فرنسيون رفضوا القتال في حرب الجزائر

محمد موسى
يَبحث المخرج السويسري فيلي هيرمان في فيلمه التسجيلي الطويل “يختار في سن العشرين” في صفحة منسيّة من التاريخ الحديث، حيث يعود إلى حادثة رفض مئات من الجنود الفرنسيين في مطلع عقد الستينيات القتال في حرب الجزائر التي كانت دخلت حينذاك في دموية غير مسبوقة. هرب قسم من هؤلاء الجنود إلى سويسرا التي طلبوا اللجوء فيها ومازال أغلبهم يعيش هناك، وتعرض الذي بقي في فرنسا لمحاسبة شديدة وعقوبات سجن وصلت إلى بضع سنوات، بينما شَكَّلت حرب الجزائر بعنفها الكبير نقطة مفصلية لمجموعة من هؤلاء الجنود، لجهة دفعهم إلى تقييم دورهم ومسؤولياتهم في العالم، فقرروا الذهاب إلى الجزائر، ليس كمقاتلين بل متطوعين في مدارس أطفال في مناطق نائية.
يَصِل الفيلم التسجيلي إلى شخصياته وقد تعدوا الثمانينات من أعمارهم، يعيشون – وكما يبدون في الفيلم – حياة شيخوخة راضية، ويسترجعون بفخر مغلف بالحزن الحادثة التي غيرت حياتهم وقادتهم إلى فهم مُغاير وإنساني لما يجري في العالم. يسجل الفيلم في نصفه الأول شهادات لجنود سابقين، وهم يستعيدون الزمن الذي سبق قرارهم المهم، وقناعاتهم حينها أن الحرب تلك هي امتداد لماض استعماري فرنسي لا يرغبون أن يكونوا جزءاً منه. تختلف خلفيات الجنود الاجتماعية، فمنهم من أتى من طبقات فقيرة، وبعضهم من أبناء طبقة اجتماعية متوسطة، من التي كانت تحرض على مناقشة الأفكار والبديهيات السائدة.
يبدأ الفيلم بمشاهد مأخوذة من أفلام روائية تظهر القساوة التي كان يتعامل بها الجيش الفرنسي مع جزائريين، والتي ستخلق إبان عقد الستينيات من القرن الماضي في فرنسا مناخاً مهد لحركة احتجاجات كبيرة، سيكون رفض الخدمة في الجيش أحد أشكالها. بعد البداية تلك يقدم الفيلم لقاءات مطولة لشخصياته غلب عليها النفس التلفزيوني، مع مشاهد أرشيفية بالأسود والأبيض كانت تقطع رتابة الحوارات الطويلة. إلى جانب اللقاءات، يبدأ الفيلم، وعبر استعادته لرسائل كان يبعثها أحد الجنود الرافضين للخدمة لأهله في إحدى المدن الفرنسية، بالتركيز على تجربة ذاتية وعاطفية في مواضع، لما مرَّ به جندي تجاوز العشرين بقليل في تلك الفترة، والعواقب النفسيّة والخيارات التي كان يتوجب عليه أخذها. كما تستعيد تلك الرسائل المناخ الذي كانت تعيش فيه العاصمة الفرنسية باريس، التي لجأ إليها كاتب الرسائل، قبل أن يتوجه إلى الجزائر للعمل كمعلم متطوع في إحدى مدراسها الابتدائية.

لا يكتفي بالفيلم بالتركيز على تجارب الجنود الذاتية، بل يوسع بحثه ويتناول المناخ الفكري والحزبي الذي كان سائداً وقتها، إذ إن خطوة الجنود العفوية وقتها برفض الاشتراك في حرب غير مبررة ستتطور إلى نشاط حزبي، حيث سينضم مجموعة كبيرة من هؤلاء الجنود إلى صحف ومنظمات حزبية رفعت شعارات سلميّة وضد العنف، بعضها شيوعية التوجه، فيما اهتم جنود آخرون بالفنون والثقافة، ومنهم من انطلق إلى الجزائر ليصور الحياة اليومية للجزائريين الفقراء في مناطق موحشة وفقيرة، ويقدمها بصور فوتوغرافية مُؤثرة كثيراً.
وفي تحول سينتفع منه الفيلم كثيراً، يركز النصف الثاني من العمل التسجيلي الطويل (100 دقيقة) على الجزائر، فيذهب المخرج مع فريقه إلى هناك لتتبع آثار الجنود الفرنسيين الذين عملوا هناك، وبالتحديد لصاحب الرسائل، الذي كان يسجل يومياته في منطقة عين العرب في الجزائر ويبعثها في رسائل إلى والدته في فرنسا. تتوقف في النصف الثاني من الفيلم المقابلات المباشرة، ويبدأ المخرج البحث عن الجزائريين الذين كانوا أطفالاً في الصور الفوتوغرافية التي التقطتها أحد الجنود والذي كان أيضاً مُصوراً مبدعاً، ويلتقي الفيلم مجموعة من الذين ظهروا في الصور، ويستعيد معهم تلك الأيام الصعبة كثيراً، في المنطقة الجغرافية القاسية للغاية التي تقع على الحدود الجزائرية المغربية.

تختلف طبيعة المشاهد في قسم الفيلم الذي صور في الجزائر، فمالت إلى تصوير جزائريين وهم يحدقون إلى الكاميرا، مؤسسين بحضورهم الصامت مناخاً يبعث على التأمل والتساؤلات عن حيواتهم الماضية وما مرَّت بها منذ أن صورهم المصور الفرنسي في مطلع عقد الستينيات الماضي. وفي مشهد مؤثر سيبكي جزائري مسّن كان يجلس على كرسي للمعوقين وهي يرى نفسه وأصدقاء طفولته في صور فوتوغرافية لم يكن يعرف أنها موجودة أصلاً، وسيخرج منه بعد فترة صمت طويلة كلمة “دنيا”، لتخلص رؤيته لحياته التي مرَّت سريعاً. تساعد الصور إحدى الجزائريات في تذكر تلك الأيام، وتتحدث عن الفراغ الكبير الذي تركه “الفرنسيون المتطوعون الطيبون” في القرية بعد مغادرتهم في عام 1968.
يتميز الفيلم بالمادة الأرشيفية الكبيرة والمتنوعة التي تمكن من الحصول على حقوق عرضها، منها أفلام وصور فوتوغرافية للحياة في باريس في الخمسينيات والستينيات، وصور وأفلام ربما شديدة الندرة للحياة القاسية للغاية في منطقة عين العرب في الجزائر، منها لأطفال يمشون بدون أحذية في الطين في شتاءات قارسة كثيراً، وكما وصف الجندي الفرنسي بعاطفية في إحدى رسائله لأُمّه في فرنسا. ينسج المخرج من المواد الأرشيفية المتنوعة قصة ملهمة عن الزمان والمكان، مُبرزاً الموقف النبيل للجنود الذين رفضوا الخدمة العسكرية، والذي سيكون له عواقب شخصية وخيمة، فأحد الجنود سيروي للفيلم بأنه لم يكن قادراً على زيارة والدته المريضة في فرنسا إلا مرة واحدة فقط، وعندما فارقت الحياة لم يذهب إلى الجنازة خوفاً من الاعتقال.