فيلم “Maudie” عن وجع الروح والمفاصل!

أسماء الغول

ثنائيات القوة والضعف، الكمال والنقصان، العناد والخضوع، الحب والكراهية، هي مُحرك أحداث فيلم “مودي““Maudie” إصدار2017، من إخراج الآيرلندية “آيسلينج والش”، فتنسج لنا فيلم بديع بل أيقونة من الوجع عن حياة الفنانة الكندية “مود لويس” (_19701903)، التي أدت دورها ببراعة الممثلة “سالي هوكينز”. وتكمن معاناة الفنانة “مودي “إثر التهاب المفاصل الحاد في أطرافها، فقد جعل حركة يديّها ومشيتها في غاية الصعوبة، كما أن لديها تقوس في ظهرها. ورغم هذا الألم، ونظرة الناس إلى مرضها الظاهر، إلا أنها ترى نفسها إنسانة كاملة. فتختار “مودي “أن تنفصل عن عمتها وتترك المنزل حيث كان من المفترض أنها تقضي فيه إجازة فقط. لكن شقيقها الجشع يبيع منزل العائلة، ويطلب منها البقاء. فترفض ذلك وتقرر أنه حان الوقت لتكون مستقلة، فتشاهد إعلاناً وضعه بائع السمك المتجول ايفرت لويس، وقد أدى دوره الممثل “إيثان هوك”، في بقالة القرية معلناً حاجته لامرأة تنظف منزله، فتأخذ الإعلان كي لا يتقدمن أخريات إلى الوظيفة، وتذهب إليه. وهنا تظهر التناقضات بين قوته الجسدية الظاهرة، واعتقاده بأنه رجل كامل، وبأسه عليها، وبين كفاحها بجسدها المعتل من أجل صنع الحساء وتنظيف المنزل وإرضائه، بيد أنه يتفنن في معايرتها ببطء حركتها، وعجزها إلى أن يطردها.
 وهذا يجعلها تعاند، وتعود لتثبت جدارتها، ليشعر “ايفرت” مع الوقت بالحب نحوها، لكنه يستمر بمضايقتها، فهو لا يقبل بمظهره القوي وتفاخره بنفسه أن يقع في حب امرأة مريضة، فيخاطبها بقوله: “هناك أنا والكلبان والدجاج، ثم أنت”.
تشعر “مودي “بالانكسار، لكنها تجد ما يعزيها في علبة دهان خضراء، فترسم على جدران المنزل وزجاج النافذة؛ رسومات عفوية وفطرية للطبيعة وما تشاهده من النافذة، وفي الوقت ذاته تبقى على إنجازها لأعمال المنزل.

ترسم “مودي “كل ما تراه من نافذة منزل بائع السمك، وكذلك من ذاكرة طفولتها؛ الثلج والقطط والأنهار، والأشجار، والطيور بألوان زاهية. وعلى معظم الأسطح التي تجدها، وبأسلوب فني خطوطه أقرب إلى رسم الأطفال. كما أن جميع لوحاتها بأحجام صغيرة فألم المفاصل لا يجعلها قادرة على مد يدها أكثر من بوصات صغيرة. تصادف “مودي “همسات وضحكات أهل القرية بسبب مشيتها وتقوسها خاصة من قبل الأطفال، ولكنها تأخذ الأمر بحب، حتى حين صادفتها عمتها وقالت إن أهل القرية يتحدثون أنها عبدة لرغبات رجل يعيش وحده، ضحكت بسخرية، لكن واتتها فكرة؛ “لماذا لا يتزوجني “ايفريت” ما دمنا نسكن معًا؟”، وحين تحاول التقرب عاطفيًا منه، وهو يتمدد بجانبها على السرير الوحيد في المنزل، يرد غاضبًا، ومشيحًا وجهه عنها: “أفضل أن أكون مع شجرة”. ثم دون مناورات كثيرة، يتنازل “ايفرت” عن الكبرياء والعناد، ويخضع للحب، يتزوجان ويكونان سعيدين، وتملأ الألوان والعصافير والفراشات المرسومة المنزل الكئيب.

