المخابرات الأمريكية .. خارجة على القانون
أمير العمري

“صناعة أميركية” هو الفيلم الثاني الذي يخرجه دوغ ليمان في 2017 بعد فيلم “الجدار” الذي سبق تناوله بالنقد على هذه الصفحة. وهو ينتقل في العمل بين التليفزيون والسينما، ومن أشهر أفلامه “مستر ومسز سميث” (2005) الذي يصور كيف يكتشف زوج وزوجة أنهما عميلان لوكالتين مختلفتين، مطلوب من كل منهما تصفية الآخر. وكان الفيلم بداية العلاقة التي نشأت بين أنجلينا جولي وبراد بيت.
استخدم دوغ ليمان في “صناعة أميركية”، American Made بنجاح كبير، توليفة تقوم على المزج بين الكوميديا والإثارة وأسلوب فيلم الجريمة والمطاردة البوليسية وعالم التجسس ودهاليز السياسة في واشنطن، ليأتي الفيلم مشبعاً بالمغامرات المثيرة، ومشاهد الحركة action، والنجاة في اللحظة الأخيرة، مستنداً فيه على أحداث ووقائع حقيقية شغلت الرأي العام في أميركا وخارجها قبل أكثر من ثلاثين عاما.
أما الخلفية السياسية لشخصيات ووقائع فيلم “صناعة أميركية” فتقوم على ما افتضح أمره خلال الفترة الثانية لرئاسة رونالد ريغان، من تزويد بلاده – سراً- ميليشيات الكونترا اليمينية في نيكاراغوا بالأسلحة بغرض إسقاط حكومة جبهة الساندنيستا اليسارية، واستخدم أموال إيرانية دفعت من بيع أسلحة لإيران مقابل التعهد بإطلاق سراح الرهائن الأميركيين في بيروت.

الخيال والواقع
رغم اعتماده على بعض الحقائق الممزوجة بالكثير من الخيال، يظل “صناعة أمريكية” فيلماً خارج نطاق الواقع، فهو أقرب إلى ما يروج من صور ووقائع تخضع لما يعرف بـ”نظرية المؤامرة”. ومن جهة أخرى، على الرغم من التماس المباشر مع أحداث وشخصيات حقيقية (كارتر، ريغان، كلينتون، الكولونيل أوليفر نورث، الجنرال نورييغا، بابلو اسكوبار بارون المخدرات الكولومبي الشهير وزميله خورخي رودريغيز.. الخ) إلا أنه يبدو مصنوعاً خصيصاً لاستثمار صورة النجم “توم كروز” التي ترسخت في ذاكرة المشاهدين حول العالم من خلال سلسلة أفلام “توب غن” Top Gun كبطل خارق، يتمتع بالوسامة إلى جانب الثقة بالنفس والأهم بالطبع- أنه طيار لا يشق له غبار، ينجح في قيادة الطائرة بمفرده، ويتمكن من النجاة في جميع الأحوال.
هذا البطل “باري سيل” ينتقل ليقيم مع زوجته “لوسي” وطفليه، في قاعدة طيران خالية على مساحة شاسعة يمنحها له ضابط المخابرات المركزية (شيفر)- الذي يتولى تجنيده، لكي يشن منها عملياته التي تتمثل في نقل الأسلحة إلى قوات الكونترا في نيكاراغوا، كما يزوده بخرائط تكفل له تفادي أجهزة الرادار خلال رحلاته. لا يوجد في القاعدة مهندس طيران ولا تقنيين يشرفون على الصيانة وتزويد الطائرة بالوقود.. وغير ذلك، فليس من المهم أن تهتم بمثل هذه التفاصيل الصغيرة، ولا بتغاضي السيناريو عن ذكر أي شئ يتعلق بغياب هذه القاعدة الشاسعة عن المراقبة الجوية للطيران الأميركي، فالفيلم لا يلقي بالاً للدقة الواقعية بقدر ما يهتم بصنع “أسطورة” فردية لبطل “سوبرمان” عصري، يستغل فساد مؤسسة المخابرات والبيت الأبيض (قيامهما بعمليات خارج نطاق القانون ومن وراء ظهر الشعب الأمريكي والكونغرس)، ويقبل توزيع شحنات المخدرات ونقلها إلى الأراضي الأميركية، لحساب الكارتيلات الكبيرة في كولومبيا، ثم يقبل نقل شحنات من المخدرات إلى ثوار الساندنيستا وتصوير زعمائهم سراً وسط أكياس المخدرات التي يظنون أنها أسلحة، لكي يتيح للرئيس ريغان أن يظهر على شاشة التليفزيون ليعلن أن بلاده تمكنت من التأكد أن الثوار المزعومين الذين يناصبون واشنطن العداء، ليسوا سوى مجرمين وتجار مخدرات.

