مارك فيليت.. الرجل الذي أسقط البيت الأبيض

يثير الفيلم الأمريكي الجديد “مارك فيلت: الرجل الذي أسقط البيت الأبيض” (2017) Mark Felt: The Man Who Brought Down the White House -إخراج بيتر لاندسمان، موضوع العلاقة بين الشخصيات الحقيقية والسينما، وكيف يمكن أن تصبح السينما وسيطاً مخلصاً لنقل الحقيقة إلى الجمهور، بل وكيف أصبحت كتب المذكرات أو السيرة الشخصية (أو الذاتية- بيوغرافي) مادة أساسية اليوم في عدد كبير من الأفلام، بعد أن أصبحت السينما تقتبس كثيراً من الأدب، ومن النصوص المكتوبة، بعد أن كان كثير من المخرجين يفضلون كتابة السيناريوهات للشاشة مباشرة.
من أكثر الأفلام صعوبة تلك التي تستند إلى تفاصيل معروفة من حياة شخصية حقيقية شهيرة، لعبت دوراً بارزاً في مسار الأحداث السياسية أو الاجتماعية في بلدها. فالفيلم الذي يسعى إلى تقديم “دراسة شخصية” عن إحدى هذه الشخصيات- كما فعل سكورسيزي مثلا في “ذئب وول ستريت”- يجب أن يتمتع بالقدرة على إثارة اهتمام المتفرج الذي غالباً ما يكون قد اطلع بالفعل، على تفاصيل كثيرة تتعلق بهذه الشخصية من واقع ما نشرته وسائل الإعلام عنها. ويتوقف نجاح الفيلم وقدرته على جذب اهتمام الجمهور من خارج دائرة المهتمين مباشرة بالموضوع، على براعة السيناريو، وقدرة الإخراج على سرد الأحداث من خلال بناء لا يسقط في العرض التقريري المباشر، حتى لو اعتمد جزئياً على خياله الخاص، يمزج الحقائق بالخيال، ويمكنه أن يكشف عن تفاصيل جديدة تلقي مزيداً من الأضواء على الشخصية التي يدور حولها الفيلم.
كل رجال الرئيس
في عام 1976 ظهر فيلم أمريكي سبب أصداء صاخبة، هو فيلم “كل رجال الرئيس” الذي اخرجه آلان باكولا وقام بيطولته اثنان من عمالقة الممثلين في هوليوود هما: روبرت ريدفورد وداستين هوفمان. وقد قاما بدوري صحفيي “واشنطن بوست”، بوب وود وارد وكارل برنستين، اللذين كانا وراء تفجير فضيحة ووترغيت التي أطاحت في نهاية الأمر بالرئيس ريتشارد نيكسون ودفعته للاستقالة في أغسطس 1974. لكن كان وراء المعلومات الدامغة التي نشرتها الصحيفة في ذلك الوقت، رجل مجهول، أطلقت عليه الصحيفة “الحلق العميق” Deep Throat. كان يقوم بدور هذه الشخصية الغامضة في “كل رجال الرئيس” هال هبو بروك (وهو حالياً في الثانية والتسعين من عمره ومازال يمارس التمثيل). وكان بوب وود وارد يلتقي بـ “الحلق العميق” في جراج للسيارت يقع تحت الأرض في بناية ما من بنايات العاصمة الأمريكية، وكان الرجلان يلتقيان عادة في الثانية صباحاً. وقد ظلت هوية هذا الرجل مجهولة تماماً للرأي العام داخل وخارج الولايات المتحدة، إلى أن اعترف “مارك فيلت” بعد أكثر من ثلاثين سنة، في عام 2005، بأنه كان هو “الحلق العميق” الذي وقف وراء تسريب المعلومات التي تدين الرئيس نيكسون وتصمه بالكذب على الرأي العام. ثم أصدر فيلت كتابه الأول “هرم الإف بي أي” (1979)، ثم كتابه الثاني “حياة رجل حكومة” (2006). ويعتمد سيناريو الفيلم الذي نحن بصدده هنا على ما جاء من تفاصيل وأسرار في الكتابين. وقد كتب المخرج لاندسمان سيناريو الفيلم، وهو في الأصل، صحفي لامع متخصص فيما يعرف بـ “الصحافة الاستقصائية”، كما عمل مراسلاً حربياً، وكتب عدداً من الروايات. ولكن من هو مارك فيلت (أو الحلق العميق) الشخصية الحقيقية والسينمائية التي يدور حولها هذا الفيلم؟
يقوم بدور مارك فيلت في الفيلم ليام نيسون، وأمامه ديان كيتون في دور زوجته “اودري”، ويدور الفيلم في أجواء التشكك والقلق التي صبغت تلك الفترة من أوائل السبعينات، مع تداعيات الحرب في فيتنام، ورغبة الأمريكيين في استعادة التوازن المفقود.
