روبرت رَدفورد.. وفاء “الرجل العجوز” لألوان السبعينيات
محمد علال

الفيلم لا يتعلق بحكاية رجل أعمال أو سيرة ذاتية لمدير أو مسؤول كبير، إنما يتعلق بسارق ومجرم خطير تفنن في الفرار من سجون الولايات المتحدة 16 مرة فاستحق لقب “الفنان الهارب”.
رجل أنيق لا تبدُو ملامح وجهه، يرتدي بدلة زرقاء وربطة عنق وقبعة أنيقة، في خطوة واحدة تعكس ثقة الرجل بنفسه وهو يحمل حقيبة جلدية.. هكذا جاءت الصورة في أفيش فيلم “الرجل العجوز والمسدس” من إخراج ديفد لوري (37 عاما) وبطولة النجم روبرت رَدفورد (81 عاما).
الفيلم لا يتعلق بحكاية رجل أعمال أو سيرة ذاتية لمدير أو مسؤول كبير، إنما يتعلق بسارق ومجرم خطير تفنن في الفرار من سجون الولايات المتحدة 16 مرة فاستحق لقب “الفنان الهارب”. وهي حكاية المجرم فوريست تراكر (1920-2004) التي دخلت تاريخ الإجرام العالمي من بابه الواسع، وأصبحت مادة سينمائية هامة لواحد من أحدث الأفلام البوليسية المصنفة في خانة “أفلام الجريمة” حيث أنتج هذا العام (2018)، واستقطب إليه واحدا من ألمع النجوم المرصع مساره السينمائي بجوائز الأوسكار. ويبدو أن ردفورد وقع في غرام سيناريو المخرج الأمريكي الشاب وقرر ارتداء بدلة فوريست تراكر في آخر عمل له قبل اعتزال التمثيل نهائيا.
أفضل ممثل.. حلم فك شفرة الأوسكار
لا يضع المخرج وكاتب السيناريو الأمريكي الفيلم أمام تحدي تصدّر شباك التذاكر، بل أمام تحديات أخرى منها فكّ شفرة جائزة الأوسكار و”أفضل ممثل”، وهي الجائزة التي لم يحز عليها رَدفورد طيلة مساره الفني رغم حصوله على عدة جوائز آخرها أوسكار “أفضل مخرج”، فالفرصة الأخيرة متاحة أمامه ليحقق هذا الحلم الذي طال انتظاره ليدخل الفيلم بقوة ترشيحات الأوسكار عام 2019 عن هذه الفئة، وذلك تقديرا لمسار نجم قدّم الكثير للسينما الأمريكية.
ولتُفكّ هذه المعادلة يضعنا المخرج أمام أوجه الشبه بين الأدوار التي جسدها ردفورد في عدة أفلام على مدار خمسين عاما من العطاء السينمائي، ودوره الجديد في فيلم “الرجل العجوز والمسدس”. وكأن الأمر يتعلق بشهادة لتكريم الممثل عن مجمل أعماله البارزة، ومغازلة الأدوار التي تقمصها ردفورد في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، خاصة فيما تعلق بأفلام عالم الجريمة والمال والعصابات إلى درجة أنه يقدم لقطة تشبه تماما إحدى أشهر لقطاته بين الحقول في فيلم “الحصان الهامس”، كما نلتقي بملامح فيلم “ذا ستينغ” (1973) الذي حاز على سبع جوائز أوسكار، ورُشح روبرت رَدفورد لأوسكار أفضل ممثل عن دوره “جوني”.
العجوز الذي لم يفقد وسامته
بلغ روبرت ردفورد سن الـ81، ولم يعد ذلك الشاب الوسيم الذي سحر قلوب النساء، لقد كبر وحان وقت الاعتزال. بالنسبة له فقد حقق الكثير في مساره ولم يعد هناك ما يستحق العناء، لقد حان وقت الراحة وقضاء ما تبقى له من عمر يراقب حنين الجمهور إليه، وهو يعلم أنه لا يوجد خبر صادم للجمهور أكبر من هذا الذي يستقبله عشاق الفن من جيل السبعينيات وهم يتابعون العرض الأول لفيلم “الرجل العجوز والمسدس” الذي يعتبر اليوم آخر عمل في مسيرة النجم الذي لا يزال على قيد الحياة، لكنه أعلن اعتزال التمثيل بشكل نهائي.
