تكملة مزعجة.. هل سيغرق كوكبنا الأزرق؟

بعد مرور أكثر من عشر سنوات بقليل على ظهور فيلم المخرج الأمريكي ديفيس غوغنهايم “حقيقة مزعجة” الحاصل على أوسكار أفضل وثائقي (2007)، يأتي الآن عمل مواطنه بوني كوين “تكملة مزعجة.. الحقيقة للسلطة” (Inconvenient Sequel: Truth To Power) ليراجع ما بدأهُ الأول. وفي مسعى منه يحاول تجاوز المعهود من التكميلات “التسلسلية” الطابع إلى مستوى البناء التراكمي على موضوع واحد وربما على شخصية واحدة؛ حيث ما زال “آل غور” -نائب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق والناشط البيئي اليوم- شخصية محورية في الوثائقي الجديد، وأوكلت له فيه مهمة عرض ما تحقق ومآلات ما أخذ على عاتقه للعمل في حقل البيئة والحفاظ عليها واستحق عليها من قبل جائزة نوبل للسلام.

إذاً الفيلمان يشتركان في موضوع واحد؛ الأخير أراد أن يكون تكملة للأول شرط احتفاظه بشخصيته، التي أرادها مخرجه شديدة الاستقلالية، تُعاين المشهد العام وتلاحق “بطل” الفيلم السابق لتعرف منه كم تحقق من حلمه، وعما جرى للبيئة والمناخ المضطرب المُسبب للكوارث، مما دفعه لتكريس حياته -بعد تركه السياسة-  لكشفها أمام العالم وتحريض سكانه على التحرك للوقوف في وجه المتسببين في دماره بأسلوب جمع فيه بين لباقة وحنكة السياسي (السابق) وبين خبرته الجديدة المستقاة من نشاطه الشخصي.

لهذا أبقى فيلم “تكملة مزعجة.. الحقيقة للسلطة” على دوره الرئيسي، أعطاه أغلب مَشاهده، لكنه عرف كيف يدخل من خلالها ويستثمرها لعرض وتحليل ما حدث من انقلابات مناخية كونية الطابع خلال أكثر من عقد من الزمن وتقديمها للمُشاهد كما هي؛ حقائق “مجردة” بكل ما فيها من إزعاجات وخيبات أمل وأيضاً بعلاماتها الإيجابية التي هي على الأرجح من أعطت فيلم “كوين” ومساعده ومصوره البارع “جون شينك” خصوصية وتميزاً عن سابقه، إضافة إلى طبيعة شخصيته المحورية دون شك.

في تجربة “آل غور” مرارة وخيبة أمل توجزها ببراعة المَشاهد الافتتاحية، وتوجز معها إلى حد كبير الصراع الدائر بينه وبين التيارات الراغبة في إبقاء الوضع على ما هو عليه، حفاظاً على مصالحها الاقتصادية وتعزيزاً لنفوذها السياسي، فنسمع عبر الشاشة المعتمة أصواتا تصفه بالـ”المُبالغ” وأخرى بـ”اللاموضوعي”، وإلى جانبها تتردد أصوات مقدمي برامج تلفزيونية تسخر منه وأحياناً من توصيفاته واستشهاداته، ثم يأتينا من بينها صوت الرئيس الأمريكي الحالي ترامب مطالباً لجنة نوبل للسلام بسحب جائزتها منه لأن  ثمة أموراً أخرى أجدى به الاهتمام بها مثل محاربة “الإرهاب”!

من بين الظلام يظهر “آل غور” في تسجيل تلفزيوني قديم جالساً أمام لجنة تحقيق في الكونغرس كُلفت بسماع شهادته عن أسباب دعواته المتكررة لتقليل الاحتباس الحراري عبر خفض كمية المحروقات وتقليل تسريبات المصانع العملاقة وإيجاد بدائل نظيفة للطاقة. من تلك المشاهد و”الأصوات” ينطلق الوثائقي الأمريكي لعرض الصعوبات التي تواجه عملية التغيير المعقدة في حقل “المحروقات” والطاقة التقليدية وخيبة أمل ناشط طموح في جمهور انتظر منه مؤازرة أكبر بوصفه المعني الأول بما يجري على كوكبه.

