“ديترويت” طلقة أخطأت الهدف

أمير العمري

“ديترويت” Detroit هو أول فيلم للمخرجة الأمريكية كاثرين بيغلو منذ فيلمها الشهير “30 دقيقة بعد منتصف الليل” (2013) الذي يروي من وجهة النظر الأمريكية، عملية استهداف وقتل أسامة بن لادن في باكستان، وهو الفيلم الذي رشح لخمس من جوائز الأوسكار لكنه لم يحصل سوى على جائزة فرعية. لكن بيغلو كانت قبل ذلك، قد حصلت على أكثر من خمسين جائزة- منها جوائز الأوسكارالرئيسية- عن فيلمها “خزانة الألم” The Hurt Locker الذي يصور مشاعر جندي أميركي متخصص في نزع الألغام في العراق.
يتناول فيلم “ديترويت” موضوعًا أمريكيًا ساخنًا شديد المعاصرة هو موضوع العنصرية المتغلغلة في المجتمع الأميركي حتى اليوم. وتنبع معاصرته من إسقاطاته الواضحة على أحداث العنف العنصرية التي وقعت في الولايات المتحدة خلال الفترة الأخيرة، وأحدثها ما وقع في شارلوتسفيل بولاية فيرجينيا في أغسطس 2017.  شاهدت خلال الفترة الأخيرة عددًا لا بأس به من الأفلام الوثائقية الجيدة التي تناولت هذا الموضوع بكثير من الإتقان والبراعة، سواء في اختيار المادة أو في تنسيقها وصياغتها السينمائية، بحيث تربط بين الحدث والتاريخ، بين الواقع الحالي وما حدث في الماضي، وتتضمن هذه الأفلام، رغم طابعها الوثائقي، جرعة كبيرة من الدراما التي تنبع من داخل المادة نفسها ومن طريقة توليفها وروايتها. 
وكغيره من الأفلام التي ظهرت عن العنصرية في الولايات المتحدة ضد الأميركيين السود من أصول إفريقية، يعتمد فيلم “ديترويت” على وقائع وأحداث حقيقية وقعت في مدينة ديترويت في يوليو عام 1967. في بداية الفيلم نرى الشرطة تداهم ناديًا خاصًا غير مرخص يؤمه عدد من الأميركيين الأفارقة مع نسائهم، حيث يشربون ويلهون ويلعبون النرد والورق في جو منبسط هادئ لا تشوبه شائبة، ودون أن يشعر بهم أحد في الخارج. غارة الشرطة تتميز بالوحشية والعنف والفظاظة، ويوجه الشرطيون أكبر قدر من السباب للرجال والنساء الأبرياء، ثم يجذبونهم ويدفعونهم بغلظة ويخرجونهم إلى الشارع بينما يتجمع شباب المنطقة من السود، يصيح بعضهم في استنكار “لماذا؟ ماذا فعلوا؟”، ثم يزج بهم داخل سيارات الشرطة التي تبتعد بهم. 