التحق فيلت بالعمل كضابط في مكتب التحقيقات الفيدرالي عام 1941 أي إبان الحرب العالمية الثانية، وكان “المكتب” (أو الجهاز) وقتها تحت رئاسة مؤسسه ومديره الأسطوري إدجار هوفر الذي أنتجت السينما عنه فيلماً شهيراً قام ببطولته ليوناردو ديكابريو وأخرجه كلينت إيستوود عام 2011. أما فيلت فقد صعد ليصبح الرجل الثاني في الجهاز وكان يتمتع بثقة هوفر، وكان شديد الاعتداد بنفسه، شديد التمسك بالمحافظة على استقلالية الجهاز عن الحكومة. ورغم أن الرئيس الأمريكي هو الذين يعين رئيسه إلا أن فيلت كان يسير على خطى هوفر في رفض أي تدخل من جانب البيض الأبيض في عمل الجهاز ورفض تزويد البيت الأبيض بأي معلومات. وهذه النقطة تحديدا هي التي يضعها فيلم “الرجل الذي أسقط البيت الأبيض” في بؤرة الشخصية والأحداث، ويجعلها النقطة الفاصلة في علاقة فيلت بالسلطة، وهي التي دفعته إلى التمرد وأن يصبح من أشهر “نافخي الصافرات”، أي الذين يحذرون الرأي العام من تجاوزات السلطة وجنوحها للاستبداد. وقد عاش فيلت إلى أن بلغ الخامسة والتسعين من عمره، وتوفي عام 2008، لكنه كان قد أرغم- على نحو ما- على التقاعد من منصبه في يونيو 1973 بعد أن ازداد الشك في كونه كان المسرب الأساسي للمعلومات التي استخدمتها “واشنطن بوست” لفضح ما ارتكبه أشخاص على صلة بالحزب الجمهوري من تجاوزات عندما اقتحموا مبنى الحزب الديمقراطي وزرعوا أجهزة للتنصت على اجتماعات أعضائه، وثبت أن الرئيس نيكسون كان على علم بهذا التجاوز، وربما يكون هو الذي أمر بالعملية، في إطار سعيه للفوز بفترة رئاسية ثانية عام 1972. وقد فاز نيكسون بالفعل، لكنه سقط بعد أقل من عامين، وكان وراء سقوطه مارك فيلت.
بارانويا أمريكية
يقوم بدور مارك فيلت في الفيلم ليام نيسون، وأمامه ديان كيتون في دور زوجته “أودري”، ويدور الفيلم في أجواء التشكك والقلق التي صبغت تلك الفترة من أوائل السبعينات، مع تداعيات الحرب في فيتنام، ورغبة الأمريكيين في استعادة التوازن المفقود. ويبدأ الفيلم بهذه الأجواء التي تعكس حالة البارانويا الاجتماعية، مع فوز نيسكون بفترة رئاسية أولى عام 1968، ولكن مظاهرات الغضب تحاصر البيت الأبيض، وتدفع رجال “المطبخ السياسي” لعقد اجتماع عاجل لبحث ما يمكن عمله، يستدعون لحضوره مارك فيلت لاختبار مدى ولائه للرئيس الجديد واستعداده للتعاون مع “الإدارة الجديدة”، لكن فيلت- الذي قضى ثلاثين عاما في الشرطة الفيدرالية، ذلك الجهاز الرهيب الذي نجح رئيسه هوفر في أن يجعله “دولة داخل الدولة”، يقف متحدياً، بل وملوحاً بما يتوفر في حوذته في الجهاز من معلومات عن “الجميع”، وهو ما يزعج – بوجه خاص- المستشار القانوني للبيت الأبيض “جون دين” (مايكل سي هول) الذي سيصبح منذ تلك اللحظة متشككاً في مارك فيلت. لكن موقف فيلت يتصاعد بعد ذلك عندما يعثر على رئيسه إدجار هوفر ميتا في منزله، ثم يرفض بشدة تسليم الملفات التي وجدت في منزل هوفر إلى البيت الأبيض بل وأنكر وجودها من الأصل.
يتوقع فيلت، الرجل الثاني، أن يخلف رئيسه الراحل في رئاسة الجهاز، لكن نيكسون يعين رجلاً من أنصاره، محامياً من خارج الجهاز لكي يصبح الرئيس الجديد له. الفيلم يصور هذه الواقعة باعتبارها أنها لعبت دوراً في تأجيج مشاعر الكراهية في نفس فيلت ودفعته فيما بعد إلى “الانتقام” من نيكسون، لكنها رغبة تبدو ممتزجة أيضا بنوع من التمسك الحرفي باستقلالية الجهاز، وفي الوقت نفسه الاعتزاز الشديد بالنفس.
يحاول رئيس الجهاز الجديد “باتريك جراي” من اليوم الأول، أولا كسب ثقة فيلت وعدم إشعاره بأن جراي، القادم من الخارج، جاء ليقمعه وتهميشه أو التقليل من شأنه خاصة وأن في حوذته الكثير من الأسرار، لكنه ثانيا: سيحاول بشتى الطرق، إغلاق ملف التحقيق في “ووترجيت”، فولاء جراي الأساسي ليس للجهاز بل للرئيس، والرئيس كان على استعداد لأن يفعل أي شئ من أجل وقف تداعيات القضية.
