتجات الأمريكية وعندما يشير الفارو إلى علامة كوكاكولا في خلفية الصورة ويتساءل عن كيفية وصولها إلى بيونغ يانغ، يتطلع أليخاندرو ويضحك ثم يشرح الأمر فيقول إنهم استوردوا الآلات الخاصة بالمرطبات من الصين وعليها هذه العلامة.
منشآت عديدة يتوقف أمامها الفيلم مثل المتحف الحربي المكون من ثلاثة طوابق، خصص كل منها لأحد الزعماء الثلاثة (التاريخيين) لكوريا الشمالية، الجد المؤسس كيم إيل سونغ، وابنه الذي خلفه كيم يونغ إيل، ثم الزعيم الحالي كيم يونغ أون. تمثالا الزعيمين الأول والثاني يحلقان فوق ربوة مرتفعة تحولت إلى مزار شبه اجباري للكوريين جميعا، حيث يذهبون سنويا في ذكرى ميلاد كيم إيل سونغ أو خليفته، لوضع أكاليل الزهور تحت قدمي التمثالين الأسطوريين.

اختراق الحصار
مظاهر الترف التي يشاهدها الفارو في كل مكان، وما توفره الدولة من إمكانيات التعليم والصحة والسكن والمرافق العامة والمواد الغذائية، وصناعة الأسلحة واستيراد الأجهزة الحديثة مثل أجهزة الكومبيوتر التي جهزت بها الجامعة التي يقول لنا الفارو أمام الكاميرا إنها تبدو جديدة في كل شئ، تجعله أيضا يتساءل طول الوقت: ولكن من أين تأتي الأموال؟ لكنه لا يحصل أبدا على إجابة واضحة، بل إنه عندما يوجه سؤالا بشأن كيفية دخول الأجهزة الحديثة رغم الحصار، يجيبه أليخاندرو ضاحكا بأن هذا سر لا يمكنه الكشف عنه لكي لا يعرف الأمريكيون كيف يتحايل الكوريون لاختراق الحصار!
أما الذين يجيبون عن سؤال من هذا النوع فهم ليسوا من داخل كوريا الشمالية بل من خارجها، أي من الخبراء والمعلقين السياسيين وممثلي منظمة العفو الدولية ووسيط تجاري، ومسؤول أمريكي سابق، وممثل الأمم المتحدة الذي سبق أن تعامل مع تلك الدولة، وكذلك من المراسلون الإعلاميين في قنوات تليفزيونية مثل سي إن إن وفوكس نيوز وغيرهما. ويظهر أيضا أحد المنشقين الكوريين الشماليين، كان حارسا في أحد السجون، لكنه رغم اعترافه بوجود أوامر باطلاق النار على كل من يحاول الفرار، إلا أنه ينفي وجود تعذيب يمارس داخل السجون. وهناك لقطة محددة تتكرر عبر مسار الفيلم لفتاة شابة في عمر الزهور تتحدث أمام جمع من السياسيين والإعلاميين في أمريكا، تبكي أمام الكاميرات وهي تروي تفاصيل عن انتهاكات حقوق الإنسان، وكيف أن من حق الشعب هناك أن يتمتع بحياة أفضل.
تكرار اللقطة له مغزى واضح في سياق الفيلم فالمحور الخاص بالدعاية يوازن على نحو مثير للدهشة، بين الدعاية الداخلية التي توجهها كوريا الشمالية سواء لأبنائها أو للخارج، والدعاية الخارجية التي تروي وتصور الكثير من الأشياء التي تنسبها للنظام وربما لا تكون صحيحة. هنا تصبح “حرب الدعاية” ذات وجهين، وربما أن ما يحدث في هذا البلد ليس بوسع أحد أن يفهمه تماما ويدركه إلا إذا ذهب ولمس الأشياء بنفسه عن قرب كما يؤكد معظم من يتحدثون من الكوريين العاديين في الفيلم.
