مدينة “كيمنز” الألمانية إلى “كارل ماركس”؟

مخرجة الفيلم “بيترا أبيرلين” أمام تمثال “كارل ماركس”

القدرة على الدخول من الخاص إلى العام والذهاب إلى أعماق عالم المخابرات والولوج إلى أقبية أجهزة الأمن السرية الألمانية الشرقية يضع فيلم “كارل ماكس سيتي” (Karl Marx City) من بين أهم الأفلام القاصدة فضح التاريخ القمعي للأنظمة الشمولية الأوربية وينقله أسلوبه المتفرد إلى مصاف الوثائقيات المُشرحة لمفاهيم الدولة الآيدلوجية ومآلاتها التاريخية على المستوى السياسي والفردي، وإحالتها علينا، في الوقت نفسه، أسئلة شديدة الصلة بمفهوم “التفكير السينمائي”، القادر على مراجعة التاريخ وفق رؤية نقدية تحليلية لا تُحيد عن اللغة السينمائية بل تتشبث بها باعتبارها آداة التوصيل البصرية الفعالة، التي بها يمكن فضح تاريخ معقد ومتداخل بين الموقف العام وبين المراجعة الشجاعة الذاتية، التي تسمي الأشياء باسمائها انطلاقاً من فكرة “التصالح مع الذات” والتي تبدأ المخرجة “بيترا أبيرلين” بها حال شروعها في البحث عن سبب انتحار والدها في ألمانيا بعد توحيدها.

أما سؤال “المصالحة مع الماضي” الأعقد والذي سيرافق بحثها عنه زميلها المخرج “مايكل توكر” ويمضيا سوية  ـ كما فعلا في فيلمها عن حرب العراق “قصر غونر” 2004، والذي ما زال في نظر الكثير من النقاد واحداً من أهم الأفلام الرائدة في تناول الاحتلال الأمريكي للعراق وفي وقت مبكر ـ  لتسجيل رحلة بحث  جديدة عن الماضي السياسي لجمهورية ألمانيا الشرقية (قبل اتحادها مع ألمانيا الغربية عام 1989) فيما ستبتعد هي عنه بمسافة لتبحث الجانب الشخصي من حكاية “مدينة كارل ماركس” والتوصل، مهما جاءت النتائج صادمة، إلى حقيقة والدها ولماذا أَقدم على الانتحار؟ والسؤال الأكثر مدعاة لقلقها هو؛ هل كان متعاوناً مع أجهزة المخابرات الألمانية الشرقية (شتاسي)؟.

كارل ماركس، الشيوعي الذي ظلت مدينة “كيمنتس” تسمى باسمه حتى عام 1990

راوية الأحداث المخرجة نفسها، لكن ليس بلسانها فالشخص الثالث هو الحاضر صوتاً، ينقل عنها الأحداث بصيغة المفرد الغائب! وفي هذا محاولة منها لتجنب السقوط في الانحياز اللاموضوعي وربما لهذا السبب اقترحت الظهور المستمر في كل الأمكنة وهي تحمل لاقط صوت وسماعات كبيرة وضعتها على أذنيها لتبدو كما لو أنها تريد التقاط أصوات الناس و”الأشياء” سراً، كما يفعل الجواسيس وعملاء المخابرات واختارت لفيلمها الأسود والأبيض ألواناً لتضفي مزيداً من العتمة على مشاهده وروحه.

على لسان الرواية سنتعرف على المدينة محور البحث والتحري ومن اسمها سنكتشف أولى علامات التعصب الفكري الذي لازمها؛ فاسم “كارل ماركس” ـ  الفيلسوف الألماني وصاحب “البيان الشيوعي”ـ محا عنوة اسمها الأصلي؛ “كيمنز”، وتوسط تمثاله البرونزي العملاق ساحتها وظل في مكانه حتى بعد سقوط الشيوعية أواخر عام 1989 لكن المدينة استعادت اسمها القديم!. في تلك المدينة عاشت مع أخويها التوأم وفي ظل عائلة متماسكة سعيدة. والدها كان موظفاً في واحد من مصانعها الكثيرة. كان محباً لركوب الدراجات وسياقة السيارات. بعد سقوط جدار برلين انتقلت هي مباشرة الى ألمانيا الغربية ومنها ذهبت إلى الولايات المتحدة الأمريكية. هناك وصلتها رسائل ومعايدات بريدية قليلة منه واحدة منها غامضة يلمح فيها إلى احتمال “ذهابه بعيداً لاقتراب اللحظة التي عليه فيها مغادرة ألمانيا الى الأبد”. في عام 1999 وصلها خبر موته انتحاراً.

