“الأوديسا”.. رحلة مع مُسكتشف المحيطات!
قيس قاسم

حيرة المخرج الفرنسي “جيروم سال” في التعامل مع “جاك إيف كوستو” الطليعي، مسكتشف أعماق البحار وموثق مغامراته العلمية بأفلام تسجيلية والناشط البيئي ورجل الأعمال وصاحب أسطورة سفينة “كاليبسو” الشهيرة، التي عرفها العالم من خلال سلسلة أفلام وثائقية تلفزيونية، حيرة واضحة فيما يتعلق باختياره نوع الفيلم الذي سينقل مقاطع من سيرته على الشاشة؟ روائي أم وثائقي؟.
في النهاية كما أعلن وقع خياره على النوع الأول لكن المفارقة الصارخة فيه أن متن فيلم The Odyssey؛ جاء مشبعاً بروح وثائقية وبناء شخصياته وحوادثه مرجعياتها الأساس وثائقية بامتياز اعتمدت مادتها على السيرات الذاتية والأفلام التسجيلية، التي صنعها بنفسه وبمساعدة فرق عمل رافقت مسيرته البحثية ومغامراته العلمية طيلة أكثر من ثلاثة عقود، كان لابد بعدها من الإقدام على إعادة صياغتها بصرياً، غير أن السؤال النقدي هنا لا صلة له بخيار المخرج، فهذا يعود له وحده، بل صلته تكمن بالنتيجة النهائية التي ظهر منجزه عليها، لأنه حينها فقط يحق للنقاد والجمهور مناقشته وتسجيل موقفهم منه.
يلجأ صانع “أوديسا” إلى الفلاش باك، ليعود إلى بدايات قصة “جاك كوستو” مع البحر وسندرك المفارقة الموجعة فيه. فهو وولده فيليب (الممثل بير نينه) كانوا ضحاياه بشكل ما! فالاثنان سقطت طائرتهما من الجو لخلل فني وارتطمت بمياهه. الأب كوستو (الممثل لامبيرت ويلسون) ترك الطيران وتفرغ، بعد إصابات شديدة في جسمه، لاختصاصه كضابط بحرية، في حين لم يكتب لولده فيليب النجاة حين ارتطمت طائرته بمياه البحر واستقرت في أعماقه.

من البداية يظهر التركيز على عائلة كوستو ومحاولة رسم شخصياتها الرئيسة بأسلوب “ديكودرامي” يحيل عبر قصص فرعية اللحظات الحاسمة في حياة كل واحد منهم وكيف تقررت مساراتها النهائية مع الزمن. الأب.. طموح مغامر، وجد في اكتشاف أعماق البحار ضالته فمال إلى الغوص هاوياً وجرّ معه زوجته سيمون (الممثلة الفرنسية الرائعة أودري تاتو) وولديه بنجامين وفيليب؛ الأصغر مقدام منذ طفولته ومحب للمغامرة والمجازفة في حين ظل الولد الكبير منزوياً واهتمام والده به قليل (على عكس ما يشير إليه في كتابه عن سيرة والده، إذ له يَنسِب الدور الكبير في شهرته ومنجزه العلمي ونجاحه التجاري، ولفيليب الانطواء والميل للحلول الذاتية). لقد سَلبت الحياة العجيبة في أعماق البحار عقله فراح يصنع بنفسه أدوات وكاميرات تصوير داخل الماء. كهاوٍ ـ أول الأمر ـ
استرعى انتباه الناس من حوله وكانت زوجته أول المتحمسين لمغامراته، فقبلت ببيع كل مدخراتها حين قرر شراء سفينة “كاليبسو” المتقاعدة من الحرب العالمية الثانية وإعادة تأهيلها لتكون مختبراً لعلوم البحار ومنطلقاً لرحلة عمر شهدت الكثير من النجاحات والإخفاقات. اتخذت الأم من السفينة، بعد الشروع في رحلاتها البحرية، منزلاً تعيش فيه حياتها برفقة زوجها وفريق عمله، فيما تركت أولادها في اليابسة يُقيمون ويدرسون في مدرسة داخلية. بذلك المدخل الذي يرسم الفيلم ملامح أبطاله بأسلوب روائي يسمح له باختصار مساحات كبيرة من الزمن وبرفقة عناصر تكميلية (هوليوودية) يتمكن من خلق أجواء تصاعدية بسهولة لا تتوفر عند الوثائقي!. في المرحلة الأولى من مغامراته البحرية يبدو “جاك كوستو” تجريبياً لا يعرف غير المياه الدافئةـ أغلبها في البحر المتوسط وعلى مقربة من سواحل الخليج العربي ـ

