سوريا والعراق… رمل ودم

قيس قاسم 

يعتمد الفيلم على صور وتسجيلات فيلمية مصدرها وسائل التواصل الاجتماعي تضمن شهادات لاجئين من سوريا والعراق بعد وصولهم إلي النمسا عن ما تعرضت له بلادهم من دمار وحروب أهلية.

أعوام من القتل، والدمار، والتهجير في سوريا والعراق دفعت المخرج النمساوي “ماتياس كريب” لتبني تلك القضية في الوثائقي ” رمل ودم” .  فالأسلوب الخاص وشكل المعالجة الجديدة، للموضوعين السوري والعراقي كما تناولهما المخرج  في فيلمه Sand and Blood “ يفرضان على المتصدي للكتابة عنه، عرضهما قبل الولوج إلى متنه وتحليل مضامينه، لأنه من المرات القليلة، التي يعتمد فيها وثائقي طويل، غربي الإنتاج، بالكامل على صور وتسجيلات فيلمية مصدرها وسائل التواصل الاجتماعي، أخذها بكل “رداءتها” ثم أعاد منتجتها بما يتوافق مع أحاديث وشهادات لاجئين من سوريا والعراق وصلوا إلى النمسا، لم يُظهر وجوههم على الشاشة، خوفاً على حياة عوائلهم وأقاربهم المقيمين مازالوا في البلدين، وبالتالي افتقد الفيلم إلى عنصر ثانِ مهم حاول معالجة نقصه بربط أصواتهم مع التسجيلات الفيليمة المأخوذة بعدسات مصورين هواة أغلبهم من المشاركين في الأحداث أو كانوا قريبين منها، عكس أفلام وثائقية مهمة، أخرى عوضت ضعف صور الهواة بتبريز الشخصيات المشاركة فيها ونقل مشاعرهم وأحاسيسهم إلى مُشاهدها من خلال التقاط تعابير وجوههم وهم يتحدثون عما مروا به من ظروف وأهوال.

غير أن ما يُضفِ بعداً محيراً آخر على أسلوب صانعه النمساوي ومساعدته “أنجليكا سبانجيل” هو اختيارهما الجانب المتعلق أكثر بطفولة أبطالهما، ما يوجه السرد أكثر نحو الخصوصية، وربما هذا الاختيار نفسه يفسر أسباب “تشوشه” التسلسلي وسياق كتابته ـ درامالوغياً ـ للأحداث، المتشعبة والمتداخلة، المتوافقة (مونتاجياً) مع ما ورد في أحاديثهم، كونهم أصلاً من بلدين شهدا تحولات دراماتيكية ودموية، مآلاتها تقاربت كما يتوصل الفيلم، بعد عرضه مساحة كبيرة من تاريخ الحرب الأهلية والصراعات الطائفية، التي نشبت في العراق بعد الاحتلال الأمريكي له وفي سوريا بعد انطلاق الحراك الجماهيري في عدة محافظات، قررت السلطة إسكاتها بقوة السلاح، فامتدت بدلاً من أن تتحجم وما زالت حتى اللحظة بعيدة من الحل، ما يضفي على الفيلم بعداً تحليلياً يحتاج تشخصيه إلى مشاركة وتفاعل معه من قبل متلقيه، لأن صُناعه قرروا الوقوف في منطقة الحياد مع إصرارهما على طرح أسئلة ملتاعة حول ما جرى في البلدين. الطريقة التي صيغت بها وأسلوب توصيلها سينمائياً إلى الجمهور، على الأرجح هي من أقنعت لجان تحكيم الدورة الأخيرة ل(مهرجان يهلافا للفيلم الوثائقي) منحه جائزة “العين الفضية”.

يوثق الفيلم ما حدث في سوريا من خلال شهادة شاب أُلقي القبض عليه بحجة تصوير المظاهرات و تعرضه لأبشع أنواع التعذيب في أقبية مخابرات السلطة .

بحذر يدخل الوثائقي إلى العراق وسوريا، معتمداً الأصوات وسيلة تمهيدية ثم تتبعها الصورة. أغنية “جنة جنة والله يا وطنا” العراقية استخدمت مدخلاً لوصف الأجواء السورية، التي سبقت الحراك الشعبي السلمي في درعا، حيث الثلج يتساقط شتاءً على شوارع دمشق فتضحى بيضاء نقية، أما في العراق فصورة لأسواقه الشعبية وشوارعه الجميلة تحيل كلام الشاب القادم منها، إلى شهادة على زمن كانت حياته تسير فيها بشكل رائع إلى اللحظة التي دخل فيها الجيش الأمريكي بلاده محتلاً فتحولت إلى حجيم.