فيلم الشخصية الواحدة
لا يظهر هوفر في الفيلم بل يعلم المسؤولون في البيت الأبيض بخبر وفاته من خلال أخبار التليفزيون، ونعرف من خلال الأخبار أيضا، أن الرئيس نيكسون أمر بإقامة جنازة كبيرة حاشدة له (في الواقع لم يكن يطيقه).. ولا نرى أيضاً نيكسون كشخصية من شخصيات الفيلم، بل نراه على نحو مقتضب، من خلال بعض اللقطات التسجيلية للشخصية الحقيقية. فالبطل الحقيقي هنا هو مارك فيلت، والفيلم هو أساساً- هو فيلم ليام نيسون الذي يظهر في غالبية المشاهد، وباقي الشخصيات ثانوية مساعدة، بما في ذلك شخصية الزوجة “أودري” التي تشعر بالذنب كونها كانت السبب نتيجة معاملتها السيئة، في مغادرة ابنتها “جوان” المراهقة المنزل، والانضمام لجماعة من الشباب المتمرد، أقرب إلى الهيبيز، يعيشون حياة متحررة داخل “كوميونة” في كاليفورنيا. وكما نرى- يشك فيلت في أن تلك الجماعة هي جماعة “أندرجراوند ووتر” الفوضوية التي كانت وراء تفجير 28 قنبلة في أماكن مختلفة من الولايات المتحدة. وفي الفيلم لقطات سريعة ذات طابع تسجيلي، لمداهمة ضباط الشرطة الفيدرالية لبعض أوكار تلك الجماعة، وهي العملية التي سيدفع ثمنها فيما بعد، مارك فيلت عندما يوجه إليه الاتهام بتجاوز القانون والسماح لرجاله بتفتيش منازل المشتبه فيهم دون إذن من القضاء. وسيحكم عليه بالغرامة لكن الرئيس ريجان سيمنحه عفواً فيما بعد تقديراً لخدماته للأمن القومي الأمريكي. وهذه المعلومات لا تتجسد في الفيلم، بل نعرفها من خلال الكلمات التي تظهر على الشاشة في نهاية الفيلم.
بين أجواء “الفيلم نوار”، وفيلم الإثارة والتحقيق البوليسي، ودراسة الشخصية، والدراما النفسية، تدور أحداث الفيلم في تصاعد يصل لذروته مع قرار فيلت بإفشاء أسرار البيت الأبيض لصحفي الواشنطن بوست، والاستمرار في الوقت نفسه في التظاهر بالغضب الشديد إزاء ما تنشره الصحيفة، وأمره بالتحقيق في الموضوع، بل واتهام بعض العاملين في مكتبه. لكن سيأتي وقت تصبح “المؤسسة” على يقين من أن فيلت هو المسؤول، ولكن- وكما يقول له جراي: “إنهم يتركونك فقط لكي يتحاشوا أن تخرج وتبوح بكل ما تعرفه للصحافة لكن لا يجب أن تراهن على أن هذا سيستمر طويلاً”.
لا ينجح الفيلم كثيراً في الربط بين أزمة فيلت الشخصية: اكتئاب زوجته، وضياع ابنته وبحثه الشاق عنها بما يدفع للتساؤل، كما يقول له أحد خصومه في الفيلم ساخراً: أنت خبير الشرطة الفيدرالية تعجز عن العثور على ابنتك؟ ،وبين صراعه مع “المؤسسة”. ما يريده الفيلم من وراء عجز فيلت من العثور على ابنته وهو مسؤول بارز في الشرطة السرية، التأكيد على نزاهة فيلت الذي لم يشأ استخدام إمكانيات الجهاز في البحث في مسألة شخصية، بل إنه يدفع من جيبه الخاص لشخص يدلي له بمعلومات عن مكان ابنته، ثم يذهب مع زوجته ليجدا أنها قد انجبت طفلا. ما الذي حدث للفتاة بالضبط، ولماذا هجرت المنزل، ولماذ طال غيابها إلى أن يعثر عليها فيلت ويعيدها إلى منزل الأسرة؟ هنا تغيب الكثير من التفاصيل عن السيناريو، كما يفشل في الربط بين القضية العامة والمشكلة الخاصة.
أخيراً.. لعل ما يجعل الفيلم مثيرا للاهتمام في الوقت الحالي، ما يلقيه من إسقاطات على الوضع السياسي الحالي في الولايات المتحدة، ونحن أمام رئيس تثار ضده أيضاً- ولو على استحياء- اتهامات بارتكاب تجاوزات خطيرة، سواء خلال حملته الانتخابية أو بعدها. ولكن هل سينتهي دونالد ترامب إلى ما انتهى إليه ريتشارد نيكسون؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام، لا السينما.