البرازيل الأخرى..” ريو” بين الفقر والترف

قيس قاسم

يسلط فيلم " The other Rio" الضوء علي فقراء " ريو دي جانيرو"

 خلف تلك الأنوار المبهجة والاحتفالات الصاخبة في “ريو” هناك عالم آخر . فبينما كان المشهد يبدو وكأنك في إحدي الدول التي لا يعاني شعبها فقراً قط،  وكانت أصوات المشجعين تهز الملعب عام 2008، كانت هناك أصوات أخري مختلفة على بعد عدة كيلو مترات فقط من الملعب، إنه صوت الفقر المدقع حيث يعيش فقراء ريو دي جانيرو .

 فكان من ضمن ما جاء في أسباب منح أعضاء لجنة تحكيم الدورة العشرين لمهرجان مونتريال الدولي للفيلم الوثائقي جائزة “الموهبة الجديدة” للكندية “ايميلي جيرت” عن فيلمها The Other Rioأنها فضلت الانسحاب من الحدث الدولي إلى منطقة أخرى، هي بالنسبة إليها أكثر مدعاة للاهتمام بها وبشخصياتها الرئيسة. الحدث الدولي هنا يعنُون به؛ بطولة الألعاب الأولمبية المقامة في البرازيل عام 2016، أما الانسحاب فيتمثل في انتقال صانعته من أجواء ملعب “ماراكانا” في “ريو دي جانيرو” الصاخب والمتوهج بالأضواء إلى أطرافه حيث يعيش آلاف من الفقراء البرازيليين ظروفاً اقتصادية واجتماعية قاسية، يسكنون في عمارات سكنية مهملة جدرانها معتمة يعلوها السخام لا تشبه ألوانها أبداً تلك الألوان “المبهرة” داخل الملعب ولا الشوارع القريبة منه، والمنقولة إلى العالم عبر شاشات التلفاز، لدرجة يتصور فيها مُشاهدها أن البلاد بأسرها منغمسة بذلك الحبور الراقص والمبهج في حين صورة “ريو” الحقيقة ليست كلها هكذا!. ثمة جزء كبير منها مختلف تماماً، حاولت المخرجة ـ الكندية الجنسية البرازيلية الروح ـ كما تصف نفسها، عرضه عبر نقل كاميرتها من الصاخب الظاهر إعلامياً إلى الواقع القاسِ المغيب، غير البعيد مسافة عن مركز الحدث الدولي اللافت.

لتقديم “ريو الأخرى” غير ريو “الدعاية والسياحة” من زوايا جديدة، مختلفة، خالية من الكليشيهات المعروفة يحتاج المتصدي لها الى موهبة حقيقية، وفهم جيد لواقع البلاد، وهذا ما توفر عند صانعته، التي أرادت الذهاب إلى منطقة عمارات (آي بي جي إي) السكنية كما تسمى اختصاراً، من بوابة الحدث الرياضي ومن خلال تواجدها بين المقيّمين فيها أرادت معرفة درجة القرب أو الابتعاد من مركزه المتمثل بالملعب المتوهج كلؤلؤة عملاقة. حاولت تحقيق ذلك عبر تجَنبها عرض العنف المنتشر في مناطق الأطراف واتخاذ تجار المخدرات منها مركزاً لترويج بضاعتهم، بصورة فاقعة، كما سبق وأن قُدمت في أفلام أغلبها “مغامرات” أُسست حبكتها على قاعدة الصراع الدائر بين رجال الشرطة وعصابات الجريمة المنظمة، وظل “فرقة النخبة: العدو من الداخل” للمخرج خوسيه باديلا استثناءً، كما حاولت أيضاً التخلص من أي أثر لأفلام وثائقية ربطت الرياضة، وبخاصة كرة القدم بالموروث الثقافي البرازيلي كوثائقي هيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي)؛ “ديفيد بيكهام.. داخل المجهول” الذي استغل بطولة العالم لكرة القدم المقامة وقتها في البرازيل لعرض جوانب من الحياة الأخرى البعيدة عن الملاعب الرياضية وصولاً الى أعماق حوض الأمازون. كان عملاً متفرداً لكنه لم يَغُر عميقاً في دواخل الناس، الذين اختلط بهم اللاعب الإنكليزي المشهور خلال رحلته الطويلة من العاصمة إلى غاباتها، التقى فيها بنماذج ومجاميع بشرية مختلفة في مستوى عيشها وقناعاتها عن “النموذج البرازيلي” الشائع، الخلاسي البشرة المتحرر من قيود الجسد وغير المتحفظ على توصيل “إيحاءاته” الجنسية إلى العالم الخارجي من داخل ملاعب الكرة أو الاحتفالات الشعبية الصاخبة. يعاب عليه التصاقه الشديد ب”الكرة” على عكس منجز “جيّرت” فهو يقترح تقديم تصوراً جديداً يظهر فيه الناس المنشغلين بهموم عيشهم اليومي بعيدين عن الرياضة!، لا يتعدى اهتمامهم بها، متابعة مجرياتها في المناسبات الكبيرة، بحماسة أقل بكثير عما يتصوره المرء قبل مشاهده الوثائقي الرائع المعني قبل كل شيء بنقل ذوات بشرية على الشاشة بكل قلقها وخوفها من التشرد في الشوارع ومن المستقبل غير المضمون لأطفالها.