مدخلان بسيطان من زمن الطفولة الأولى، حيث الأشياء تُرى بعيون محبة للمكان، الذي كان ذات يوم وطناً، قبل أن يرحل المتحدثان؛ السوري والعراقي إلى أرض غريبة، لأسباب ظلت حتى اللحظة بالنسبة إليهما مدعاة للقلق وتشظي التفكير، وهذا ما أراد الفيلم التوافق معه، فجاء منذ بدايته نصاً متداخل الأزمنة متشظي مكانياً، أحياناً، بما يتوافق مع التشتت الحاصل في البلدين خلال السنوات الأخيرة.

يقسم الوثائقي مساره الزمني (90 دقيقة) ومتنه الحكائي إلى فصول، أولها “ظل صدام المتطاول” حيث يعود فيه إلى جوهر المشاكل الناشئة في البلاد بسبب تركيبتها السياسية اللاتعددية، وهيمنة رجل وحيد على مقاليد حكمها. شهادة الطفلة، التي ألقت قصيدة في مديح الرئيس العراقي وقتها، صدام حسين وبحضوره والمُصورة على فيديو قديم، ستتحول بعد مدة إلى أسئلة عن معنى الخوف الكامن من الاقتراب منه حتى لو كان مداحاً له؟ فيما تفضي شهادة الشاب القادم من منطقة جغرافية أرفدت المؤسسة العسكرية بضباط وقادة انهارت صورتهم لحظة سقوط النظام ودخول الأمريكان محتلين لوطنهم. سقطت “الرموز” بسقوط المؤسسة العسكرية واهتزت صورة الأب “العملاق” حين رآه يبكى على “دولة” أُعلنت نهايتها بنهاية سلطتها. بالنسبة للشاب كما بالنسبة للفتاة لم يفهما ما جرى لأنهما بكل بساطة كانا طفلين وقتها، لم يفهما مكامن ضعف الأنظمة الشمولية وكثرة الثغرات، التي تحدثها سلوكيات قادتها في الجدران الخارجية لدولهم ما يسهل على العدو اختراقها كما فعل الجيش الأمريكي يوم دخل منها وغيّر كل ما تعودا على وجوده، بما فيها طبائعها القمعية والعسكرية، فالنسبة إليهما ثمة زمن ما قد تغيّر وبعده تحولت البلاد إلى جحيم!. في التجربة السورية يبدو الشاب الواصل لاجئاً إلى النمسا أكثر تفهماً لمعاني الحراك المطلبي السلمي وأكثر تألماً في قبول مآلاته الدموية، كما الطفلة العراقية وقد كبرت سنوات، صارت أكثر وعياً لما يجرى وقدرة على تخيّل ما ستفضي إليه الصراعات وعليه اتخذت قرارها بالمغادرة، فبالنسبة إليها لم يعد العراق أبداً كما كان وأنه مقبل ليكون: “رمالاً ودماً”!.  

يوضح الفيلم التباسات المشهد السوري بشهادات من خرجوا في مظاهرات دمشق وشهد القسوة غير المبررة المستخدمة ضد مَن رفع شعارات إسقاط النظام ، ثم وبسبب تعنت السلطة واختيارها الحل العسكري تحولت مدن البلاد وأهلها الى رمال ودم.

يراكم الوثائقي مشاهد التحولات الدموية في العراق على ضوء مقابلات أكثر من شخصية لاجئة في النمسا أكدت ـ بالمفهوم التفكيكي للنص ـ على توافر عنصرين جوهريين في معادلة الدم العراقي؛ أولها داخلي يعود إلى هشاشة البنى المجتمعية، وتفاخر سلطاته بقيامها بناء هياكل عملاقة على أساس الخوف والقمع لا التعددد واحترام ذوات البشر وخياراتهم، فيما يدخل الطرف الخارجي (الثاني) بقوة مستغلاً ضعف الدفاعات الداخلية. شهادة الشاب القادم من مدينة الفلوجة من بين أهم الشهادات على الإطلاق لقوة مضامينها وعمق معانيها القابلة للتأويل، وخلاصاتها المحيلة بإحالة الوجود الأجنبي “الخارجي” في المشهد العراقي إلى هشاشة الداخل وضعف متاريسه، واصفاً له؛ بالكارثة، التي ستضعف لاحقاً محلية الحراك المقاوم للاحتلال وبالتدريج ستُفضي إلى حرب داخلية/ طائفية الطابع، العنف والدم والكراهية المتراكمة والرغبة في الانتقام المتبادل كانت محركها الأساس.

