وراء كل نار قصة!
قيس قاسم
فكرة المخرج “ماثيو صالح” لإنجاز فيلم عن النار والشِواء ملهمة، تُحيلنا إلى التأمل في الأشياء العادية المحيطة بنا والتي يمكن تحويلها إلى نصوص فيلميه رائعة حال معاينتها بجدية والنظر إليها بعين سينمائية قادرة على جعل العادي فناً، وإذا ما جرى النظر بعمق إلى تلك الأشياء فربما سيتوصل أصحابها إلى تصورات ورؤى عميقة تلامس تخوم الفلسفة والمعرفة الاجتماعية من مناظير ميثولوجية وأنثروبولجية، فيغدو الالتفات إليها إبهارًا بصرياً وفكرياً يأخذنا إلى عوالم ومساحات لم يسبق لنا التفكير بها أو تأملها كما اقترحها علينا فيلم Barbecue عبر رحلاته إلى 12 دولة من العالم حاول التعرف فيها على معاني فكرة “الشِواء” والانتقال من بعد إلى بحث علاقته بالمكونات الثقافية والحضارية لكل مجموعة بشرية، فغدا -بفضل كل ذلك- الموضوع “البسيط” بحثاً فكرياً في السلوك البشري وهذه ربما هي أهم الخلاصات التي يمكن أن يخرج بها مشاهد الوثائقي الأسترالي، المنطلق من تعريف النار وكيف استغلها الإنسان وسيلة للطبخ والشوي منذ بداية حياته على كوكب الأرض، وربما لهذا السبب أعتبر كُثر من الفلاسفة وعلماء الاجتماع اكتشاف النار؛ واحداً من أهم الاكتشافات البشرية وخطوة عظيمة ساهمت في استقرار الإنسان وبناء حضاراته، ومن قيمتها العملياتية الكبيرة جاءت قواسم وصفها المشتركة. فشعوب الأرض كلها تقريباً ترى في إشعال النار مصدراً لتأمين الدفء وإبعاد الحيوانات المفترسة وعلى المستوى الاجتماعي وسيلة لجذب الآخرين إليها ومن بعد التسامر حولها وقص الحكايات والتعارف إبعاداً للخوف من المجهول وطمعاً في آمان داخلي منشود. فلكل نار كما يخبرنا راوي الوثائقي قصة وفي كل واحدة منها عِبَر تُجليها رحلاته التي بدأها من جنوب أفريقيا وختمها مع بقايا القبائل الهندية الأصلية في نيوزيلندا ماراً باللاجئين السوريين في مخيمات لهم قرب الحدود الأردنية. واللافت أن صانعه وحتى يبعد “الشخصي” من الفكرة والتركيز فقط على العام، تجاهل ذكر أسماء من التقى بهم ليظهروا على الشاشة كأفراد مرتبطين موضوعياً بتكتل بشري ما، انطباعاتهم وأفكارهم حول النار والشِواء لا تحيد عن فكرة الجماعة المنتمين إليها.
حتى في شواء اللحوم وأمكنته فَرَق نظام “الأبارتيد” العنصري بين السود والبيض، فحرم على أبناء البلد الأصليين الوصول إلى منطقة “تاون شيب” المغرية باقامة حفلات شواء فيها، معززاً في ذهن أطفال الأقلية الحاكمة خطورة الاقتراب من تجمعات السود وبعد أن كبر أحدهم وصار واعياً للفكرة المقيتة الجاهزة عنده منذ الطفولة يشعر الآن بالندم وبالرغبة في التعامل مع كل البشر سواسية، بغض النظر عن لونهم ومعتقداتهم. السود اختلف وضعهم كثيراً بعد نهاية حكم البيض. فبعد خمسين عاماً على بناء “تاون شيب” صار بامكانهم الآن الذهاب إليه وإقامة حفلات شواء اللحوم التي يعتبرون أنفسهم هم أفضل من يُعدها. فكرة الأفضلية ستظهر عند كل الشعوب والمجاميع، التي يلتيقها الوثائقي. فكل واحد يعتبر تقاليده في تحضير “المشويات” وإعداد النار هي الأحسن في العالم! لكن جنوب أفريقيا مشهود لها حبها شواء اللحوم وبطريقتها الخاصة وبالنسبة لفقرائها هي فرصة للحصول على رزق يؤمن معيشتهم، فكل ركن صغير يمكن أن يكون محلاً لبيع المشويات لكن شروط نجاحه ليست سهلة تقترب ضوابطها من ضوابط اليابانيين، الذين يتعاملون مع الفحم والنار بطريقة دقيقة. علاقة الياباني بالأشياء المحيطة به غالباً ما تحيطها هالات فلسفية وروحانية وجولة الوثائقي في مناطق إعداد الفحم تظهر العمق الميثولوجي في صناعته، والذي ينسحب فيما بعد على مستخدميه في “مناقل الفحم” الخاصة، المحتاجة من المشتغلين عليها شهادات خبرة طويلة وبراعة نادرة، لدرجة يتحول فيها إعداد سيخ “ياكيتوري” إلى طقس تجتمع فيه متعة التذوق مع تقاليد التقديم اليابانية الشديدة الخصوصية، على عكس الأستراليين فهم يميلون إلى التعامل مع “الشواء” كفعل يساعد على كسر نمطية الحياة العصرية ويمنحهم فرص التلاقي حوله والمسامرة بعيداً عن الضغوطات، المتحررة منها بعض الشعوب و ربما لا تعرفها أصلاً، مثل سكان السهول المنغولية المفتوحة ومربي الماشية الرحل، الذين يتعاملون مع الشواء بوصفة طريقة لحفظ السلالات من الانقراض. ففي المناطق القليلة الزرع يصبح الاعتماد على اللحوم مصدراً أساسياً للتغذية لهذا تحول حيوان “المورميل” عندهم إلى أسطورة، تقول “لا يأكل المورميل (حيوان يشبه الأرنب) العشب ولا يشرب الماء ولا يظهر في الظلام”. طريقة شوي المورميل مثيرة وغريبة حيث يحشى جوفه بأحجار ساخنة ثم يسلخ جلده ويأكل لحمه. يتوقف الوثائقي عند مفهوم الحياة والشوي عند المنغولي ويجدها جد مختلفة، لكنه يكتشفها ـ وياللغرابة، قريبة من السويدي! فالأخير وبسبب البرد القارس وطول الشتاء والظلمة الشديدة يستغل ظهور الشمس ولا يريد تضييع متعتها فيلجأ إلى عنصر السرعة في إعداد المشويات وإلى البساطة، فلا ضمانة حتى في الصيف من عدم هطول الأمطار واختفاء الشمس النادرة الظهور. ابتكر السويديون من أجل ذلك “طبق الشواء” الجاهز. مكوناته الفحم المحفوظ في “صحن” صغير من الألمنيوم يشبة “المنقل” يستخدم لمرة واحدة!