شخصية حقيقية
الشخصية الرئيسية التي يدور حولها الفيلم من البداية إلى النهاية هي شخصية الطيار المدني البارع “باري سيل” (توم كروز) الذي يعمل لحساب شركة “تي دبليو أو”، وهي شخصية حقيقية لطيار حقيقي عمل بالفعل لحساب كارتيلات المخدرات قبل أن ينقلب عليهم ويشهد ضدهم وقتل عام 1986 على أيدي قتلة محترفين مكلفين بتصفيته من طرف بابلو اسكوبار.
أما في الفيلم فيترك كاتب السيناريو العنان لخياله لينسج أحداثا تفترض أنه تم تجنيده في أواخر السبعينيات من طرف عميل السي أي إيه “شيفر” لكي يقوم بالطيران سراً وتصوير مناطق وأهداف في بلدان أميركا اللاتينية باستخدام طائرة صغيرة يزودونه بها، مزودة بكاميرات خفية، وفيما بعد يطلب شيفر منه العمل كوسيط بين الوكالة والجنرال نورييغا في بنما، ثم يقع سيل في قبضة رجال الكارتيل الذين يكلفونه (مع تهديد واضح) بنقل المخدرات من كولومبيا إلى بلدان مختلفة في أمريكا الوسطى ثم إلى ميامي، والحصول مقابل كل كيلوغرام على ألفي دولار.
تستمر عمليات سيل، وتزداد ثروته وتنتقل زوجته لوسي وطفلاه للإقامة معه في تلك القاعدة التي سرعان ما تصبح قاعدة عسكرية لتدريب رجال الكونترا الذين يأتي بهم سيل وفريقه الجديد الذي يتوسع ويضم طائرات عدة. ويصبح من الصعوبة بمكان أين يضع سيل وزوجته الكميات الهائلة المتراكمة من الأموال السائلة، فيدفع بكميات منها إلى حساب في بنك محلي، ويخفي كميات أخرى في حقائب يضعها في المطبخ وتحت الأسرّة، وفي حفرة في فناء المنزل..
يقع سيل في أيدي رجال المباحث الفيدرالية التي لا تعلم شيئاًعن هذه العملية السرية الخاصة، لكن مكالمة هاتفية من كلينتون حاكم ولاية أركنساس حيث احتجز سيل، للمدعية العمومية تتكفل بالإفراج عنه (والاستنتاج الواضح بالطبع أن كلينتون استجاب لمكالمة أخرى من الرئيس ريغان شخصياً)، وما يحدث بعد ذلك أن يستقبل سيل في البيت الأبيض ويتلقى شكراً خاصاً على جهوده، لكن ريغان من حيث لا يدري- يفضح دوره في الإيقاع بثوار جبهة الساندنيستا عندما يسمح لوسائل الإعلام بنشر صورة لهم وهو بينهم، لإثبات تعاملهم مع المخدرات فيصبح مطارداً من طرف هؤلاء لتصفيته، كما يتطلع رجال المباحث الفيدرالية للقبض عليه ومحاكمته بتهمة تهريب المخدرات وغسيل الأموال.
ما يحدث بعد ذلك ليس مهماً، فالتفاصيل كثيرة، والشخصيات الثانوية متعددة ولكنها لا تحظى بأي قدر من اهتمام السيناريو الذي كتبه غاري سبنيللي. فهناك على سبيل المثال شخصية الشاب المراهق “جي بي” (كاليب لاندري جونز) شقيق لوسي زوجة سيل، الذي يحضر فجأة للإقامة مع الأسرة في القاعدة، ويطلع على الكثير من الأسرار، فيسرق بعض المال ويشتري سيارة، ثم يقع في قبضة الشرطة أثناء حمله حقيبة مكتظة بالدولارات، ولكن يتم الإفراج عنه لحساب سيل الذي يطلب منه الرحيل ويمنحه بعض المال، لكن الفتى يهدده بإفشاء سره إن لم يرسل له المال إسبوعيا بانتظام.