“آل غور” شخصية محورية في الوثائقي الجديد أوكلت له فيه مهمة عرض ما تحقق ومآلات ما أخذ على عاتقه للعمل في حقل البيئة واستحق عليها من قبل جائزة نوبل للسلام

آل غور.. خيبة أمل وجمهور غير مكترث

يعترف “آل غور” بضعف شعبية الحراك الداعي إلى تحسين صحة الكوكب وانزعاجه من تدهور المناخ على سطحه خلال العقد الأخير، ولعرضها سيرافقه الوثائقي في جولاته وتحركاته إلى درجة يبدو فيها وكأنه يريد بها تعميم النموذج “الفردي” عبر رصد نشاطه الحيوي وتلمس التحولات التي طرأت على وعيه وتكوينه الشخصي وقوة تأثيرها.

من المنطقي أن يغلب في مثل هذه الحالة “البرود” على أغلب مَشاهده، وبالتالي كان من المهم لصانعه التعويل على قدرة “الشخصية” نفسها في  نقل أفكارها إلى الجمهور، لتأتي بعد ذلك الصورة بجمالياتها لتحسين الاشتغال السينمائي. من الفوارق الواضحة بين الفيلمين انتقال “آل غور” من النشاط التوضيحي إلى التحريضي المدعوم بخبرة سياسية يعرف صاحبها كيف يقنع جمهوره برسالته، وهذا ما تجلى في المقاطع التي يظهر فيها محاضراً في دورات تعليمية مخصصة لتوضيح وشرح مواضيع متعلقة بالتغيُّرات المناخية والاحتباس الحراري والكوارث التي تشهدها مناطق كثيرة من العالم وإعلانه صراحة وقوف الساسة المحافظين وأصحاب المصانع ضد كل نشاط طموح يريد منع استمرارها، وتشخيصه بوضوح الخرق الحاصل في مفهوم “الديمقراطية” حين تعارض أقلية مصالح أغلبية البشر وترفض الاستماع إلى آرائهم ومطالبهم.

في الثلثين الأولين من زمن الوثائقي (98 دقيقة) يسود التشاؤم وتطغى الحقائق المزعجة بشأن الخراب اللاحق بكوكبنا. زياراته الميدانية للقطب المتجمد الشمالي وإلى جزيرة غرينلاند ومقابلته عدداً من علماء المحطة الفرنسية هناك، تُجلي جانباً من أسباب الفيضانات التي تشهدها بعض الولايات الأمريكية على وجه الخصوص. فرخاوة الثلوج بسبب ارتفاع حرارة الأرض وضعف طبقة الأوزون يؤدي إلى ذوبانها وبالتالي تسرب كميات هائلة من مياهها إلى البحار فيرتفع منسوبها ويفيض على المناطق المحيطة بها. تلك المشاهد ربما من بين أجمل ما في الوثائقي الذي فضل التصوير بنفسه وأخذ ما يريده منها بما يتوافق مع محاضرات شخصيته الرئيسية المقنعة في تقديمها والمستندة في تحليلها لأسباب الكوارث من فيضانات إلى أعاصير وحرائق؛ على وجهات نظر علماء وتسجيلات كاميرات ظلت ترافقه وتعطيه ما عندها كلما احتاج لتعزيز طروحاته ومحاضراته.

لا يفتعل الوثائقي صراعاً بين آل غور وبين الرئيس ترامب، بل يمهد لتسجيله عبر عرض اختلاف مواقفهما في أماكن محددة؛ باريس. سيرمز مؤتمرها العالمي للحد من التغيُّرات المناخية الأخير وما يسفر عنه من إجابات من جهة وإعلان الرئيس ترامب رغبته الانسحاب من المعاهدة المعروفة باسم المدينة من جهة ثانية إلى قطبية صراع؛ الأول في عمومه يدعو الدول والمؤسسات للاستجابة إلى إغاثة الطبيعة وإصلاح حالها، فيما يمثل الطرف الثاني وجهة نظر تيار سياسي قوي متمتع بقوة نفوذ اقتصادي يريد الاحتفاظ بها عبر استثمار أكبر قدر من الطاقة التقليدية دون اعتبار لما تخلفه من سموم تضر بالناس وبالبيئة.

