“الحياة بالصور المتحركة” والعلاج بأفلام ديزني
أمير العمري
الفيلم الوثائقي الأمريكي الجديد “الحياة بالصور المتحركة” The Life Animated الذي أرى أن أفضل ترجمة له هي “الحياة من خلال أفلام التحريك” للمخرج روجر روس ويليامز، من الأفلام النادرة التي تناولت موضوعا إنسانيًا فريدًا ومثيرا لاشك أنه بمكن أن يلقى اهتمام المشاهدين في العالم كله. إنه فيلم عن مرض يستعصي على الشفاء، وعن القدرة الفريدة على قهر المرض بالخيال، عن الأسرة وتماسكها واحاطتها بالإبن المريض ودفعه وتشجيعه للنظر إلى العالم بتفاؤل، والقيام بدور مباشر وفعال في مساعدته على تجاوز حالته المرضية.
نحن أمام عمل وثائقي مثالي في كل عناصره: اختيار الموضوع، كتابة السيناريو تصميم بناء متماسك للفيلم، التوازن بين المادة المصورة خصيصا والمواد القديمة من الأفلام العائلية، التوازن بين جرعة الخيال وجرعة الواقع، بين السينما وأفلام التحريك، وبين الحالة الذهنية والعقلية للشخصية الرئيسية التي يدور حولها الفيلم، والمقابلات المصورة مع الأطراف المختلفة التي عاصرت تطور الحالة التي نراها.
فكرة الفيلم مقتبسة من كتاب بالعنوان نفسه، أصدره الصحفي المخضرم رون ساسكند الذي عمل طويلا لصحيفة “وول ستريت جورنال”، وفيه يستعرض التجربة الخاصة بابنه “أوين” الذي أصيب بمرض التوحد وهو في الثالثة من عمره، ففقد القدرة على الكلام وظل كذلك لسنوات عديدة. يصور الفيلم في جزئه الأول من خلال المقابلات ومقاطع من الأفلام المنزلية الكثيرة التي كانت الأسرة تصورها للمراحل المختلفة من عمر ولديها (لأوين شقيق هو وولتر يظهر في مشاهد كثيرة من الفيلم) كيف كان أوين في البداية طفلا متألقا جميلا ثم توقف فجأة عن الكلام، وفقد القدرة على السير بشكل طبيعي، وكان كل ما يخرج من فمه مجرد حشرجات غير مفهومة.
تتردد الأسرة على أكثر من طبيب من الأطباء النفسانيين الى أخصائيي الجهاز العصبي، ويتوصل التشخيص إلى إصابة أوين” بنوع ما من مرض “التوحد”، يجعله يميل إلى اعتزال البشر، والخوف من العالم، وبالطبع عدم القدرة على فهم ما يدور من حوله، وعدم فهم العالم والعجز على التواصل مع الآخرين. تمر الأسرة بفترة من الصدمة والاضطراب والقلق الشديد بعد ان يقول الطبيب المشرف على متابعة الحالة إن أوين قد لا يتمكن من الكلام، وإنه حتى لو تمكن فيما بعد فسيقتضي الأمر اعتماده على مساعدة آخرين طيلة حياته.
يعتزل أوين العالم ويدمن على مشاهدة أفلام التحريك (الرسوم المتحركة) من إنتاج شركة وولت ديزني مثل علاء الدين وبينوكيو وبيتر بان والملك الأسد والحورية الصغيرة وغيرها. ويقضي وقتا طويلا في مشاهدة شرائط الفيديو الـVHS ، ويبدو سعيدًا وهو يشاهدها. يروي الأب أنه بعد مرور سنوات على بداية المرض، فجأة وأثناء مشاهدة “أوين” لفيلم “علاء الدين” صدرت عنه عبارة من عبارات الحوار التي تأتي على لسان شخصية “إياجو” في الفيلم، وهو الطائر الغريب الذي يرتبط بصداقة مع البطل. لا يقتصر الأمر على هذا بل ويبدأ أوين أيضا في إصدار أصوات تحاكي أصوات الشخصيات الكرتونية في أفلام ديزني. يصعد والده وراءه الى غرفته، يزحف على الأرض، يحاول التواصل معه من خلال محاورته باستخدام نفس حوار الفيلم، يحمل دمية كانت ملقاة على أرضية الغرفة لشخصية “إياغو”، يلبسها في يده، ثم يختفي تحت الفراش ويتخاطب مع أوين مقلدا صوت “إياغو” في الفيلم، فيستجيب أوين ويصبح من هذه اللحظة قادرا على الحديث بلغة أفلام التحريك الشهيرة.
يحضر أوين الكثير من جلسات التأهيل مع غيره من مرضى التوحد، يشرح لهم بصوته وطريقته الخاصة التي تشي بوجود المرض، ولكن في الوقت نفسه، محاولة قهره والسيطرة عليه. لقد نجح الخيال المصور في استدراج أوين للتعايش مع شخصياته التي وجد أنها بسبب حركيتها وجاذبيتها وعدم واقعيتها أي اختلافها عن العالم الواقعي المحيط به لأناس لا يرغب في التخاطب معهم، تشكل بديلا جيدا يعيش فيه، ساعده في استعادة القدرة على التفكير والتواصل والحديث.
بعد أن يلتحق أوين بالمدرسة يعود ذات يوم، محبطا بسبب ما كان يلقاه هناك. وهو يروي لنا الآن أمام الكاميرا مباشرة من خلال المشاهد العديدة التي يظهر فيها في هذا الفيلم بعد أن تجاوز العشرين من عمره، كيف كان يتعرض لتحرشات زملائه وسخريتهم منه، وقد آثر بعد ذلك ألا يعود للمدرسة، وأصبح يجد نفسه أكثر متماثلا مع الشخصيات المنبوذة في أفلام ديزني أو تلك الشخصيات الهامشية المساعدة، وقد جلس وبدأ يرسم تلك الشخصيات في كراسة أطلق عليها “أرض المنبوذين”، وصنع لها بطلا يحميها ويدافع عنها. هذا الخيال البديع نراه من خلال رسومات أوين نفسه.