عودة للماضي
هذه الشخصية وغيرها أيضا كان المقصود أن تضيف المزيد من الإثارة على الأحداث لكنها بدت تائهة، تظهر فجأة وتختفي فجأة، تماماً مثل شخصية “لوسي” (ساره رايت) زوجة سيل التي بدت شخصية سطحية، غير مقنعة لا في تكوينها كشخصية درامية بخضوعها المهين على هذا النحو لما يحدث، ولا من ناحية انفعالات الممثلة التي بدت مفتعلة. فقد اكتفى السنياريو بتصوير شبقها للمال والجنس.
تدور أحداث الفيلم في الفترة من أواخر السبعينات حتى عام 1986. وينتقل الفيلم فيما بينها على الصعيد الزمني من خلال العودة للماضي بين وقت وآخر، إلى باري سيل وهو يقوم بتسجيل اعترافاته التفصيلية بما قام به وما تعرض له- أمام كاميرا صغيرة وتسجيلها على شرائط فيديو، وكتابة التواريخ عليها والاحتفاظ بها معه كوثيقة إدانة ضد المخابرات الأميركية أو ضد النظام الذي أقنعه بأنه يخدم بلاده بهذا العمل، ثم بدا أنه قد تخلى عنه بعد أن استنفذ الغرض منه، دون أن يتم التعرض سوى على نحو عابر، للعلاقة بين السي آي إيه وإيران وإسرائيل.
من الحيل الطريفة الاستخدام البارع لمقاطع حقيقية من خطابات الرئيس ريغان للشعب الاميركي، بحيث تبدو وكأنها تعليق على الأحداث كما نراها، بل وهناك أيضا مقطع للسيدة الأولى نانسي ريغان وهي تطلب من الأمريكيين أن يقولوا لا للمخدرات في الوقت الذي يتهم الفيلم إدارة ريغان باستخدامها في أميركا الوسطي.
طعم المالرواية الأحداث من وجهة نظر باري سيل بصوته، وحديثه الذي لا ينقطع عن “المال” وتراكم المال، وما نراه من صور عديدة لتبادل المال بالمخدرات، وكيف يغري باري زوجته ويسكتها عن الاحتجاج بما يغدقه عليها من هدايا ذهبية تتراكم أكواماً، وما يلقيه إليها من حزم الدولارات، يذكرنا دون شك، بفيلم سكور سيزي الشهير “رفاق طيبون” Good fellas (1990). هنا أيضا لدينا بطل وحيد، يتورط بفعل رغبته في المغامرة، وتحت إغراء المال الوفير الذي يمكن كسبه بطرق غير مشروعة، وكيف يصعد كثيراًويحقق ما يفوق أحلامه، متصورا أنه يتمتع جيدا بالحماية (من طرف المافيا في فيلم سكورسيزي، ومن طرف مؤسسة المخابرات وعصابات المخدرات معا في فيلمنا هذا) إلى أن يواجه السقوط المحتم. ويظل العامل المشترك بين الفيلمين يتمثل في تجسيد “طعم المال” مقابل الجريمة.
لكن بينما كان “رفاق طيبون” يتميز بواقعيته رغم الكثير من مشاهد العنف التي تصل للسريالية أحياناً، يبدو “صناعة أميركية” وقد آثر مخرجه ومؤلفه، التحليق في الفضاء، لإحاطة “البطل” بكل ما يضمن بقاء الصورة الجذابة للأميركي- الأبيض- الوسيم- الذي ليس في الحقيقة أسوأ من المؤسسات السرية التي تستغله. وعلى حين كان “رفاق طيبون” عملا مليئاً بالعنف، وكانت الدماء فيه تُترجم إلى مال يتدفق واستمتاع بالطعام والشراب والصحبة الممتعة (والحماية ولو إلى حين) يميل السياق السردي في “صناعة أميركية” إلى المبالغة وإضفاء أجواء كوميدية خفيفة، مع لمسة واضحة من السخرية، تجعل بطل الفيلم يبدو وكأنه يلعب ويتسلى بما يقوم به من مناوشات ومناورات يتحايل من خلالها للإفلات من المواقف الصعبة.

هناك تركيز واضح على فكرة أن هذا البطل الفردي الوحيد الذي يريد أن يوفر حياة جيدة لأسرته الصغيرة، هو بحكم ولعه بقيادة الطائرات، لا يرى العالم ولا ما يحدث على الأرض فهو دائماً يتطلع من أعلى أي يحلق من داخل قمرة الطائرة، وبالتالي لا يمكنه إدراك الحقيقة. وفي معظم مشاهد الطيران، وهي كثيرة في الفيلم، يظهر في لقطات قريبة (كلوز أب) وهو يضع نظارات سوداء على عينيه، إمعاناً في التأكيد على رغبته في عدم رؤية ما يحدث في الأسفل كما هو، متبنياً في الوقت نفسه، صورة “سوبرمان” الذي يخاطر بالهبوط ذات مرة وسط الغابات ويكاد يصطدم بالأشجار، لكن المخاطرة تزيد من شعوره بالإثارة والمتعة. فهذا هو الأميركي الذي لا يهاب ولا يتردد، لكنه رغم شجاعته الظاهرية، يفتقر للدافع الأخلاقي. فهو متماثل مع النظام الذي صنعه.
بعيدا عن الواقع السياسي وعلاقة الفيلم بالحقيقة، يتمتع الفيلم بصورة شديدة الجاذبية، وينجح المونتاج في تحقيق إيقاع سريع لاهث، ولكن ربما يكون المونتير قد ظلم بعض الشخصيات الثانوية مثل شخصية الضابط الأسود الذي يراقب عمليات غسيل الأموال التي يقوم بها سيل، فقد بدا أنه خرج من الفيلم كما دخل ولكنه يظهر فقط في النهاية. ونجح تصوير سيزار شارلون (من أوروغواي) في تجسيد التباين في الإضاءة ونغمات اللون، بين بيئة القاعدة التي يقيم فيها سيل وبين المناطق الخضراء في غابات أميركا الوسطى والجنوبية، مع سيطرة كبيرة على مشاهد الطيران، واستخدام جيد لتقنية الصور التي يتم توليدها عن طريق برامج الكومبيوتر مع المؤثرات الخاصة البصرية، ومزجها بشريط صوت مليء بالحيوية.