الفيلم يعرض مشاهد مرعبة للعواقب المترتبة على ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار سبعة أمتار وإغراق أجزاء شاسعة من فلوريدا وسان فرانسيسكو ونيويورك وهولندا وكلكتا وبكين

تجاوب محدود يصارع غلبة الإعراض

في التمهيد للوصول إلى النقطة الباريسية يتسلح آل غور وما يمثله من تيار واعٍ  بحقائق ومعطيات يصعب دحضها تمكنه لقوتها من إطلاق بالونات استباقية مسنودة على تجربة حية لبشر في مناطق مختلفة من العالم وصل الوثائقي إلى بعضها، وفي كل محطة منها عرض جانباً من الموضوع المقترح تقديمه “بانوراميا” في الاجتماع المرتقب. أجلى ذلك النشاط التوثيقي البعد الإيجابي التفاؤلي الغائب في ثلثي الفيلم والمتمثل في اتساع الاستجابات والموافقات على مقترحات الناشطين والعلماء البيئيين في البحث عن بدائل جديدة للطاقة أقل ضرراً من المستخدمة اليوم سواء أكان وقوداً بتروليا أم فحميا، وثبت في الوقت نفسه انتقال أقسام كبيرة من قطاعات إنتاج الطاقة إلى الشمسية، ويبرهن على ذلك محاضرات الناشط آل غور وتسجيلات الوثائقي الخاصة في عدد من الدول، كما تبرهن أيضاً على صعوبة توافقها بالكامل مع مصالح دول تطمح لأخذ حصتها من النمو الاقتصادي العالمي، وفي مقدمتها الصين والهند.

لا يعبأ المنتفعون من الفورة الصناعية في البلدين بحجم التلوث الذي يترك آثارا كارثية على صحة مواطنيهم ومدنهم وكوكبهم. نقاشات الناشط مع بعض ممثلي الموقف المتشدد من التغيير والتحول من استخدام الطاقة المستخرجة من الفحم إلى الشمسية ستأخذ الوثائقي إلى دروب متشعبة ستصل مساراتها في نهاية المطاف إلى باريس.

مرّ على الفلبين وصوّر حجم الخراب الذي تركته الأعاصير والأمطار على أراضيها ومزارعها خلال العقد الأخير من الزمن وأدى إلى موت آلاف من سكانها. سجل في سوريا آثار الجفاف الذي تشهده البلاد وقلة منتوجها الزراعي بسببه، وزاد بدوره من معاناة الناس فوق معاناتهم من ويلات الحرب الأهلية وفظاعاتها، ثم توقف في ولاية نبراسكا الأمريكية وسجل ما تركته “الأمطار القنبلية” فيها. صور حرائق أستراليا الشاسعة، وبعد ذلك قام بنقل تسجيلاته معه إلى باريس ليعرضها على المشاركين في الاجتماع الأهم في مجال اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بالحد من الاحتباس الحراري والبحث عن بدائل مستدامة للطاقة.

الكوكب الأزرق.. هل يستحق كل هذا الجهد؟

يشير الوثائقي المتشعب الدروب المكتوب بعناية لافتة إلى قدرة الناشط والسياسي -إذا ما أرادا استغلال علاقاتهما وقدراتهما على الإقناع- على إحداث التغيير، بوصفهما قوة أشار عنوان الفيلم إليها. للدلالة على ذلك يتوقف صانعه مطولاً عند تحرك آل غور لإقناع البنوك الأمريكية بتقديم قروض تشجيعية للهند توفر لها إمكانية إنشاء مدن صناعية جديدة تعتمد الطاقة الشمسية مصدراً بديلاً عن الفحم، كما تُجلي جانبا من التفاهم المطلوب والتخلي عن التشدد في فرض التطبيقات الجيدة -كالتي تجري في الولايات المتحدة الأمريكية في حقل الطاقة الشمسية البديلة- بحذافيرها على بلدان يسمح نموها الجديد المُعول عليه في تحسين أوضاع سكانها باستخدام أكثر من نوع من الطاقة وصولاً إلى تخلصها من الضارة.

موافقة مؤتمر باريس الأخير على اتفاقية التعاون البيئي مع الهند مؤشر على إيجابيات في المشهد المؤلم للبيئة يضاف إلى مؤشرات على تحسن نسبي في إدراك دول كثيرة لأهمية الأخذ بالطاقة النظيفة بالتوافق مع زيادة وعي عام بين الناس بأهمية تحركهم وضغطهم على حكوماتهم للعمل على تحسين بيئتهم.

هل الصورة مشجعة إلى هذا الحد؟ يسأل الوثائقي نفسه في ربعه الأخير ويعمل جاهداً على توفير إجابة عبر شخصيته المركزية. يوفر له الصور والمشاهد المقنعة ويستعين بالأرقام والإحصائيات العلمية التي تقول: ثمة تحسن وزياردة في الوعي البيئي عموماً لكن ثمة الكثير من العمل على الجميع التعاون لإنجازه.  فكوكبنا الأزرق مُلكنا وصورته الرائعة من الفضاء يجب أن نحافظ عليها!. تلك واحدة من رسائل فيلم “تكملة مزعجة”.


إعلان