على الفور تندلع أعمال شغب عنيفة: تلقى القنابل الحارقة، وتدمر بعض المتاجر والأسواق وتنهب محتوياتها وتحرق محطة للوقود، وهي مشاهد مألوفة في هذا النوع من الاحتجاجات، فهي تقع مع انفجار المشاعر المكتومة بسبب التراكمات القائمة الناتجة عن سوء المعاملة والتهميش والاضطهاد والإهانة. تبدأ المخرجة الفيلم بلوحات ورسوم ملونة بديعة تصور باختصار، تاريخ المعاناة “الزنجية” في أميركا، من العبودية إلى الاستغلال الرأسمالي الصناعي، وإهمال الأحياء التي يقيمون فيها. يستعرض الفيلم من خلال مساحة زمنية ملموسة، مشاهد الحرق والتدمير والاشتباكات والاعتقالات، إلى أن يتم نشر قوات الشرطة والحرس الوطني وإغلاق الشوارع. 
معظم التصوير يتم ليلاً. ويتضح من البداية أسلوب الفيلم التسجيلي: الكاميرا المهتزة المحمولة التي تتحرك بعصبية وسط الجموع، تنتقل من لقطة إلى أخرى بطريقة المونتاج التي تشبه مونتاج التقارير الاخبارية أو الجريدة السينمائية التي كانت شائعة في تلك الفترة، خاصة وأن باري أكرويد- مدير التصوير- يستخدم ثلاث كاميرات، ويدير التصوير دون قطع من زوايا مختلفة، وهو أسلوب تتبعه بيغلو في باقي أجزاء الفيلم، يقتضي إضاءة كاملة لمواقع التصوير، فبيغلو تريد أن تلتقط كل دقائق المشهد، وتقتنص الانفعالات على وجوه الممثلين مرة واحدة، دون حاجة إلى إعادة التصوير. في أحد المشاهد نرى ضابط الشرطة الشاب “كراوس” (يقوم بالدور ببراعة ملفتة الممثل البريطاني ويل بولتر) يطارد رجلاً يحمل بعض السلع المنهوبة وعندما يعجز عن اللحاق به، يطلق عليه الرصاص من ظهره فيرديه قتيلاً دون مبرر عملي، الأمرالذي سينتج عنه تحقيق معه لكن تدخل رئيسه في الشرطة يكفل نجاته من العقاب. هذا الضابط نفسه سيصبح فيما في بؤرة الحدث، والفيلم بأكمله. فبعد المدخل الذي يصور اندلاع الشغب وفرض الطوارئ ونزول الحرس الوطني، ينتقل الفيلم إلى مكان مختلف تمامًا، إلى حفل موسيقي في أحد مسارح المدينة، وهناك نتعرف على شخصية “لاري” المغني الأسود الشاب الموهوب وهو يستعد للظهور أمام الجمهور للمرة الأولى، ولكن قبل ظهوره على المسرح يتم إلغاء العرض بسبب تطور الأحداث.

ينتقل لاري مع مدير الفرقة الشاب ى فندق رخيص يدعى “فندق الجزائر” يديره “كارل” وهو من الأميركيين الأفارقة، وفي الداخل يوجد عدد من الشباب السود مع فتاتين من البيض جاءتا من أوهايو، حيث يستمع الجميع إلى الموسيقى ويلهون ويمرحون غير عابئين بحالة التوتر القائمة في الخارج. يرغب كارل في استعراض شجاعته فيستخدم مسدس صوتي في التصويب من النافذة على رجال الشرطة في الخارج. صوت الإطلاق الوهمي ينبه الشرطة فيهرع ثلاثة ضباط الى المكان يرأسهم  الضابط الشرس “كراوس” المدفوع يبدو بالحقد العنصري المجنون. من هنا تبدأ حفلة التعذيب والاهانات والضرب والاعتداءات التي تشمل الفتاتين. وعندما ينبلج ضوء الصباح تكون الدماء قد غطت أرضية المكان، بعد قتل ثلاثة أشخاص.
داخل المكان الضيق، يستمر الحدث ما يقرب من ساعة. أولاً يحاول كارل الفرار فيقتله كراوس ثم يلقي بمطواة بجواره حتى يجعل الأمر يبدو كما لو كان قد وقع دفاعًا عن النفس. بعد هذا يتم تجميع الأفراد الآخرين وصفهم أمام الحائط مع إبقاء أيديهم مرفوعة إلى أعلى، والاعتداء عليهم بالضرب الوحشي وتعذيبهم حتى يعترفوا بمكان المسدس دون أن يدلي أحدهم بما يرضي الشرطة، فلا أحد يعرف شيئًا عن مكان المسدس. 
يعتمد سيناريو الفيلم، الذي كتبه مارك بول في ثالث تعاون له مع بيغلو، بدرجة أساسية على تصوير وحشية الشرطة وتجاوزها لكل الحدود والقيود، مدفوعة بعدائها العنصري للسود، الذين نراهم في المقابل، شخصيات بريئة، هزيلة، مسالمة، سلبية. ولكن هل هذا يكفي؟ المشكلة الأولى أن اتباع أسلوب الفيلم الوثائقي، يفرغ الفيلم من الحبكة الروائية الدرامية التي تكفل تطور الموضوع. ثانيًا يتجاهل الفيلم تمامًا تسليط الأضواء على الخلفية الإنسانية للشخصيات المختلفة التي نراها (وهي كثيرة ومتعددة) فنحن لا نعرف من هم، ومن أين جاءوا، وما الذي يجمعهم، ولماذا هم سلبيون لهذه الدرجة أمام كل هذا العنف. الشخصية الوحيدة التي يتوقف أمامها الفيلم هي شخصية ضابط الشرطة الأسود “ديسميوكس” (جون بويغا) الذي يشهد كل ما يقع أمامه، يتألم، يحاول التدخل أحيانًا ولو على استحياء لكنه يتراجع دائمًا ويفضل الصمت حرصًا على حياته، فنظرات الشك والريبة والحقد تحاصره من عيني ضباط الشرطة وخاصة “كراوس” السادي المجنون. يتابع الفيلم مسار ديسميوكس الذي يشعر بتأنيب الضمير، ورغم ذلك يلقي القبض عليه ويتم تقديمه مع الشرطيين الثلاثة للمحاكمة بتهمة الاشتراك في القتل.