عمارات سكنية قديمة وزعتها الدولة علي فقراء " ريو" علي بعد كيلو مترات فقط من الاحتفالات

مشهد جلوس مجموعة من سكان العمارات السكنية، التي وزعتها الدولة قبل سنوات للمشردين والفقراء، ونسيتها بعد ذلك، كما نسيت سكانها فبانت اليوم خرائب من الأسمنت محرومة من الخدمات الأساسية، مشهدهم وهم يجلسون على حافات سطوحها يراقبون من بعد الملعب لحظة تدشينه البطولة، يلخص جانباً أساسياً من العلاقة بين طرفي مدينة؛ واحد غني و ـ آخر ـ فقير، سكانه يشعرون باغتراب كلي عن المركز وانفصال عن أهله. فصلة أغلبيتهم ب “ريو” لا يتعدى العيش على هامشها أو النوم تحت جسورها سنوات. مكتفين في لحظتهم الراهنة بما لديهم من “شقق” تقيّهم الحاجة للنزول إليها ثانية وتمنعهم من تذكر ماضٍ موجع ربما أنساهم حصولهم على أمتار لهم فيها بعض من تفاصيله، وربما لنفس السبب تراهم راضين بما هم عليه وأقل عدائية إزاء العالم الآخر المحيط بهم.

أجمل ما في نص الكندية الشابة، انتباهها إلى روح التسامح والتضامن الداخلي عند فقراء البرازيل ورغبتهم في العيش بسلام مع محيطهم وقدرتهم المذهلة على امتصاص تداعيات عوزهم بالرضا بالقليل الذي صار عندهم. حتى وقوعهم بين كماشتي تجار المخدرات ورجال الشرطة يريدون تجازوها بإقناع أنفسهم بفكرة كونها واقعاً فرضته إقامتهم، التي لا يريدون استبدالها بشيء آخر. ثمة قوة إرادة ورغبة في الحياة وعيشها على أمل التخلص من منغصاتها يحرك دواخل سكان العمارات، ويضع نساءها في بؤرة اهتمام الوثائقي لشدة حضورهن، وتمتعهن بقوة داخلية مدعاة للاندهاش؟.

 واحدة من تجليات الوثائقي، المنسوج متنه الحكائي مثل سجادة راقية الصنع، عرضه الجسد “الأنثوي” في سياقه الطبيعي، غير المفتعل أو المراد تبريزه “دعائياً” لتوليد إيحاءات وإحالات نفسية من خارجه لا صلة لها به. فملبس النساء وأجسادهن المتحررة من الرقابة الداخلية تعود إلى عومل نفسية وطبيعية، لا إلى ثقافة عصرية كما يحلو للبعض تقديمها بوصفها خصلة تحريرية تمتاز البرازيل بها عن غيرها! الفقر وفقدان أبسط شروط العيش الآدمي في الأطراف والخوف على أطفالها من الضياع لا يدع للتفكير بالجسد وأغواءه مساحة كبيرة، فثمة إحساس طاغ بالحاجة إلى إبعاد الأطفال من الخطر، المتربص بهم والمتأتي إليهم بأشكال مختلفة، يسبق غيره من الأحاسيس.

 كلمات الجالسين أمام الكاميرا تشي بها وتشي تعابيرهم المرتبكة الظاهرة على وجوههم بحزن دفين على ضياع طفولة عاشوها بتعاسة، آثارها ما زالت باقية فيهم، وفي حالات كثيرة كانت سبباً فيما هُم عليه من بؤس الآن.

 بلعبها دور “الصحفي” ومقابلتها بعض سكان العمارات، تجاوزت “ايميلي جيرت” محدودية مساحة تحركها، وعبرها تمكنت من الانفتاح أكثر على دواخلهم ومنها راحت تقترب أكثر فأكثر من مواطن أوجاعهم. عند فقراء العمارات الآيلة للسقوط، الماضي معضلة اجتماعية وعقدة نفسية لهذا تركت لمصورها حرية رصد تحرك أطفالها ومراقبة سلوكهم، فعبرها يمكن فهم العلاقة بينهم وبين ذويهم والكشف عن أسباب استمرار دورة الحرمان الأبدي عندهم.