صانعا الفيلم “بيترا أبيرلين” والمخرج “مايكل توكير”

موته أثار في نفسها حزناً وأيقظ “الحنين” إلى بلد تركته دون رجعه لكن القدر يدفعها ثانية للذهاب إليه. في الحقيقة لم يكن غموض الانتحار هو السبب الوحيد بل السؤال عن؛ الأب ومن يكون؟ لم تكن تعرف أي شيء عن دوره السياسي خلال حكم الحزب الاشتراكي الألماني الموحد، وهذا ما كان يحفزها للذهاب مباشرة الى الذين عاشوا معه التجربة الاشتراكية، وحتى تحيط نفسها بمصدات الأسئلة قابلت محللين وخبراء في الشأن الألماني وعلماء نفس وراجعت كتاب “تاريخ ألمانيا” الذي ستضيف اليه فصلاً خاصاً بها يذهب لبحث جوانب من العلاقة بين السلطة الشمولية والشعب ومقدار تواطؤ الأخير مع قياداته؟ أمر قلما يجري البحث عنه في التجارب الديكتاتورية، التي تُحيل سبب الهيمنة والخراب الى الزعامات فحسب، فيما تصف الناس ب”المسلّوبي الارادة”؟!

ذهبت إلى أمها وسألتها عن نشاطها السياسي. ظهر أنها مثل ملايين الناس قبلت “الترشيح” لعضوية الحزب الحاكم ضماناً لمستقبل أولادها وحرصاً على وجود “سند” لتأمين مستقبلهم دون مخاطر. الغريب أن والدتها لم تذكر لها شيئاً عن دور والدها في الحراك السياسي المحتدم طيلة الوقت بسبب حدة الصراع الأيدلوجي بين المعسكرين؛ الإشتراكي والرأسمالي خلال الحرب الباردة. كل التلميحات تشير الى علاقة والدها “الطبيعية” مع السلطة لكن رسالة وصلت الى والدتها هزت صورته. سطورها القليلة تضمنت تهمة تعاون والدها مع جهاز المخابرات الألماني الأشتراكي. تهمة تأتي بشاعتها في ذهن الألماني بالدرجة الثانية بعد الانتماء الى النازية. أَجْلَت الرسالة مخاوف المخرجة فراحت تتقصى حقيقة نشاطه من خلال وسيلة سينمائية شديدة الدهاء بها “عرت” أجهزة قمع طالما وقفت ضدها وجاءت اللحظة المناسبة للغور عميقاً في ثناياها وعرضها على العالم.

بوستر فيلم “كارل ماكس سيتي”

كل من عرفتهم بما فيهم أخويها لم يؤكدا لها صلة والدهم بالمخابرات السرية التي جندت الملايين من الألمان وكسبت أعداد كبيرة من المخبرين المتطوعين، الذين كُلفوا برصد أدق تفاصيل الحياة المحيطة بهم. واحدة من ألمعيات شغل “بيترا أبيرلين” اقترانه بالوثيقة والصورة وبالشهادات الحية في كل مرحلة من مراحل بحثها لهذا جاء فيلمها مشبعاً بالصورة المعبرة ذات الدلالات القوية. لاحاطة جانب التعاون والاشتراك قابلت منتسبين سابقين لأجهزة المخابرات حكوا لها بالتفصيل عن برامجها وتكتيكاتها وقدرتها على اشعار المواطن بكونه مُراقب ومتحَكَم به، وعليه نجحت في أحداث شرخ نفسي/ مجتمعي صار كل مواطن لا يثق بالآخر. عدم الثقة كان المفتاح السحري لعمل المخابرات فيما أولت النشاط الآيدلوجي عناية خاصة لقوة تأثيره في اقناع الجموع وتشجيعهم على الانتماء الى صفوفها دون وعي منهم لخطورة ما يقدمون عليه، وأحد أهم المحركات لذلك الاندفاع التطوعي الذاتي كانت الحرب العالمية الثانية. فانتصار المعسكر الاشتراكي أعطى قوة للأحزابه الحاكمة وزادت النتائج الايجابية التي تبعتها على مستوى البناء من قناعة قطاعات كبيرة من شعوبها بصحة نظريتها وخذلان التجربة الرأسمالية. لم يكن المتعاونون مع المخابرات بحاجة الى دافع. كانت الآيدلوجية تلعب هذا الجانب وبالتالي فالحديث عن “الاستلاب المطلق” ليس دقيقاً حسب مسار حكاية “مدينة كارل ماركس”.

