كيف تنزع فتيل قنبلة!
قيس قاسم
لم يدخل المخرج “ديس هندرسون” إلى المشكلة الأيرلندية من زاوية سياسية ولا من بوابة التاريخ بل فضّل الدخول إليها من خلال تجربة صغيرة، تُعيد رغم بساطتها تاريخا طويلا مؤلما من حربها الأهلية وتثير الانتباه إلى مساهمات إنسانية غير منظورة ساعدت على حلحلة مواقف متشددة لم يصدق أحد وجود إمكانية لحلحلتها، ناهيك عن إمكانية حلها سياسياً فيما بعد. التجربة الصغيرة، التي اقترح صانع الوثائقي البريطاني “كيف تنزع فتيل قنبلة: قصة مشروع الأطفال” نقلها إلى الشاشة، هي تجربة “دَنيس مولكاي” الرجل الأمريكي الأيرلندي الأصل الذي تجرأ على التفكير في مشروع إنساني يطمح إلى دعوة طلاب مدارس صغار، من الطرفين المتصارعين؛ الكاثوليك والبروتستات لقضاء عطلتهم الصيفية في مدينة نيويورك وفي ضيافة عوائل منتمية إلى “جمعية الثقافة الأيرلندية”. كان هذا في عام 1975 والحرب الأهلية الأيرلندية في أوجها.
العودة إلى المشروع القديم والإحاطة بظروف تأسيسه ليس بالأمر الصعب، لكن أن تجعل منها فيلماً مهماً مشبعاً بالمادة الفيلمية وتستقدم عدداً من المشاركين في الحدث إلى الأمكنة التي قضوا فيها عطلتهم الصيفية قبل أكثر من أربعة عقود ونقل قصص عنهم وعن حياتهم بعد الزيارة وربطها بإحكام شديد بتطورات المسألة الأيرلندية وتعقيداتها فتلك مهمة ليست بالسهلة. تصدى لها البريطاني “هندرسون” وقرر المضي بها بكل ما فيها من تحديات.

يعتمد How to Defuse a Bomb: The Project Children Story في مفتتحه على ريبورتاج تلفزيوني أمريكي قديم، قابل معده المجموعة الأولى من الأطفال الأيرلنديين، وهم في غمرة فرحهم واستمتاعهم بالسباحة في مياه بحيرة “غرينوود”. سأل بعضهم الصحفي عن مشاعرهم وعما إذا كانوا يرغبون بالعودة ثانية إلى بلفاست فكان جوابهم: لا، لا نريد العودة إلى الحرب والموت. نعم اشتقنا إلى أهلنا لكننا لا نريد رؤية الجحيم ثانية!. وبالفعل كما يقدم لنا الوثائقي الرائع المليء بالخامات المختارة من مشاهد للصراع المسلح الدموي بين الوحدويين البروتستانتيين الداعين للبقاء ضمن المملكة البريطانية وبين القوميين الكاثوليك الداعين إلى العودة إلى أحضان الوطن الأم؛ تدور رحى الحرب الأهلية بصورها مصحوبة بموسيقى وأغنيات صاخبة، اشتهرت في تلك الفترة، وتبدو حقاً؛ جحيماً أرضياً.
بعد ذلك سيأخذ الوثائقي، المركب المتعدد المستويات والطبقات، عبر قصص متنوعة، كل واحدة منها موصولة بموضوع له علاقة بالأطفال القادمين من الحرب إلى نيويورك وبالظروف الخاصة المحيطة بكل واحد منهم، ومن هنا جاء تشعّب دروبه لكن صانعه وكاتب سيناريو الفيلم المحكم سيطر عليها ولم يتركها تفلت من بين يديه. من الآن ستتكفل ثلاثة أطراف في سرد قصصه وعليها سيُبنى متنه الحكائي؛ الأول صاحب المشروع والثاني الراوي (الممثل الشهير ليام نيسون) المكلف بالتعليق على الخامات الفيلمية وعلى مشاهد الأحداث التاريخية وإلى جانبه عدد مهم من الصحفيين والمحليين، فيما سيتولى بعض الأطفال (الطرف الثالث) وقد كبروا الآن وأصبحوا رجالاً سرد تجاربهم الشخصية وعلاقاتهم مع بعضهم البعض وسيتم التركيز خشية من التشتت على اثنين منهم؛ كيفن برادي وجون شيفرز جاءا سوية على متن أول طائرة وصلت الولايات المتحدة الأمريكية وظلا صديقين.

