“دوغما.. الزر”.. عدسة ترصد يوميات الانتحاريين الأخيرة في سوريا

 

كمن يستعرض بفخر أغلى ما يملك لضيوفه، يأخذ السعودي الذي تعدى سنه الثلاثين بقليل، كاميرا الفيلم الوثائقي الصادم “دوغما.. الزر” (Dugma: the Button) للمخرج النرويجي “باول صلاح الدين ريفسدال”، في جولة على الشاحنة التي حُوّرت لتنقل أطنانا من المتفجرات، وتنتظر فقط إشارة الانطلاق لكي تتوجه إلى “الأعداء”.

يقفز السعودي بوزنه الثقيل على ظهر الشاحنة الممتلئ بالصواريخ. ويشير أثناء وجوده في قمرة القيادة إلى زر التفجير الذي أخذ الفيلم الوثائقي اسمه منه. يتحدث السعودي إلى الكاميرا قائلا: “عندما تضغط على هذا الزر ينتهي كل شيء”. ثم يعود ويستدرك: “إذا حدث عطل في هذا الزر، فهناك ثلاثة أزرار إضافية ستقوم بالعمل نفسه، فالشاحنة هذه يجب أن ترسل الكثير من الأعداء إلى جهنم”.

أمنية الأب الأخيرة.. إرهابي سعودي يحمل ملامح الطيبين

تختلف سلسلة المشاهد الافتتاحية المرعبة تلك عن ما اعتدنا أن نراه من صور “العدو” المتطرف إلى حدود الجنون في الأفلام التي يتركها الانتحاريون قبل عملياتهم. فسحنة السعودي العادية التي تقترب من الطيبة وعيناه الأليفتان زادتا من إشكاليّة ورعب تلك المشاهد، فهو رجل لا يتميز بشيء لافت، وكان يعيش حياة طبيعية في مدينة سعودية، قبل أن يتوجه إلى سوريا ملتحقا بجبهة النصرة.

وهو وإن كان اسمه في قائمة المتطوعين لتنفيذ عمليات انتحارية، فإنه لم يفقد علاقته بالواقع بعد، وما زال يتذكر بحبٍّ عائلته وطفلته التي ولدت بعد أن غادر إلى سوريا، وسيتهدج صوته وهو يروي لكاميرا المخرج أنه يعتزم الاتصال بأبيه في السعودية من هاتف جوال في الزمن القليل الذي سيسبق وصول شاحنته المُلغمة إلى هدفها، فهذه أمنية الأب نفسه، إذ يرغب بالحديث لولده قبل الانفجار الكبير.

في منطقة في سوريا أبقاها الفيلم مجهولة، مكث المخرج النرويجي أشهرا عدة يصور بحميمية غير مسبوقة يوميات ثلاثة رجال ينتظرون قرار منظمتهم إرسالهم إلى عمليات انتحارية، فبالإضافة إلى السعودي هناك رجل بريطاني الأصل وسوري شاب.

يتنقل الفيلم بين الشخصيات الثلاث، ويقتنص لحظات خاصة وهادئة جدا من حياتهم، حتى أن النزاع الذي هم في لُجّته بدا بعيدا كثيرا، ولم يخرج الفيلم إلا في مناسبة واحدة عن المقاربة الوثائقية التي تقوم على المراقبة المتواصلة الصافية، وتخلو من إطلاق الأحكام، وذلك عندما صور الدقائق القليلة التي أعقبت غارة للنظام السوري على بناية يسكنها مدنيون.

نهم الطعام الشهي وحب الزواج.. يوميات الانتحاريين

تتواصل عبر زمن الفيلم يوميات الانتحاريين المؤجلين دون مفاجآت مهمة، ولم يمنع الحدث العنيف المنتظر الذي يلوح فوق رؤوسهم من مواصلة روتينهم اليومي، فالسعودي ما زال يحب الطعام الشهي الذي يذكره بحياته السابقة في بلده، وسيأخذ المخرج إلى مطعمه السوري المفضل، وسيشارك المخرج لحظات ضعفه عندما يعرض على هاتفه مقطعا مصورا لطفلته في مشيتها الأولى، أو عندما يتصل بأمّه في السعودية.

أما السوري والبريطاني فكانا يتحضران لحدثين سعيدين، فالسوري يستعد للزواج، أما البريطاني فقد تزوج فعلا، بعد فترة تفكير طويلة كان مترددا فيها بين التفرغ تماما للقتال، وبين الزواج وإنجاب الأطفال الذين يرى أهمية في تعليمهم “المنهج الإسلامي الصحيح”.

هذه التطورات تزيد تعقيد ترقب المهمات الانتحارية التي وافقوا سلفا على القيام بها، وسيلتقط الفيلم ترددا وشكوكا لدى شخصياته، رغم أنها حاولت تغطية ذلك بترديد الشعارات الحماسية ذاتها.