خلال فترة انقسام الألمانيتين، وبين عامي 1953 و1990 كانت مدينة “كيمنتس” تسمى مدينة “كارل ماركس”

على المستوى التطبيقي تشجعت الأجهزة القمعية على لجم المعارضين للنظام في خطوات استباقية لم تشهد إلا دول قليلة في العالم مثلها. لقد سبقوا العمل المعارض بالقمع والمراقبة ولهذا وحين دخلت المخرجة الى أرشيف المخابرات الألمانية الشرقية ذُهلت من حجم التقارير الواصلة إليها والمحفوظة في أقسام تصل لو صفت إلى جانب بعضها البعض آلاف الكيلومترات. راحت تصورها “افتراضيا” بسخرية فليس من المعقول أن تسجل دولة تفاصيل حياة ملايين من شعبها وعلى مدار الساعة. هكذا كان الحال والأدلة التي قدمها لها الخبراء في الشأن الأمني عززتها حتى انها وصلت الى السينما. في فصل ممتع من كتاب تاريخ بلادها القمعي قابلت مسؤول المتحف التاريخي المعاصر وهناك وجدت في موقفه ما يسترعي التسجيل. لقد عارض بقوة فكرة وجود “طيبة داخلية” عند رجال أجهزة الأمن كالتي ظهرت في فيلم “حياة الآخرين”، لهذا رفض التعاون مع مخرجه ورفض طلبه تصوير بعض مشاهده في المتحف. تذرع المخرج “فون دونيرسمارك” بتجربة فيلم “لائحة شندلر”، ولم ينفع تذرعه. فالرجل كان يرى فيلم سبيلبرغ واقعياً عكس فيلمه؛ خيالياً يُجمل الوجه القبيح لرجل المخابرات القاسي القلب عديم الرحمة والضمير!.

شهادات المتعاونين والمخبرين السريين عززت الانطباعات العامة عنهم لكنهم أحالوا الكثير منها الى السياسة المركزية للدولة القمعية. لقد أسس الحزب الاشتراكي الألماني مهتدياً بالتجربة السوفيتية “دولة صمت” من طراز نادر.  صنعوا جيشاً من الصامتين غير المبالين بما يحدث لغيرهم لكنهم وحال انطلاق شرارة التغيير في عهد الرئيس “غورباتشوف” تحولوا فجأة الى معارضين وكارهين للنظام السابق!؟. لا تهمل صانعة الفيلم المذهل وأحد أفضل الوثائقيات الاستقصائية التحليلية المتناولة؛ التاريخ السياسي للدول الشمولية، التفاصيل الدقيقة فتذهب، بمعونة خبراء سياسيين واجتماعيين، لدراسة الظاهرة الجديدة التي نتج عنها تشويه مخيف للعقلية الألمانية وتغيير كبير في السلوكيات الاجتماعية والفردية رصدته من خلال تجربة والديها، اللذان وجدا نفسيهما فجأة في وضع لا يحسدان عليه. واجها البطالة وصعوبة التكيّف مع نظام رأسمالي، وعد بالكثير لكنه لم يقدم إلا ما كان يريد تقديمه توافقاً مع مخططه في الانتقال السياسي السلمي إلى النظام الرأسمالي ووفق شروطه. شعر الأب بالاحباط وخافت عليه زوجته من أن يعيد تجربة انتحاره السابقة ثانية!

فوجئت البنت بالمعلومة التي لم تسمع بها من قبل. لماذا حاول الانتحار في ظل نظام يفترض أنه كان منسجماً معه؟ هذا السؤال سيقودها لمعرفة الحقيقة بنفسها من داخل أقبية وأرشيف المخابرات الألمانية. تسجل اللحظات التي عاشها رجال المخابرات قبل سقوط سلطتهم بأيام وكيف راحوا يمزقون كل أرشيفهم مبقين فقط على أسماء المتعاونيين معهم. واحدة من الخطوات المذهلة التي لعبتها المعارضة الألمانية الشرقية تمثلت في لصق الوثائق الورقية الممزقة واعادة الآلاف منها الى ما كانت عليه؛ أصلية ليتمكن الألمان والعالم من معرفة حقيقة ما كان يجري وكشف حجم الوشاية وتفشيها والتي بسببها واجه بشر مصائر فاجعة. من بين كل تلك التقارير والوشايات كانت تنتظر جواباً واحداً وقد وصل اليها أخيراً: لم يكن والدها متعاوناً ولا عميلاً سرياً للمخابرات بل أُدرج عندها كمعارض وغير راضٍ عما تفعله السلطة “الاشتراكية” بشعبها. كم ستشعر بالسعادة والارتياح لعثورها على والدها الذي في ذهنها. لم يخذلها ولم يفسد صورته الحلوة داخلها. انتهت رحلتها بتوافق ومصالحة مع ذاتها ومع أهلها ومصالحة ثانية مع التاريخ، الذي كتبت بنفسها جزءاً منه وبوسيلتها التي تجيدها؛ السينما وتركت الباقي للآخرين. كُلٌ يسرده بطريقته الخاصة.


إعلان