أمكنة للغوص وتسجيل الحياة الطبيعية في أعماقها. مع الوقت سيتشجع على ربط التصوير بالتقنيات المتطورة ويراهن عليها ومن أجل حل مشاكلها الاقتصادية سيلجأ إلى شركات استخراج النفط العملاقة. مقابل مساعدته لهم في تحديد واقتراح مناطق حفر الآبار داخل البحار سيحصل على دعم مالي وتغطية تكاليف الوقود وغيرها وفي مراحل لاحقة سيزداد التعاون مع شركات إنتاج سينمائية، منجزاته الأولى معها سترفعه إلى مصاف النجوم. فما أن عرض فيلمه التسجيلي “عالم ساكن” حتى نال مديح النقاد وحصل على جائزة مهرجان كان السينمائي وبعد عام حصل على الأوسكار فذاع صيته كسينمائي وباحث بحري على نطاق واسع. ربما الشهرة وحب المال قادتاه للتعاون مع مؤسسات إنتاج واستخراج النفط وبعد عقود سيندم على فعلته حين يدرك حجم الأضرار التي تلحقها تلك الشركات بالبيئة البحرية وتدمرها.
في مرحلة النضج سينظم فيليب إلى فريق السفينة المبحرة في أكثر من اتجاه، ويعمل كمصور يوثق تجاربها وإن كان النصيب الأوفر منها لوالده. ف”كوستو” بطبيعته كان ميالاً للظهور والقيادة، ساعده على ذلك بروز اسمه في عالم السينما والتلفزيون، في حين كان فيليب يميل إلى المغامرة المجردة المحبة لتوثيق عوالم غامضة طالما حلم بها وعشقها منذ طفولته. سيضع الفيلم لنفسه نقطة تقاطع ربما يصح تسميتها ب”المرحلة الأمريكية”. مرحلة مر بها فيليب وعاش خلالها تجربة عاطفية انتهت بزواجه من فتاة أمريكية سترافقه في بقية رحلاته الخاصة المنفصلة عن مشاريع والده، الذي لم يعد يهتم بأحد حتى زوجته تركها وحيدة في السفينة، فيما كان هو يُقيم علاقات عاطفية خارج المؤسسة الزوجية ما أثر سلباً على الأسرة وتماسكها، فبدأت بالتفكك وعند هذه المرحلة يتوقف الروائي ليتيح للوثائقي تسجيل جوانب من حياة رجل أحدث منجزه العلمي والبحثي والتوثيقي ثورة في عالم المعرفة ووسائل الإعلام.
من بين ما يستحق تثبيته في نص “جيروم سال”؛ عرضه جوانب من شخصية بطله لم يعرفها العالم من قبل، لأنه بسهولة هو من كان يقوم بصناعة مادته الدعائية وهو من ينشرها. حبه للمال والظهور وعلاقاته العاطفية المنفلتة وعدم عنايته بالبيئة البحرية في المراحل الأولى من حياته العملية تطرح أسئلة على الوثائقي عليه الإجابة عليها لاحقاً، لأن مجادلة الروائي بمنطق الوثائقي لا تستقيم ولا تصح. يحيل وعيه المتأخر بالمخاطر المهددة للبيئة إلى ولده فيليب، الذي عارض مرة صيده “أفيال البحر” ووضعها في أقفاص لأغراض دعائية لا صلة لها بالغاية النبيلة التي انطلقوا في رحلاتهم ومغامراتهم من أجلها، ويكشف إلى جانب كل ذلك، حجم تورطه في مشاريع سينمائية تجارية تستر فيها على حقائق وعرض غيرها بطريقة غير صحيحة ما يثير الحاجة إلى مراجعة منجزه بروح نقدية لا انتقامية رغم أنها وفي مطلق الأحوال، لا يمكن تجاهل أهميتها وما أحدثته من ثورة في طريقة تفكيرنا بالطبيعة المحيطة بنا وبخاصة بعالم البحار والمحيطات الغامض.

وعلى مستوى آخر يُثَبت الفيلم تحول مواقفه وتأييده أفكار ولده بعد رحلتهما المشتركة إلى القطب المتجمد الشمالي. صحيح أن دوافعها كانت تجارية فرضتها عليه أزمته المالية فاقترح من أجل حلها على شركة إنتاج سينمائية عمل فيلم يوثق حياة الثدييات في أعماق المياه المتجمدة. تصورا أنهما أول الواصلين إليها وكم ستكون خيبتهم عظيمة حين سيكتشفون وصول الصيادين قبلهم إليها وقيامهم بمجازر للحيتان وغيرها دون رحمة، حفزت عندهما التفكير بمستقبل الكائنات البحرية والبحار نفسها وكم سيؤثر التخريب المنظم للشركات الصناعية والصيادين على مستقبل البشرية.
المرور السريع على ذلك الجانب نقيصة كان يمكن تفاديها لكثرة ما هو متوفر من خامات وثائقية حولها، لكن يحسب له في مطلق الأحوال انتباهه إليها وتثبيتها. “الأوديسا” ليس فيلماً عظيماً وكان بإمكانه أن يكون كذلك لو جرى معاينة تجربة “مستكشف البحار” بشكل أعمق ومع هذا سيظل منجزاً مهماً لجودة أداء ممثليه ولأسلوب كتابة نصه وروحه الـ”ديكودرامية” والأهم عدم انتظاره أكثر لنقل فصول من حياة رجل تستحق التجسيد على الشاشة الكبيرة روائياً ووثائقياً ولأكثر من مرة. ربما اختيار مهرجان سباستيان السينمائي له كفيلم يختتم به أعمال دورته الأخيرة فيه شيء من ذلك الاستحقاق!.