كل مرحلة من مسيرة وثائقي المخرج “صالح” لها طعم خاص مختلف مثل الشواء، لكن النار عكسه تجمع الناس وتُنسيهم همومهم وتقربهم من بعضهم البعض. في رومانسيات وشاعرية النار قيل الكثير في متن الوثائقي، الذي جمع بابهار جمال الصورة مع عمق وتشعب ثيماته الفرعية، وحرصه رغم التعدد على الانتقال السلس من مكان إلى آخر، كانتقاله من شاعرية النار إلى مشاركتها صخب كرنفالات أمريكا اللاتينية. ابتهاج وخروج سكان المدن الكبيرة في الأورغواي إلى الشوارع خلال كرنفالاتها الموسمية يصاحبه على الدوام طقس إعداد طبق مشويات “أسادو”. فعلى الطرقات وفي ناصيات الشوارع وعلى المقاهي يشم المارون رائحة شواء لحوم الأبقار فيوقفون عندها بعد عبورهم الشوارع المزدحمة الصادحة بالغناء والموسيقى والرقصات الشعبية وألعاب النارية. كلمة “نار” لها استخدامات لغوية واستعارات وصفية كثيرة، والمثير أن الأرمني يميل إلى وصف نفسه بـ “الناري”، الشديد الانفعال، المتحرك طيلة الوقت. يفسر بعضهم ذلك السلوك بعلاقتهم الخاصة بالنار ومنها جاء حبهم للشواء، الذي أصبح مع الوقت علامة قومية تحفظ جزءاً من هويتهم. فالأرمني أينما حل لا بد له من إيجاد وسيلة يشوي بها اللحوم، فأمست لهذا أكلتهم الشعبية؛ “خروفات” كناية عن حرصهم على حفظ جذورهم من الانقطاع، كما الهندي الأحمر المقيم في نيوزيلندا، يحرص على تعليم أجياله الجيدة أصول إعداد “مشاويهم” المعقدة التحضير والتي جرت فيها تغييرات كبيرة ذات طابع اجتماعي، من بينها تخلي المرأة عن إعدادها إلى الرجل، وليس ببعيد عن روح التشبث بالأصول يصر السوري المجبر على الرحيل من وطنه نتيجة ما يتعرض له من موت وخراب، الحفاظ على مورثه الثقافي وتقاليده قدر المستطاع. إلى مخيم اللاجئين السوريين في الأردن راح الوثائقي الحيوي يسجل تفاصيل حياتهم داخله وكان يهمه رصد علاقتهم بالنار والشواء مع تقديره للأوضاع الخاصة والصعبة التي يعيشون فيها ومع ذلك كانت “الشاورما” حاضرة، وحاضرة معها نكهة أيام إعدادها وأكلها في شوارع البلاد التي تركوها وكل أملهم في العودة إليها يوماً وتذكر رائحة الشاورما وهي تفوح في أرجاء أسواقها وحاراتها.
في كل تجربة مع النار والشواء كانت هناك دوماً حالات مذهلة تضمنها متن الوثائقي الأسترالي المدهش مثل؛ علاقة تكساس بالشواء بوصفها مدينة رعاة بقر بامتياز، ولشدة “أمريكيتها” انغلقت لكنها ظلت تعشق “المشاوي” ويحن سكانها حتى اليوم للخروج إلى البراري وإيقاد النار فيها. صورة نمطية لا تعكس العزلة الكامنة فيها إلا تدخل صاحبة مطعم “شواء لحوم البقر” الذي قررت فتحه بعد تجربة شخصية أثرت فيها. قصة السيدة العجوز تحكي عن مطعم دخلته قبل عقود بصحبة زوجها وبعد دقائق علمت أنه مخصص للبيض فقط، ورغم بياض بشرتها رفضت الفكرة. فإيمانها بإنسانيتها أهم من لونها وأهم من عرقها، فقررت وكرد فعل واعي ضد سلوكه العنصري فتح مطعم جديد تعزيزاً لفكرة أن النار ومنذ الأزل كانت مصدراً لتجميع الناس لا إلى تفريقهم!
لاختصار محتوى جولاته وما حصده من تجارب وأفكار لها صلة بموضوعه يعيد عبر عملية مونتاجية بسيطة مقاطع سريعة منها. ملاحقتها تقول الكثير عن علاقة الإنسان بالنار وشواء الطعام عليها، مضامينها تذكرنا بحاجة الناس إلى فهم أكبر للأشياء المحيطة بهم، ومعرفة ثقافة وصلة كل شعب بها والأروع كما نوه الفيلم: كيفية استخلاص المشترك الإنساني بينها.