“الشيخ جاكسون”.. صراع التشدد والطبيعة
أمير العمري
هل الدين قيد على الإنسان يمنعه من الاستمتاع بالحياة؟ وهل من الطبيعي أن يحصر المرء تفكيره في الموت فقط؛ يبني قبرا ويذهب بين وقت وآخر للجلوس فيه والتفكير في الموت؟ هل تصير الحياة مجرد صفر كما يقول بطل فيلم “الشيخ جاكسون” ويكرر؛ أي أنها تبدأ وتنتهي دون أن يكون لها معنى، وبالتالي يجب أن يكون الإنسان مع الله ليلا ونهارا يمتنع عن ممارسة أي شيء يُدخل السعادة على نفسه، ويرفض الإحساس بالجمال والفن والموسيقى، وينعزل، ويرغم نفسه أحيانا على النوم أسفل الفراش كي يعتاد وحشة القبر كما يقول؟
هذه التساؤلات مطروحة على نحو أو آخر في الفيلم المصري “الشيخ جاكسون” للمخرج عمرو سلامة. يناقش الفيلم هذه الأفكار من خلال العلاقة بين شيخ شاب كان معجبا بطفولته وصباه بموسيقى ورقصات مغني البوب الأمريكي الراحل مايكل جاكسون.
من هذا الاختيار نفسه تتبدى طرافة الفكرة؛ أي اختيار شخصية هذا الشيخ الشاب أو “خالد” (أحمد الفيشاوي) الذي كان إعجابه الشديد في الماضي بمايكل جاكسون وأغانيه يدفعه إلى تقليده في حركاته وشراء ألبومات أغانيه، دون أن يردعه عن ذلك العقاب الشديد الذي يناله على يدي والده العدمي المتجبر مدرب الألعاب الرياضية (يقوم بالدور ببراعة ماجد الكدواني)، حيث تتسع الهوّة بينه وبين والده بعد وفاة أمه التي كانت تعاني من مرض في الجهاز التنفسي.
تمرد وهروب
الضغوط الشديدة التي يتعرض لها خالد من جانب والده تجعله يغادر مدينته الإسكندرية، ويذهب للإقامة مع خاله في القاهرة، وهذا الخال شديد التدين، يطلق لحيته على طريقة السلفيين، فهو متشدد لكن دون أي ميل للعنف.
خالد إذن يهجر واقعه ويهرب إلى واقع جديد يعتبره الطريق الوحيد الذي يكفل له الخلاص من معاناته المزدوجة، فقد حُرم من حنان الأم، وأصبح يواجه غلظة وصرامة الأب الذي كان يعاقبه بسبب تشبثه بمحاكاة مايكل جاكسون في ملابسه وحركاته وأغانيه، لدرجة أن أصدقاءه وزملاءه في المدرسة أطلقوا عليه “جاكسون”.
وعندما أراد أن ينسلخ من حياته القديمة التي يعتبرها حياة لاهية، قام بتغيير اسمه الحقيقي في البطاقة من خالد إلى هاني، وذلك في انسجام مع مغالاته في فهم الدين، فهو يرى أن الخلود لله وحده.
الشيخ الشاب متزوج من امرأة جميلة ترتدي النقاب، لكن بعد أن يتابع ذات يوم خبر وفاة مايكل جاكسون ترتد ذاكرته إلى الماضي، ويصبح مضطربا لا يمكنه التركيز في الصلاة -خاصة وأنه يؤم المصلين في المسجد- بعد أن يتراءى له شبح جاكسون باستمرار في نومه ويقظته.

بين الشيخ والمغني
يعتمد بناء الفيلم على الانتقال بين الماضي والحاضر، فيبدأ في الزمن المضارع، ونشاهد في المشهد الأول جنازة ثم عملية دفن ميت داخل القبر، حيث تتخذ الكاميرا زاوية منخفضة من داخل القبر، ثم ينهال التراب فتصبح الشاشة سوداء.
هذه اللقطة التي تذكر بظلام القبر تتكرر كثيرا فيما بعد في سياق الفيلم، مع لقطات أخرى شبه سوريالية للجحيم والثعابين والحيوانات المخيفة، وبطلنا يجلس داخل زنزانة سجن، كما لو كان قد سجن نفسه داخل شخصية ليست شخصيته الحقيقية، وكلها هواجس وخيالات تجعله يفزع فزعا شديدا، لكن أكثر ما يقلقه الآن أنه فقد القدرة على البكاء بعد أن كان يبكي دائما في صلاته كما رأينا.
اضطرابه أثناء الصلاة والصور التي تختلط في ذهنه إلى جانب عجزه عن البكاء الذي يفسره هو بأنه أصبح بعيدا عن خشية الله؛ يدفعه أولا لإجراء اختبارات للتأكد من عدم إصابته بمرض في المخ، ثم يلجأ إلى عيادة للطب النفسي دون أن يعرف أن من يديرها طبيبة (تقوم بالدور بسمة) وليس طبيبا، فهو لا يتعامل مع النساء ويرفض النظر إليهن، لكنه يستسلم للأمر الواقع لعلها تساعده.

