“يا عمري”.. تجاعيد هنريات في ربيعها الرابع بعد المئة
Published On 7/6/2017
|
آخر تحديث:
16/10/2022
11:45 AM (توقيت مكة)
عبد الكريم قادري

يمتلك الفيلم اللبناني “يا عمري” للمخرج هادي زكاك مُقومات وعناصر قويّة تجعله ينتصر “للتصنيف”، أي لمصطلح “الوثائقي”، وذلك على خلاف بعض الأفلام الحديثة التي قلّصت المسافة بينها وبين الروائي، حتى إنه لم يعد من السهل إطلاق تصنيف ما بشكل قطعي بسبب تداخل عناصرها وتذويب المفاهيم. ومن هنا بات إطلاق المصطلح يتم بحذر نظرا لتقارب العناصر والمناهل، على عكس فيلم “يا عمري”، فهو عمل واضح التصنيف إذ يعتمد بالأساس وبشكل واسع على التوثيق والأرشيف وينتصر له بشكل كبير، وأكثر من ذلك هناك تنوع وثراء في الوثائق المختلفة والمنوعة (مكتوبة، مطبوعة، مرئية، مسموعة، صور بالأبيض والأسود، صور ملونة.. إلخ)، وهذا ما سمح بخلق راحة علمية ومعرفية لدى المُتلقي العادي والباحث على السواء، نظرا لتحويل الفيلم إلى مرجع جامع يمكن العودة له، واعتباره وثيقة قوية يمكن الاستشهاد بها أو التأكد من خلالها من بعض المعلومات، لأنه مسنود بشكل جيد وموضوعي إلى حد ما.
وقد تم تسيير هذا “الكل” من الوثائق وتوزيعها على مدار 83 دقيقة -وهي مدة الفيلم الزمنية- بطريقة عادلة ومريحة للعقل والذائقة الجمالية من خلال حسن استغلال المونتاج (قام به هادي زكاك وإلياس شاهين) واستغلاله بطريقة ذكية، حيث أدى وظيفته التقنية والفلسفية والجمالية، إذ أجاد صاحباه اللعب على خاصيات الأمكنة وتنوعها والأزمنة وتباعدها، ونسجا بخيوطهما إيقاعا جميلا اعتمد في مجمله على الثنائيات الضدّية التي وظّفها المخرج بطريقة سلسة وسريعة تُذهب الملل، لأن هناك خيارات بصرية متنوعة تجعل المُتلقي في حالة ترقب، فهو من حين لآخر يتفاجأ بالجديد على مستوى الوثيقة المقدمة أو الأحداث المتعاقبة، ناهيك عن الطرافة التي تم زرعها في ثنايا الفيلم.
الثنائيات الضدية التي ذكرتها يعكسها بشكل كبير الماضي والمستقبل، الحضور والغياب، الفضاء الرحب والفضاء الضيق، الحياة والموت.. وقد سمحَت ببروز حالة من المقارنات في الأحداث سهلت عملية توصيل الحدث وتأكيد أهميته ومكانته كفرد وأسرة ونسل وعائلة وجذور، وقد أظهرت هذه المعطيات والقيم الجمالية التسيير الجيد لعملية المونتاج، ليصبح عنصرا أساسيا من العملية الكلية للفيلم، حيث أبرز المخرج العديد من الجماليات المخبوءة، وأبان عن معان كانت غير واضحة في ثنايا الوثائق. لكن ولأن القطع والتنقل من مشهد لآخر ومن حدث لحدث، فإنه سمح ببروز خط معنوي جامع مكّن من تقوية “الثيمة” والانتصار لها، ومن هنا عُقدت صفقة جمالية ومعرفية بين المخرج والفيلم والمتبقي الذي أحس بأهمية “الثيمة” التي تمت مُعالجتها بطريقة سلسة، وفي الوقت نفسه بحذر.