يعتمد الفيلم على وقائع يوم السادس والعشرين من يوليو 1967 كما جرت وكما رواها أبطالها وشهودها الحقيقيون لكاتب السيناريو، بل كان بعضهم حاضرًا أيضا أثناء التصوير، وأبدوا ملاحظاتهم، ومنهم استمدت بيغلو الكثير من المعلومات التي لعبت دورًا في تحديد وجهة نظر الكاميرا. تستخدم بيغلو في معظم مشاهد الفيلم اللقطات القريبة- كلوز أب والقريبة جدا للوجوه، لجوانب الرءوس، للأيدي المرفوعة أو المقيدة، لكعوب البنادق، والانتقال في حركة مستمرة دودية (تراكنغ) تجعل الكاميرا تجوس بين الوجوه والأجساد داخل الفضاء الضيق الخانق، ترصد الانفعالات، تركز على بندقية تضرب وجه أحد الشباب، تصور الجروح التي تنزف، والدماء التي تغرق الأرضية، والعرق الذي يتصبب من الجباه، والفزع المميت في عيون الضحايا الشباب، والشر السادي في عيون الشرطة. وتستغنى المخرجة تماما عن الموسيقى التصويرية المصاحبة للصور، وتكتفي بأغنية أو اثنتين في سياقهما “الطبيعي” داخل المشهد.  رغم براعة التنفيذ يبرز السؤال: وما الفائدة من إعادة تجسيد ما وقع وهل يكفي إحداث الصدمة؟ ولماذا يتم تجريد الحدث هكذا، أولا عن باقي ما وقع في ديترويت، ثم عن القضية ككل في شموليتها وتاريخيتها؟ صحيح أن هناك إسقاطًا غير مباشر على ما يجري اليوم. ولكن من أين ينبع كل هذا العنف من جانب الشرطة ولماذا وما الذي يغذيه سياسيًا واجتماعيًا وقانونيًا؟ هل هو عنف فردي لا تفسير له سوى الشر، أم عنف ممنهج له أسبابه وجذوره الراسخة التي تستند على “المؤسسة”. لا توجد محاولة لتحليل الشخصيات، ووضعها في سياق المدينة التي تدور فيها الأحداث بملامحها المحددة، فنحن لا نعرف شيئا عن “ديترويت” التي يطلق اسمها على الفيلم. 

يعاني السيناريو من غياب الحبكة الدرامية والشخصية الرئيسية التي كان من الممكن أن تقبض على محور الأحداث وتدفعها إلى الأمام. فجميع الشخصيات تبدو ثانوية. ومع الانتقال في الجزء الأخير إلى “المحاكمة” يصبح الفيلم أقرب إلى الشكل التقليدي العتيق أي أفلام المحاكمة التي تدور داخل قاعة المحكمة، حيث يترافع المحامي والادعاء لنصل إلى النتيجة المتوقعة والمعروفة مسبقًا: تبرئة ضباط الشرطة والإفراج عنهم جميعًا. 
رغم الملاحظات السلبية يبقى الفيلم شديد التأثير بما يصوره من عنف يقشعر له الأبدان، خاصة أن كاثرين بيغلو تنجح كعادتها، في إخراج مشاهد الأكشن في الجزء الأول من الفيلم الذي يبدو شديد الإقناع والدقة والبراعة في التنفيذ، لكن تبقى المشكلة خلو الفيلم من شخصيات إنسانية لها تاريخ وحياة وماض وحاضر، لا مجرد أدوات تنعكس عليها آثار الشر على صعيد مجرد.

 


إعلان