يبحث الفيلم فيما شاع من أنباء عن إرغام الشباب في البلاد على قص شعورهم بنفس طريقة الزعيم كيم يونغ أون، ويثبت بالأدلة المباشرة من خلال الصور التي نشاهدها وشهادات الشباب أنفسهم أنها أكذوبة دعائية، ثم يتوقف أمام ما ذاع حول إعدام الزعيم الكوري البارز الذي كان الرجل الثاني في الدولة “جانغ سونغ ثايك” عن طريق تركه للكلاب الجائعة تنهش جسده حيا، ويثبت الفيلم أنها مجرد فرية أطلقها مدون صيني وانتشرت في العالم ثم اعترف بكونها أكذوبة.
وعندما يقول الفارو إنه مسيحي ويريد أن يزور كنيسة مسيحية في بيونغ يانغ يأخذونه إلى الكنيسة الكاثوليكيةـ حيث توجد مجموعة من المصلين، ويلتقي هناك بشخص كان يقود الصلاة، يسأله لماذا لم يظهر القس لكي يلقي الوعظ بنفسه فيقول إن القس مريض اليوم ولذلك فقد حل محله. هذا المشهد مقصود به بالطبع التدليل على إطلاق حرية الأديان، لكن الخبراء في شؤون كوريا الشمالية يردون على هذا بالتشكيك في الأمر، والتأكيد على أن السلطات لا تسمح أصلا بأي عبادة تبعد الفرد أيديولوجيا عن سياسة النظام والإيمان بقدسية الزعيم، وكيف أن السلطة تخشى أن تكون المسيحية وسيلة للتسلل إلى الداخل والعمل على تقويض النظام وهو ما يعبر عنه أليخاندرو في حديثه إلى الفارو.
الاكتفاء الذاتي
يذكر أليخاندرو لالفارو أن الزعيم الحالي وضع كتابا عن دور الفيلم السينمائي في التثقيف والدعاية وكيف يمكن استخدامه في تعليم الشباب. من هذه النقطة يبحث الفيلم فيما يعرف بـ”الجوشي” أو مبدأ الاكتفاء الذاتي والاعتماد على النفس الذي هو فلسفة خاصة بكوريا الشمالية. يرى بعض المحللين الغربيين أن “الجوشي” مستمد من الديانات القديمة في شبه الجزيرة الكورية وجنوب شرق آسيا بوجه عام، التي تعتبر الإنسان سيدا لنفسه، هو الذي يستطيع أن يعيد تشكيل مصيره ويتحكم فيه، وأن الكوريين قاموا بالمزج بين الماركسية والأديان القديمة. ويقول مراسل سي إن إن السابق في بكين كما يظهر في الفيلم إن “الجوشي عقيدة ليس من الممكن لأحد أن يناقشها” وبالتالي تضمن الخضوع التام للفرد إزاء الزعيم الذي يصبح مثل الإله المعبود.
المحور الثالث الذي يتوقف عنده الفيلم يدور حول السؤال التالي: لماذا يحرص الجميع على بقاء النظام الحالي في كوريا الشمالية رغم كل ما يثار من ضجيج حوله؟
يرى الخبراء والمحللون أن الصين تدعمه لأنها لا تتحمل وجود قوات أمريكية على حدودها، واليابان تتغاضى عن وجوده لأنها لا ترغب في وجود دولة قوية موحدة تنافسها اقتصاديا، وكوريا الجنوبية ترغب في بقاء النظام الشمالي لأنها لا تستطيع تحمل نفقات التوحيد التي ستبلغ مئات المليارات من الدولارات، والروس يريدون بقاءه لأنهم أيضا لا يريدون أن تصبح القوات الأمريكية قريبة من حدودهم، وأخيرا يرى الأمريكيون أن الاقتراب عسكريا منها قد يتسبب في توسيع نطاق الحرب في المنطقة.
إننا أمام فيلم مثير يطرح الكثير من الأسئلة لكن مخرجه يعترف في النهاية، أنها تبقى دون إجابات قاطعة. وميزة الفيلم الأساسية أنه يدفع إلى مزيد من البحث والتدقيق فيما ينشر ويتردد في أجهزة الإعلام الغربية عن كوريا الشمالية.