هنريات.. رحلة الماضي والحاضر
تابع مخرج ومنتج وكاتب سيناريو وحوار فيلم “يا عمري” هادي زكاك حياة وتاريخ جدته “هنريات” التي تخطّت مئة سنة من عمرها، حيث استفاد كثيرا من التوثيق الذي قام بجمعه شخصيا خلال أكثر من 25 سنة كاملة، سواء عن طريق التصوير بالكاميرا واستجواب جدته “هنريات” أو تدوين بعض الملاحظات والقصص التي كانت ترويها له عبر مراحل زمنية مختلفة، ناهيك عما تملكه عائلتها من زاد وتاريخ ثري ومؤثر ساعد كثيرا في بناء هذا الفيلم، إذ عاشت “هنريات” طفولتها في البرازيل حيث كان والدها من أوائل المهاجرين إلى هذا البلد، واستطاع أن يكوّن نفسه هناك، ويخلق لنفسه صورة مشرفة.
إلى أن عادت “هنريات” حين كانت طفلة إلى موطنها الأصلي لبنان، وذلك على متن رحلة بحرية كانت في وقت ما تتذكر كل تفاصيلها، لأنها تعرفت على أحد الشباب هناك وعاشت معه قصة حب.. كل هذه الأسئلة التاريخية استخرجها هادي زكاك من جدته عبر مراحل تاريخية مختلفة، إذ كان يستغل سنوات أعياد ميلادها ويقوم بتسجيل مقابلات لها، يحرضها فيها أن تحكي عن قصص الحب التي عاشتها، وكيف عادت إلى لبنان وتفاصيل طفولتها وتاريخ عائلتها ومغامرات أبنائها، وفي الوقت نفسه يقوم بسرد بعض الانتصارات التي قامت بها أفراد العائلة التي ينحدر منها شخصيات علمية وفنية ومخترعين، حتى إن أحد أقطاب رجال الدين المسيحي في لبنان كان جدّ “هنريات”، وهو أول رجل من عامة الناس يحصل على لقب بطريرك بعد إحدى الثورات.
وقد وُفق زكاك إلى حد بعيد في تنفيذ إطلالة شاملة وواسعة على عائلته وعائلة جدته “هنريات” التي عاشت 104 سنوات كاملة، بداية من هجرة العائلة إلى البرازيل أواخر القرن التاسع عشر وعودتها في ثلاثينيات القرن الماضي، وهي العودة التي ندمت عليها حيث تزوّجت بعد قصّة حب عاصفة.
جاء فيلم “يا عمري” الذي شارك في المسابقة الرسمية بمهرجان شرم الشيخ للسينما العربية والأوروبية الذي عقدت دورته الأولى العام الماضي 2017، بعد مرور ثلاث سنوات على وفاة الجدة “هنريات”. وحسب أحد تصريحات هادي زكاك مخرج الفيلم وحفيد الجدة فإنه لم يكن مستعدا نفسيا لإنجاز العمل، خصوصا وأنه كان الحفيد المدلل للجدة، فقد قال “أخذني الوقت ثلاث سنوات تقريبا لأستطيع صناعة فيلم عن جدتي، فقد كانت المواد المصورة كلها جاهزة، لكن عاطفيا لم أكن جاهزا، وعندما شعرت بتوازني إلى حد ما قررت صناعة الفيلم الذي خرج للنور عام 2017 مع عرضه الأول.. من الصعب أن تصنع فيلما عن شخص رحل وهو قريب منك إلى هذه الدرجة، فأنت أثناء عملية الإنتاج والمونتاج تُحيي الشخصية وتُميتها مئة مرة، هذا الشعور من الصعب وصفه”.

هل كان المخرج قاسيا؟
رغم امتلاك فيلم “يا عمري” الشرط الجمالي والعلمي، فإن المخرج هادي زكاك كان قاسيا على بطلة العمل “هنريات” حتى لو كانت جدته، إذ أنها وبعد أن جاوز سنها مئة سنة تغير شكلها كليا ولم تعد تفقه ما تقول، والدليل على ذلك الكلام المتناقض الذي صرحت به في العديد من المشاهد، من هنا وجب على المخرج أن يتخلى تماما عن التصريحات التي أدلت بها الجدة في هذا العمر، لأنها أصبحت غير مسؤولة عن كل كلمة تقولها. وقد كشف المخرج هذا بنفسه عن طريق العديد من المحطات في الفيلم، إذ كانت في وقت ما تهتم كثيرا بمظهرها وشكلها عن طريق وضع المساحيق أو عمليات تصفيف شعرها، ناهيك عن أنه معروف عنها الجمال وحسن المظهر، وعليه فمن المؤكد بأن هنريات لو كانت تعي ما تقول لما وافقت على أن تظهر في تلك الصورة المؤسفة، حيث تعمد المخرج تصوير تفاصيل العمر على جسدها عن طريق تصوير اليد المرتعشة والوجه المجعد والشعر الذي غزاه الشيب، وأكثر من هذا كان يصنع من هذه التفاصيل بؤرا أيقونية، بعد أن يقوم بزرع تشويش بصري على باقي الإطار، ناهيك عن السقطات وكلامها المتناقض الذي تحول إلى مصدر ضحك وفي الوقت نفسه مصدر حسرة.
ومن هنا يكون السؤال المحوري، هل كانت “هنريات” لتوافق بأن تظهر في تلك الصورة لو كنت تعي ما تقول وماذا تفعل؟، من المؤكد -في تقديري- أن الجواب سيكون “لا”، لأن المعطيات التي سبق وأن نقلها المخرج هي التي تشي بهذه الإجابة، وشخصيا وبعد انتهاء الفيلم تقربت من العديد ممن شاهدوا العمل، والكل اتفق على لا إنسانية الصورة التي ظهرت بها الجدة رغم اختلاف مستويات النماذج التي تواصلت معها، كما أنه من أخلاقيات إخراج الفيلم الوثائقي عدم استغلال الضيف، ومراعاة سلوكياته النفسية والجسدية.
هادي زكاك مخرج سينمائي لبناني حائز على جوائز عدّة، وأستاذ في معهد السينما -جامعة القدّيس يوسف- في بيروت. أخرج أكثر من 20 فيلما غير روائي، من أبرزها “كمال جنبلاط.. الشاهد والشهادة” (2015)، و”مارسيدس” (2011)، و”درس في التاريخ” (2009)، و”لاجئون مدى الحياة” (2006).