علاقات الشخصيات.. مشاهد إنسانية تكسر الصور النمطية

يتمكن المخرج النرويجي الجدليّ من الدخول إلى مناطق جغرافية لم تصل إليها السينما الوثائقية التي اهتمت بتطرف منظمات إسلامية في السنوات الماضية، مُقدما يوميات أعضاء في منظمات متطرفة لم تسمح بتصويرها على هذا النحو في الماضي، مبتعدا بفيلمه عن أي وجهات نظر فكرية مسبقة.

يغيب صوت المخرج عن الفيلم، ولا يتحدى الشخصيات التي يقدمها، بل يتركها على سجيتها، وهذا سيقود إلى لحظات إنسانية كانت مباغتة على أصعدة عدة، مثل ذلك المشهد الذي يكشف فيه السوري في الفيلم أنه يريد أن يقدم لخطيبته باقة من الورود، وبعدها يذهب الإنجليزي إلى حديقة مهجورة، وسيعثر هناك على زهور كانت تقترب من الموت من العطش ويقطفها لصديقه.

ومن اللحظات الإنسانية مشهد آخر يزور فيه السعودي رفيقا له أصيب بجراح في إحدى المعارك، والحوار الذي سيدور بينهما عن فلسفة جبهة النصرة فيما يخص العمليات الانتحارية.

“أنسنة العدو”.. معاينة المعسكر الآخر بعيدا عن دخان الحرب

لا جدال أن الفيلم سيثير الكثير من الغضب لدى الكثيرين، من الذين سيغيظهم أسلوب الفيلم الحيادي و”أنسنته للعدو”.

بيد أن هذا المنهج الذي يحاول أن يفهم لماذا يجنح البعض إلى تصرفات متطرفة للغاية، ويصور الحياة اليومية لتنظيم متشدد مثل جبهة النصرة، له أهميته ومدافعون عنه، من الذين يرغبون بفهم ما يجري في العالم، بعيدا عن سطوة الصور والأحكام المسبقة، والذين لا يؤمنون أن الرد العسكري القوي هو الحلّ دائماً لنزاعات شديدة التعقيد والحساسية مثل التي تجري في الشرق الأوسط.

ما يفعله الفيلم بتمكن كبير، هو أنه يوفر فرصة نادرة، من أجل معاينة مختلفة لما يجري في صفوف تنظيم يُصنف بالمتطرف والمُعادي، رغم دخان الحروب الذي يكاد يعمي الرؤية.

أسامة بن لادن.. زعماء المنظمات يفتحون الأبواب المغلقة

اختص المخرج النرويجي بتسجيل الحياة اليومية لمنظمات متطرفة محظورة، وكان من أوائل الغربيين الذين اهتموا بما يحصل بأفغانستان، فقد بدأ بزيارة البلد في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.

حظي المخرج “ريفسدال” بسمعة وعلاقات جيدة مع عدد من المنظمات المحظورة حول العالم، ففتحت له أبوابا عدة تكون بالعادة مُقفلة تماماً بوجه السواد الأعظم من المخرجين الأجانب (مثل سوريا التي يشكل العمل فيها مخاطرة عظيمة الخطورة).

صور المخرج النرويجي -الذي تحول إلى الإسلام- حركة طالبان في عام 2009، واختطف في حادثة مشهورة أثناء وجوده هناك، ويقال إن أسامة بن لادن نفسه كان مُعجبا بعمل المخرج النرويجي، وأن القوة الأمريكية الخاصة التي اغتالت أسامة وجدت أفلاماً لـ”ريفسدال” عن حركة طالبان في حاسوبه الشخصي.

جبهة النصرة.. مغامرة في جماعة مسلحة ذات سمعة مختلفة

صَرَحَ المخرج النرويجي في حديث للتلفزيون الهولندي بُعيد عرض فيلمه هذا في الدورة الماضية لمهرجان إدفا السينمائي بأنه لم يكن ليصور هذا الفيلم أو يتعاون بأي شكل من الأشكال مع تنظيم إرهابي يتقصد مدنيين في تفجيراته، وأنه وافق على الدخول في هذه المغامرة، لسمعة جبهة النصرة التي تملك -حسب قوله- منهجا فكريا مختلفا، وبالتحديد في استراتيجيتها الخاصة بالعمليات الانتحارية، فهي تعلن أن هدف عملياتها هم خصومها المسلحون فقط، وأنها لا تشبه في هذا الخصوص تنظيم داعش مثلا الذي يستهدف المدنيين.

عُرض الفيلم في مجموعة من المهرجانات السينمائية، وفاز بعدة جوائز، منها جائزة أفضل فيلم وثائقي متوسط الطول في مهرجان “هوت دوكس” (Hot Docs) الكندي المعروف للسينما الوثائقية.


إعلان