 ترافق “مودي “زوجها في جولاته لبيع السمك، فهي ترى أنها أفضل منه بالحسابات وتبدأ توزع كروتها الصغيرة التي ترسمها على زبائن زوجها، وهنا تطلب منها امرأة من نيويورك تعيش بالقرية، مزيداً من هذه الرسومات على أن تدفع لها مقابل، وهكذا تشتهر هذه اللوحات العفوية للطبيعية، وتبدأ “مودي “في بيعها لأهل القرية ببضع سنتات لكنه يبقى ربحاً أعلى من  بيع الأسماك، فيتحسن وضعهما المادي، وتصل تنازلات زوجها الذي لا يزال مسيطرًا عليها، ويدير المال إلى قيامه هو الآخر بأعمال المنزل.  ذات يوم تصلهما رسالة من نائب الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون” يعبر فيها عن رغبته في الحصول على لوحة، وهنا تشتهر في الإعلام المحلي الذي يكتب عنها، ويصور حياتها مع زوجها بائع السمك، ويبدأ الناس بالتوقف عند المنزل الذي يقع على ناصية شارع في الطريق السريع بـ ” Nova Scotia بكندا، لشراء اللوحات. 
الوقت في الفيلم محير قليلاً، فتشعر أن السنين مرت فجأة خلال هذه اللقاءات الإعلامية، فيشيب شعرها، وتزداد نحافتها وتتيبس مفاصلها، ويعود غضب زوجها القديم ويلومها على صورته التي تظهرها اللقاءات الإعلامية كأنه زوج مضطهد زوجته، ويبدأ مصارحتها أن حياته تتجه للأسوأ منذ أن تعرف عليها.

 للمرة الأولى لا تقبل “مودي “الإهانة فتتركه، ويعاني كل منهما ألم الفراق، فتذهب إلى منزل امرأة “نيويورك”، وتبقى صامتة معظم الوقت يتآكلها وجع الروح ووجع المفاصل، وتقول عبارتها الشهيرة ” كل الحياة مرسومة مسبقًا هناك” مشيرة إلى الأفق من النافذة، وكأنها تطلق نظرية فنية أن لا جديد في الفن، فكل شيء تم رسمه، أو إشارة إلى إيمانها بالقضاء والقدر. ولا ينبع حزنها في هذه اللحظة بسبب زوجها “ايفرت” فقط، بل بشكل أساسي عقب أن اعترفت عمتها لها، وهي على مشارف الموت أن المولود الذي وضعته “مودي “في مراهقتها، لم يكن مشوهًا كما قال لها شقيقها في الماضي، كما أنه لم يتم دفنه وهي نائمة، بل باعه إلى زوجين كبيرين بالسن. يأتيها “ايفرت” محباً، غير متخلي، ويأخذها لرؤية ابنتها لأول مرة، تكتفي “مودي “بالنظر إليها من بعيد، وتشعر بالسعادة حين ترى ابنتها متعافية وجميلة.  وربما كانت ثيمة فقد الابنة والبحث عنها مكمن ضعف في الفيلم بسبب انعزالها عن بقية الأحداث، وتكرارها في عدة أفلام قديمة تتناول الأبطال من ذوي الإعاقة، كذلك تكرار مشهد السعادة بأن إعاقتهم ليست متوارثة في ذريتهم، كفيلمي “فورست جامب” للممثل “توم هانكس” 1994، وفيلم “أنا سام” للممثل “شون بين” 2001. ومع ذلك يبقى الفيلم قوياً خلاباً، يتناول المهمشين من ذوي الأمراض المزمنة بسلاسة وإصرار على طرح سؤال الكمال. فمن الذي يتمتع به؛ معتل الروح أم معتل الجسد؟ وهنا يقول زوجها “ايفرت” باكيًا وهي على سرير المرض؛ ” كيف لم أعرف يوماً أنك كاملة”.

فيلم دون بهرجة، أو متقصد لخوض موضوع بعينه، بل يتناول حياة الفنانة الكندية بحقيقتها وببساطتها، وليس متكلفاً كما الأفلام التي تعلن عن “بروباجندا” مناصرة المرضى أو السود أو المتشردين، كفيلمي “البعد الآخر” “لساندرا بولوك” 2009، وفيلم Silver Linings Playbook للممثلة “جينيفر لورانس” 2012. 
وقد استطاع فيلم “مودي “”Maudie” تحويل معاناة فئة محددة من مرضى “الروماتويد”، لتشبه معاناة كل إنسان، فتشعر أن ذلك الخذلان يشبه خذلانك، وذلك الحب يشبه قصتك، وتلك اللوحة تشبه انجازك، وهذا الأل�� قد يكون مصير شيخوختك.

    


إعلان