“كل الذي يمرّ أمام النافذة التي لا تُفتح”.. عمال في سكة الحديد المنسية
في سكة قطار منسيّة تمتد على مسافات طويلة في أرمينيا وأذربيجان، يعثر المخرج الأمريكي الشاب المُتعدد المواهب “مارتن دي سيكو” على موضوع فيلمه الوثائقي الطويل الأول “كل الذي يمرّ أمام النافذة التي لا تُفتح” (All that Passes By Through a Window That Doesn’t Open)، فقد قررت السلطات في البلدين إلغاءها، بسبب ضغوطات دولية وطموحات محلية عجولة، لتفسح المجال لسكة جديدة دولية تصل بين الصين وأوروبا.
يُقارب المخرج هذا الموضوع الكوني بشاعرية طافحة، ويسجل بذاتية نهاية حقبة تاريخية طويلة، وبداية أخرى غير واضحة المعالم. وفي كل ذلك يبقى الفيلم قريبا دائما من هواجس ومخاوف وعدم يقين عمال سكك حديد في البلدين في تلك الأزمان المفصلية من حياتهم، وهي التي ستشكل أساس هذا الفيلم الذي ينقسم إلى ثلاثة أجزاء، صورت جميعها على سكك قطار أو قريبا منها.
مجتمع السكك.. عمال يرزحون في أغلال التهميش
توفر الأحداث التي وقعت أثناء تصوير هذا الفيلم الوثائقي لقطات متميزة، فسكة الحديد القديمة التي نسمع في بداية الفيلم بأن هناك خططا حكومية لتبدليها بأخرى حديثة، ستقتلع أجزاء منها من الأرض أمام كاميرا الفيلم، في مشاهد بدت كأنها تقطع مفهوم التواصل الذي تمثله القطارات التي تسير عليها، والعمال الذين ظهروا في جزء الفيلم المصور في أذربيجان كانوا يتساءلون في بداية الفيلم عن جدوى صرف أموال طائلة على سكة جديدة، بينما القديمة ما زالت قادرة على أداء مهمتها.
سينشغلون بعدها بمشاكلهم الشخصية، إذ أنهم لم يتلقوا رواتبهم خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وهم يقضون أوقاتهم بعيدا عن أهلهم، في قطار حوّر ليتحول إلى غرف صغيرة يتشاركون المبيت فيها. في حين سيبدو العمال الأرمينيون على الطرف الآخر من الحدود، كأنهم بانتظار أبدي لقطار لن يصل أبدا على السكة القديمة، وهم يتحسرون على أيام خلت كانت فيها القطارات بين البلدين مليئة بالحياة والبضائع.
“نحن نعيش هنا مثل الإخوة”
بكاميرا قريبة ولكن غير متطفلة يبقى المخرج -وهو يصور فيلمه بنفسه- قريبا من العمال الأذربيجانيين، ناقلا الحياة اليومية في مجتمع ذكوري بالكامل.
يصور الفيلم دورة الحياة اليومية للعمال، ويبدأ من صحوهم المبكر، ويراقبهم في ساعات عملهم الطويلة، وأوقات الراحة القليلة، وعندما يعدون طعامهم وتشاركهم الأكل في صحون صغيرة، ويقدم في مشهد طويل صلاة أحدهم وقراءته للقرآن الكريم بعربية مكسرة.
وفي مشاهد أخرى ينقل سهرة شراب لبعضهم، والرقص الجماعي الذي ينطلق بعفوية بعدها، ويتحدث أحد العمال دون أن يظهر وجهه على الشاشة قائلا: “نحن هنا نعيش مثل الإخوة”. ولم تكن أخبار العالم الخارجي المضطرب بعيدة عنهم، فنرى العمال في مشهد مؤثر وهم يتابعون بقلق وعدم راحة جهاز تلفزيون قديم كان ينقل مشاهد من العنف السوري المتواصل.
نتف الحوارات.. أحاديث عفوية تصنع حميمية الفيلم
يجتهد المخرج أن يبعد فيلمه عن المقابلات المباشرة مع شخصياته، ويلتقط في المقابل نتفاً من المحادثات التي تجري بينهم، بينما يقدم الحوارات التي أجراها مع بعضهم كتعليق صوتي غلبت عليه الشاعرية لمشاهد الحياة اليومية، في بيئة جغرافية تتراوح بين القسوة والجمال الكبير.
لا أحداث كبيرة تقع في زمن الفيلم، ولن تهيمن شخصيات معينة عليه، بيد أن الفيلم ينتفع من تركيزه على الدينامية التي تنشأ بين رجال يعيشون ويعلمون في مكان واحد، محتفلا (أي الفيلم)، بلحظات ذاتية خاصة ضمن هذه البيئة الجماعية، فهو ينقل حلم أحد العمال بزيارة تركيا، حيث المدينة الكبيرة كما يصف.
ويذهب مع عامل شاب آخر إلى مدينة قريبة، ويعود معه في مشاهد مكتنزة بالشاعرية، إلى قصة حب للشاب مع فتاة، انتهت بالطبع بالفراق.
عبور الحدود.. محطة يلفها السكون والحزن والإهمال
تتغير طبيعة مشاهد الفيلم بعد أن يعبر الحدود وينتقل إلى أرمينيا، فالطاقة المتأتية من حركة العمال الأذربيجانيين التي لا تتوقف، تختفي على الحدود مع أرمينيا، فما زال العمل لم يبدأ بعد على سكتها الحديدة، ويلف محطة القطار الحدودية هناك السكون والحزن والإهمال.
ومثلما فعل مع شخصياته في أذربيجان، لا يُعرّف الفيلم تقليديا بالعمال الأرمنيين (لا نعرف أسماءهم مثلا)، بل يسجل أحاديثهم إلى بعضهم، ويختزل أوقات انتظارهم الطويل في مشاهد صورت عن بُعد بعدسات واسعة لتبرز الوحدة القاسية ومجهولية المستقبل.
وعندما يحلّ المساء هناك، يهرب الجميع هناك إلى الكحول، لتنبسط أساريرهم بعدها، فيما يبدو كأنه هروب جماعي من ظروف عامة وتغييرات تفوق قدرتهم على الفهم أو الاستيعاب.
أفضل فيلم وثائقي طويل أول.. رؤية إنسانية في محيط قاسٍ
حصل فيلم “كل الذي يمرّ أمام النافذة التي لا تُفتح” على جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل أول في الدورة الماضية لمهرجان “رؤى الواقع” (Visions du Réel) السويسري للسينما الوثائقية (2017)، في تكريم جديد للسينما الوثائقية المغايرة والشاعرية التي يمثلها هذا الفيلم، من التي تبحث عن أساليب سينمائية أصيلة وغير مسبوقة في معالجتها لقضايا اجتماعية مُعاصرة، تاركة أحيانا تأثيرات شديدة الفعالية.
يحول الفيلم الفعل المادي لإزالة سكك حديد قديمة، إلى استعارة قوية لعالم يزول ببطء، بينما ستكون مشاهد الحياة اليومية لعمال سكك الحديد -بما تكشفه من قلق وخوف- إحدى انعكاسات التحولات الكبيرة التي تداهم حياتهم.
يبحث المخرج عن الشاعري في محيط قاسٍ يتألف من الآلات والحديد الصدئ، ويقدم مشهدا إنسانيا مؤثرا لمجموعة مهمشة من العمال الأذربيجانيين والأرمنيين.