لمسات إخراجية
يستخدم عمرو سلامة الزوايا المرتفعة للكاميرا لتصوير الشخصية الرئيسية في لقطات متحركة، وذلك كي يعكس اضطرابها الداخلي وعدم توازنها، كما يستخدم الفوتو مونتاج والقطع في شريط الصوت مع استمرار الصورة. ويعتمد في تجسيد ملامح الشخصية والتعبير عن موضوع الفيلم اعتمادا أساسيا على الأداء الواثق للممثل أحمد الفيشاوي في الدور الرئيسي، والذي ينتقل من التشدد إلى التردد والخوف والاضطراب، ثم المعاناة الطويلة، إلى حين العثور على الذات المفقودة، أي عودته إلى شخصيته الحقيقية دون أن يتخلى عن إيمانه.
ولعل من أفضل مستويات الأداء في الفيلم سواء بتعبيرات الصوت أو الوجه والجسد بصورة شديدة الإقناع والقوة؛ أداء محمود البزاوي في دور الخال المتشدد دينيا، فهو يسيطر بقوة على المُشاهد التي يظهر فيها بحضوره المميز ونبرات صوته العميقة. ويبرز أيضا دور أحمد مالك في دور خالد في صباه، فهو ممثل صاحب وجه مميز سيكون له شأن في السينما المصرية مستقبلا.

من التشدد إلى التصالح
يحمل الفيشاوي الفيلم بأسره على كتفيه، ويبدو مستوعبا استيعابا كاملا لأبعاد الشخصية، بل إنه يضفي عليها أيضا الكثير من مشاعره وروحه وانفعالاته الداخلية الخاصة.
يمكن اعتبار الفيلم دراسة للشخصية، وكيف تنتقل من التشدد إلى التصالح. ولكن تظل هناك -كما أشرت- حلقة مفقودة في السياق كان يجب أن تحظى بالاهتمام في الكتابة. ولعل مشهد تصالحه مع والده حيث تتركز الكاميرا على وجهه في لقطة قريبة؛ تكشف لنا إلى أي مدى يتفاعل الممثل مع الدور.
ولا شك في أن السند الأكبر للفيشاوي في هذا المشهد الذي ينجو ببراعة من السقوط في الميلودراما؛ وجود الممثل العملاق ماجد الكدواني الذي يحضر بقوة في كل المشاهد التي يظهر فيها في دور جديد على شخصيته التي عادة ما تكون شخصية أحادية وديعة. أما هنا فهو يقوم بدور فيه من الشراسة والخشونة، لكنه يخفي في طياته ضعفا ونعومة، وهو يشبّه نفسه بثمرة جوز الهند، أي صلبة من الخارج وطرية من الداخل.
كان ظهور ياسمين رئيس في دور شيرين بعد أن كبرت وأصبحت مغنية ظهورا عذبا، كالنسيم أضفى على مشهد لقائها بالشيخ رونقا خاصا لم يفسده سوى تهور الشيخ وارتمائه عليها يريد تقبيلها فتفاجأ وهي تنهره.
هذا الموقف زائد عن الفيلم، بل أفسد فكرة الرغبة في التصالح مع النفس، فقد جعل خالد (الرومانسي) يبدو كما لو كان يود أن يترجم ما نصحه به والده (البوهيمي) في صباه عندما حذره بضرورة تقبيل الفتاة وإلا فسوف تتركه إلى شخص آخر.
وقد بدا كما لو أنه كان يلوم نفسه على تقاعسه في الماضي عن الاستجابة لهذه النصيحة، لذا فإنه أراد تعويض ذلك في الحاضر، والمشكلة أن أي مُشاهد محايد للفيلم يمكن أن يعتقد أن الشيخ اندفع يحاول اغتصابها تحت وطأة اضطرابه النفسي.

نجاح ولكن
قد تكون هناك أيضا ملاحظات تتعلق ببعض الاستطرادات والحوارات غير المكتملة، أو الاختفاء شبه التام من الفيلم لزوجة خالد “عائشة”، ثم ظهورها المتأخر قرب النهاية لتقول له إنها لا تمانع من الذهاب إلى منزل والدتها حتى تتيح له فرصة الاختلاء بنفسه، بينما كان هذا ما حدث بالفعل من خلال حوار مشابه قبل أيام عدة.
وعلى الرغم من هذه الملاحظات يظل الفيلم عملا يتمتع بالجدية والطرافة، ويقدم رؤية جديدة في مقاربة شخصية تتأرجح بين التشدد وحب الفن، وبين الموت والحياة، والدنيا والآخرة، والقبر والنور، والاحتجاب عن العالم والإقبال على الدنيا، والانتصار في النهاية للحياة المتوازنة.