نراه الآن شابًا بعد أن أصبح مرتبطا بعلاقة عاطفية مع فتاة مثله تحاول مكافحة مرض التوحد هي “إيميلي”، تستغرقه هذه العلاقة ويعيشها برومانسيته المستمدة من عالم أفلام التحريك، لكن شقيقه وولتر يحاول أن يختبر وعيه بالحاح الرغبة الجنسية، ولكن بلا جدوى، ويكون تعليق وولتر أن علاقة أوين بالعالم تتحدد من خلال ما يشاهده في عالم ديزني الرومانسي الذي يخلو تماما من الجنس، وأن أفلام ديزني عادة ما تنتهي بقبلة بريئة إيذانا بحلول النهاية السعيدة.
من حسن حظ أوين أنه نشأ في تلك الأسرة التي بذل أفرادها جهودا هائلة للوقوف معه ومساندته واتاحة كل الفرص الممكنة أمامه. بعد أن بلغ أوين الثالثة والعشرين من عمره تشتري الأسرة له شقة جديدة في ضاحية بعيدة نسبيا عن مكان اقامتها، وينتقل أوين- كما نشاهد- للعيش في هذه الشقة بعد أن ينقل إليها أشياءه الخاصة وأولها بالطبع مجموعة شرائط الفيديو لأفلام ديزني التي لايزال يحتفظ بها. والهدف من هذا اتاحة الفرصة له لتجربة الحياة اعتمادا على نفسه. ثم نراه وهو يتوجه لحضور مقابلة مع مدير دار للعرض السينمائي قريبة من مكان اقامته، سعيا للحصول على وظيفة في هذه السينما. ثم نراه وهو يدير مناقشات في احدى جمعيات رعاية مرضى التوحد، يعرض أفلامه الأثيرة على الحاضرين من المرضى، في حضور جيلبرت جوفريد وجوناثان فيرمان اللذين قاما بالأداء الصوتي لشخصيتي علاء الدين والطائر اياغو في فيلم ديزني الشهير، وهي مفاجأة أسعدته كثيرا حيث يشترك الجميع في استعادة بعض مقاطع الفيلم.
يذهب أوين الى فرنسا بدعوة خاصة لإلقاء كلمة أمام جمع من المتخصصين والخبراء في هذا المرض، يقوم أولا باعداد الكلمة التي سيلقيها.. يحاول كما نشاهد- الاستعانة بوالده لكن الأخير يرفض ويصر على أن يتوصل أوين بنفسه الى ما يرغب في التعبير عنه.. نراه وهو يعاني من أجل صياغة الكلمات، ثم انهاء كلمته، وعندما يلقيها نكتشف أنه قد أصبح على درجة عالية من البراعة في الصياغة والقدرة على مواجهة الحشد من الحضور بفضل ما يتمتع به من روح المرح والبساطة الآسرة.
لا يكف المخرج عن الاستعانة بمقاطع من أفلام ديزني، خاصة تلك التي تركت تأثيرها على أوين مثل “الملك الأسد” و”علاء الدين”، بل ويصور أوين في لقطات كثيرة وهو جالس بمفرده في غرفته، يقلد شخصيات تلك الأفلام بصوته، بما يوحي أنه لايزال يعيش في أجواء تلك الأفلام. وفي المشاهد التي يروي فيها الأب أو الأم عن تجارب الماضي خلال طفولة أوين، يستخدم المخرج صورًا من الرسوم (معظمها بالأبيض والأسود) التي صممها مجموعة من الفنانين الفرنسيين خصيصًا من أجل هذا الفيلم، كما في المشهد الذي نرى فيه المحاولة الأولى للتواصل بين الأب والإبن من خلال الاستعانة بدمية إياغا في فيلم “علاء الدين”، وغير ذلك من المشاهد، وهي وسيلة ذكية تنسجم مع مادة الفيلم، وتضفي جاذبية اضافية عليه.
نتابع قرب النهاية أوين بعد أن أصبح يعمل في دار السينما، ونرى كيف تهجره صديقته إيميلي وتأثير هذه الصدمة عليه، وحديثه التليفوني من داخل شقته مع والدته واحتجاجه الحزين على ما يرى أنه أمر “غير عادل”.. وعندما تقول له أمه إن هذه هي طبيعة الأمور، وأن في الحياة “أشياء جميلة ممتعة تجعلنا نعيش أوقاتا سعيدة، وأشياء أخرى محزنة” يتساءل في غضب واحتجاج طفولي “لماذا تمتلئ الحياة بالحزن والمآسي على نحو غير عادل”. وتكون إجابة الأم على الطرف الآخر: هكذا الحياة وليس هناك من تفسير لذلك، وعلينا أن نعرف كيف نتحامل ونتجاوز ونمضي في الحياة.
ينتهي فيلم “الحياة بالصور المتحركة” نهاية مفتوحة، فأوين يتعين عليه أن يواجه الحياة الآن بمفرده. صحيح أن والده ووالدته مازالا على قيد الحياة، وصحيح أن شقيقه وولتر يزوره بين فترة وأخرى ويتجول الاثنان معا، لكننا نشعر في النهاية أن نظرته للعالم ربما تظل خاضعة لزمن طويل قادم، لعالم الخيال المصور.. الجميل!