يمر الوثائقي بمرور الشهادات على مراحل الوجود الأمريكي ثم ظهور حركة المقاومة العراقية الوطنية له وصولاً إلى ازاحتها من قبل قوى متشددة وجودها أزم الأوضاع وفتح أبواب الصراع الطائفي، سمح بدوره ببروز قوة معاكسة له متسلحة بمضامين طائفية مضادة له. ربما المشهد، الذي يظهر فيه ضابط عراقي يتبادل عبر أجهزة الارسال، التهديدات والتهم والشتائم مع قائد مسلح أجنبي، لحظة اقتراب تصادمهما المحتم، يعطي تصوراً دقيقاً عن طبيعة الوضع وقوة المنطلقات المذهبية، التي تخفي وراءها طموحات سياسية لم يغفل اللاجئون عن تحديدها بدقة مدهشة. الحرب الأهلية وتعقيدات المشهد العسكري أخذ حيزاً كبيراً من مساحات الفصول العراقية لما فيه من مدلولات عميقة توضح أسباب هجرة العراقيين إلى الخارج وتركهم البلاد خلفهم رملاً ودماً، وربما من بين أكثرها قوة تثبيت رفض كل الأطراف السياسية المتنفذة الطرق السلمية للحل وتعويلها النهائي على السلاح وحده لحسم خلافاتهم، فضاع بينهما الطرف السلمي الوطني التوجه!.

فاز الوثائقي " رمل ودم " بجائزة العين الفضية في مهرجان يهلافا للفيلم الوثائقي.

في الفصول السورية يبدو الحراك المنطلق من محافظة درعا مفاجأة لبقية سكان المدن السورية. شهادات شاب من عاصمتها أبدى عجزه يوم كان طالباً صغيراً من فهم مطاليب المتظاهرين السلمية ورفعهم شعار “الحرية”. لم يفهم ماذا تعني هذه الكلمة إلا حين أُلقي القبض عليه بحجة تصوير المظاهرات الشامية، من قبل أجهزة الأمن وبعد تعرضه لأبشع أنواع التعذيب والإهانات في أقبية مخابرات السلطة أدرك معنى الكلمة، وأدرك معها كيف أن شباب أبرياء مثله يدفعهم عسف الشرطة وقمع حريتهم في التعبير عن آرائهم للخروج في مظاهرات تطالب بحقوقهم المدنية، التي حتى هذه لم تتحملها السلطة فبادرت إلى تصفيتهم بالسلاح وبعدها وبسبب القتل والتعذيب انتقل الحراك الشعبي من طابعه السلمي إلى العسكري المسلح فاتحاً المجال لدخول أطراف خارجية عليه زادته تعقيداً وسمحت للسلطة بوصم من أطلقها وظل يرفع شعارات مدنية فيها بوصمة “الإرهاب”.

من بين شهادات السوريين واحدة تصدق القول بعدم قبولها فكرة مواجهة السلطة، لأن كل شيء كان بالنسبة إليهم كان جميلاً، لهذا صاروا بعد الحراك المنطلق من درعا والمنتشر في بقية المدن السورية موزعين بين موقفين ووجدوا أنفسهم في وضع يخشون فيه إعلان إعجابهم بشجاعة من خرج قبلهم. شهادة تُظهر بوضوح التباسات المشهد السوري وتشكله “الهجيني” خلال سنوات الحرب الأهلية، أكملها الوثائقي بخصوصية فيه، تُجليها شهادات من خرج في مظاهرات دمشق وشهد الكيفية التي كانت تقمع بها والقسوة غير المبررة المستخدمة ضد مَن رفع شعارات إسقاط النظام بتأثيرات مختلفة لم تتعدَ طموح/ حلم العيش في بلد متعدد المشارب السياسية، لكنها وبسبب تعنت السلطة واختيارها الحل العسكري تحولت مدن البلاد وأهلها إلى رمال ودم. من بين ما تحمله أصوات المشاركين في الوثائقي وهم عماده الأساس، إشارات خطير يفيد متنها الاعتراف؛ بأن الدم المسال غزيزا سوف يُزيد الأحقاد الشخصية ويسمح فعل الانتقام بتغليفها كما في السياسة برداء الطائفية البارز في المشهد السوري ولم يعد بمستطاع أحد تجاهله أو نكرانه. ذلك الرداء كشف عن خلل مجتمعي وهيكلي مريع  ظل متستر تحته، كشف عنه بوضوح الصراع الدموي بين الأطراف المتخاصمة وأظهر وجود شرخ متسع بين مكوناته كما في العراقي، التي ستتفضي نتائجه العسكرية الطابع في البلدين إلى هجرة واسعة، جانب منها التقطه الوثائقي الشديد الأهمية والخصوصية وأظهر من خلاله حجم الخراب الروحي والمكاني، لدرجة لم يعد بالإمكان تجاوزه بعد أن صارا العراق وسوريا: “رمادً ودماً”!.

 

 

 


إعلان