تجربة دنيس الشخصية ملهمة فهو مثل آلاف من أبناء فقراء أيرلندا جاء مع والديه إلى أمريكا؛ معدمين حلمهم التخلص من بؤس البلاد التي ظلت عرضة للصراعات المذهبية والسياسية. تعلم فيها وصار ضابط شرطة اختص بالمتفجرات وتفكيك القنابل. كانت أخبار أيرلندا تحزنه وكانت صورة مشاركة الأطفال في حروب شوارعها وموت الكثير منهم مدعاة للتأمل في حجم الكراهية المنتشر هناك وقوة رسوخ ثقافة الخوف من الآخر/ العدو!. شهادات إضافية يدخلها صانع الوثائقي ليدعم تحليلاته وكلها تؤكد تحول بلفاست إلى بؤرة ومدرسة لتعليم الأجيال الجديدة؛ “الكراهية”. من تأثير تلك الأوضاع المنقولة إعلامياً إلى الطرف الثاني من الكرة الأرضية انبثقت في ذهن ضابط الشرطة وعضو “جمعية الثقافة الأيرلندية” فكرة تخليص بعض طلاب المدارس الأيرلندية ـ ولو لأسابيع قليلة ـ من الجو المرعب الذي يعيشونه دون إرادة منهم، فالبلاد كانت غارقة في حرب مذهبية بغيضة.
بالتبرعات القليلة نجح مع أصدقائه باستقدام ستة أطفال فقط؛ ثلاثة من الكاثوليك ومثلهم من البروتستانت. تجربتهم كما ينقلها بعضهم مثيرة وتضفي فرحاً على جو وثائقي غرق في السوداوية فكان لا بد من ضوء يخفف منها. حكاية الطفلين الصَديقين، تعكس الواقع الأيرلندي. رفضاً الجلوس سوية على متن الطائرة وعملا المستحيل لينفصلا عن العائلة التي استقبلتهما لكنهما ومع الوقت نسيا خلافاتهما وصارا أصدقاء مقربين. شجعت تلك الصداقة ونسيان العدوات على استقبال المزيد من الأطفال لكن ـ مرة أخرى لكن ـ واجهت المبادرين مشاكل مالية وحقائق صادمة من الأغلبية الأيرلندية في نيويورك. رفض قسم كبير منهم تقديم المساعدة لاستقبال أطفال من عوائل “عدوة” بروتستانتية!. وهنا سيشرع الوثائقي المتأمل في أولى تحليلاته الفكرية لمفهوم “الكراهية” وتأجيجها لنار الحرب. اكتشف دنيس أن الأغلبية الكاثوليكية تدعم مالياً الحركات المسلحة والمناهضة للحكومة البريطانية، وتساعدهم على شراء الأسلحة والذخيرة وبذلك كانوا يغذون نار الحرب الأهلية دون دراية بمخاطر ما يفعلون.

على مستوى آخر وحين حانت لحظة عودة الصبيين أعلنا أمام العائلة المستقبلة لهم بأنهما لا يستطيعان الاستمرار في صداقتهما والإعلان عنها في بلفاست لأنهما سيتهمان بالخيانة!. سؤال الكراهية سيحضر في تجارب كل الأطفال الذين جاؤوا إلى بلاد غريبة وخرجوا منها دون أحقاد. لا يترك الوثائقي تجربة مهمة تضفي عليه المزيد من العمق دون التوقف عندها وعمل كل ما يستطيع لنقلها سينمائياً في سياق متماسك. توقف عند ظاهرة الأمية فجُل من جاء بلفاست كان لا يجيد القراءة والكتابة وحين تعلموا بعضاً منها خلال أسابيع عطلتهم الأمريكية، عملوا على تطويرها في بلادهم. بعضهم أكمل دراسته الجامعية وآخرون أصبحوا كتاباً أو مدرسين للأدب. ثمة قصص مؤلمة عن أطفال قتلوا أثناء عودتهم وآخرين لم تنفعهم العشرة الطيبة فانتسبوا بعد سنوات إلى فصائل مسلحة وسقطوا أثناء القتال. يرجع الوثائقي الحكّاء إلى العوائل التي استقبلتهم ويسجل أحزانهم وشعور بعضهم بالندم لأنه سمح لهم بالرجوع ولم يعمل كفاية على “تبنيهم”.
على المستوى الذاتي يبدو حماس ضابط الشرطة غير عادي، فرغم صدمته بالموقف الأيرلندي المعارض للمساعدة راح يعمل ويقترح أفكاراً زادت من ميزانية الجمعية فارتفع عدد الواصلين عبرها باضطراد حتى وصل إلى بضع مئات سنوياً ومن كل أيرلندا وإلى كل جهات أمريكا توزعوا. ومثل كل تجربة واجهتها صعوبات لعب الإعلام دوراً فيها دون قصد؟!. استضافة قنوات تلفزيونية لأطفال العطلة الصيفية يستدعي منهم الحديث عما يجري في بلادهم ويدعون بطيب خاطر إلى عمل شيء لوقف نزيفها أو التدخل ـ على الأقل ـ إنسانيا للتقليل من آثارها السلبية. عفوية كلام الأطفال فُسرت كتحريض وتدخل في الشأن البريطاني/ الأيرلندي. يستغل الوثائقي المصاعب ويذهب لمعاينة تاريخ العلاقات الأمريكية البريطانية خلال مرحلة اشتداد الحرب الأهلية.

كانت العلاقة بين رئيسة الوزراء البريطانية “مارغريت تاتشر” والرئيس الأمريكي “رونالد ريغان” مثالية. فالاثنان ينتميان إلى التيار اليميني المحافظ لهذا قبل الأخير دعوة تاتشر إلى اعتبار المسألة الأيرلندية مشكلة داخلية لها وحدها الحق في حلها. سينتظر الأيرلنديون سنوات حتى يصل “بيل كلنتون” إلى دفة الحكم وبعد محاولات سينجح في تقريب وجهات نظر الأطراف المتصارعة ويفتح الطريق أمام حل سلمي ساهم فيه صاحب “مشروع الأطفال” كثيراً وظَل في الظِل. ألهمت تجربته الرئيس فاستقبله واستمع اليه. أخذه معه ضمن الوفد الرسمي إلى أيرلندا ووقف خلفه لحظة إعلانه بيان التفاهمات السياسية.
كيف يمكن لكرة الثلج الصغيرة أن تكبر؟ ذلك السؤال يجد بعض جوابه في تجربة المبادر الطموح نيس وعلى مستوى الصنعة فالوثائقي الذي غطى تاريخا طويلا من الصراع لم يهمل النهاية المعبرة المتمثلة بزيارة خاصة قاما بها الصبيان/ الصديقان إلى “والديهما” الأمريكيين بعد مرور أربعة عقود، ليلتقيا سوية عندهما ويتذكرا تجربتهما الإنسانية البسيطة التي ألهمت قادة وقدمت نموذجاً رائعاً لفكرة التسامح ونبذ الكراهية.