ملعب "ماراكانا" الذي أقيمت فيه دورة الألعاب الأولمبية عام 2008

 في “ريو الأخرى” يبدو الرجل مغيباً، كسولاً، ما يقع على النساء والأطفال يقع عليه بفارق قلة تفاعله بما يجري حوله. لم يفتعل الوثائقي ذلك الجانب بل وجده جاهزاً فقام بتسجيله ليعطي الجزء الأكبر من مساحته للنساء، اللواتي لعبن دور البطولة بانسيابية تعكس مقدار ثقتهن بالمخرجة وفريق عملها وربما يكمن في هذا؛ السر وراء حيويته المنبثقة من المكان، الذي لم تبرحه إلا حين خرج بعض سكانها منه للعمل واستغلال المناسبة الرياضية لتعويض ما خسروه بسببها. يعاين “ريو الأخرى” بدقة ويسجل سلوك مؤسسات الدولة الرسمية والمنتفعين منها، لحجب كل قبح في المشهد البرازيلي العام وفي “ريو” بخاصة. منعوا الأطفال من الذهاب إلى المدارس خلال أيامها وحرموا الباعة المتجولين من التحرك في شوارعها وبين سياراتها وقطعوا على بعضهم فرصة الاتصال بالعالم الذي يحبونه ويجدون فيه تعويضا عن حرمانهم من نقص عاطفي ومادي. على عكس ما يتوقع مُشاهد فيلم يدور حول الحياة في البرازيل وفي واحدة من أكبر مدنها، حيث ستكون للموسيقى والرقص مساحة غالبة فيه، ظلت في وثائقي الكندية” محدودة، بمحدودية علاقة “شخصياته” بها. لم تذهب إلى الموسيقى والرقص بل هما من جاءا إليها فاستغلتهما لرصد وكشف طبيعة العلاقات العاطفية السائدة في مناطق الأطراف الفقيرة وبين سكان العمارات الحزينة المهمومة بالصراع المسلح بين عصابات المخدرات والشرطة والباحثة عن فرص عمل، قِلتها تدفع بعض نسائها لجمع فضلات أسواقها أو حتى استجداء بعض موادها لسد رمق عوائلهن، في حين تظل كلمات معلقي نقل المسابقات والألعاب عبر أجهزة تلفزيونات قديمة صوّرها مشوشة لضعف مستقبلاتها، تظل تلهج بجمال المدينة وروعة رقصات سكانها وحلاوة موسيقاها! فيما ستظل الكاميرا تسجل أحاديث من يقف خلفها، تساعدهم على البوح وعلى نقل مناخ الوثائقي برمته من استقصائي وراسم بورتريه مكان شديد الأهمية إلى مستعرض لجوانيات بشر، يصعب عليهم في ظروف عادية البوح  بمشاعرهم الحقيقة والكلام عن علاقاتهم الأسرية والأمكنة البعيدة التي جاؤوا منها أملاً في عيش حياة أجمل في “ريو”، يُحيُّون فيها حياة حلوة، تشبه تلك التي  يشاهدونها في مسلسلاتهم التلفزيونية.

 لباقة اشتغال “ايميلي جيرت” تتجلى في إيجازها التعبير، والاكتفاء أحياناً كثيرة بالإيماءة والإشارة، للدلالة على مفاهيم إشكالية نابعة من طبيعة المشكلات الاجتماعية البرازيلية، كالتمييز بين السود البيض.

أكثر شخصياتها الواقعية؛ سُمر البشرة سُود العيون ملامحهم أقرب الى جذورهم الهندية لا تراهم كثيراً على الشاشات لا الكبيرة ولا الصغيرة، ولا على السواحل المليئة بالأجساد البرونزية، فثمة عالمان في البرازيل ـ وهناك أكثر من “ريو” ـ لا يلتقيان باستمرار. يطمح الفقير دوماً لملاقاة غيره والتمتع بمباهج الحياة مثله. في الواقع لم يحدث ذلك إلا في المشهد الأخير من الفيلم حين صاحبت الكاميرا رحلة إلى سواحل البحر نظمها سكان العمارات الخربة لأولادهم. هناك تجاور البرازيليون؛ “السُود” و”البيض” دون أن يحتك بعضهم ببعض. الكاميرا قربت عدستها أكثر على من رافقتهم في “ريو الأخرى” وتركت أبناء “ريو” الغنية يظهرون في خلفيتها “ظلالاً”. حرصت على التقاط تعابير السعادة الطافحة على وجوه القادمين من أطراف الفقر، ورغبتهم الملحاحة بالإمساك بها طويلاً، والبقاء بقرب برازيليين “آخرين” لو لا ساحل البحر لما دنوا منهم!

عالم "ريو" الآخر" حيث الفقر الذي سلط الفيلم الضوء عليه، وحاز علي جائزة الموهبة الجديدة

 

 


إعلان