قبل أن يقرر ردفورد وضع نفسه في خانة “آسف أنا خارج الخدمة الآن”؛ فتَّش عن السيناريو الأقرب إلى روحه، وقد وجده لدى المخرج الأمريكي ابن مدينة شيكاغو الذي عرف كيف يقتنص هذه الفرصة التاريخية ويربط اسمه بآخر عمل لروبرت ردفورد، ويحقق “ضربة معلم” في أن يكون له شرف إنجاز آخر فيلم في مسار نجم السبعينيات الأول. فعندما كان روبرت ردفورد فوق منصة التتويج بالأوسكار كان المخرج في المهد لم يتعلم الكلام بعد، وقد التقيا بعد 37 عاما في زاوية واحدة بعنوان “الرجل العجوز والمسدس”.
لقد أخرج ردفورد عدة أفلام وحاز أيضا على الأوسكار كمخرج عن فيلم “أناس عاديون” سنة 1981. ومن خلال الصورة وطريقة كتابة “الرجل العجوز والمسدس” نجد أن هناك لمسة في السيناريو والديكور والأكسسوار تشبه اللمسة السحرية في أفلامه، حيث حرص العمل على أناقة روبرت ردفورد تماما كما كان يظهر دائما في أدواره التي كان يجسدها في السبعينيات.
المهمة الأخرى التي قام بها الفيلم الجديد هي إبراز أهمية التصوير بتقنية “35 ملم” عبر تاريخ السينما، حيث سلّط الضوء على سر النجاح الذي حققته هذه التقنية في الماضي، وقد عاد إليها المخرج بعد أربعين عاما لحكاية قصة حقيقية وقعت في القرن الماضي. واللافت للانتباه في التجربة هو تقديم فيلم بنكهة أفلام السبعينيات ليس فقط بالنسبة للحكاية والملابس بل أيضا للألوان وطريقة التصوير، لكن مع اختلاف في طريقة طرح الموضوع، فلم يركز الفيلم على الجريمة والإثارة رغم أن الفيلم يحكي قصة واحد من أشهر المجرمين، بل جاء فيلما رومنسيا ويحمل نكهة كوميدية أيضا.
العزف على لحن السبعينيات
تحملنا موسيقى الفيلم إلى سبعينيات القرن الماضي بقيثارة المغني الأمريكي جاكسون سي فرانك (1943–1999)، وكلمات أغنية “البلوز خارج اللعبة” الحالمة جدا تعكس شخصية البطل، وتذكرنا أيضا بأفلام شكلت نقطة تحول في تاريخ السينما الأمريكية كان بطلها ردفورد على غرار فيلم “كل رجال الرئيس” الأهم بين مجمل أعمال ردفورد، وهو ما يؤكد أن الفيلم الجديد جاء يحمل نوعا من التكريم لمسار الممثل الذي يقول عن نفسه اليوم “في التمثيل منذ أن كان عمري 21 عاما وقدمت العديد من الأدوار المختلفة، ووجدت أنني لن أستطيع تقديم الجديد، وأفكر في بدء شيء جديد بعيدا عن الفن نهائيا”.
السبعينيات هي العصر الذهبي بالنسبة لردفورد، لهذا لم يكن غريبا أن يستمر عشقه لألوان السبعينيات حتى آخر لحظة، وحتى آخر عمل قبل التقاعد عند سن الـ81. لقد كبر روبرت ردفورد بشكل واضح، وغزت التجاعيد وجهه وثقلت حركة جسمه، ولم يعد ذلك الشاب الذي كان يروّض الأحصنة كما في فيلم “بوتش كاسيدي وصندانس كيد” عام 1969 للمخرج جورج هيل، وكان رَدفورد فارس أحلام حسناوات أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
عنوان فيلمه الجديد يحمل رمزية رغم أن “الفنان العجوز” أطلّ علينا مرحا ومقبلا على الحياة بفيلم رومانسي وكوميدي يتوغل بكبرياء بين أسطر السيناريو الذي كُتب بعناية شديدة كي لا يتعب الرجل، ودون إهمال لمشاهد سطو زعيم العصابة على البنوك، فقد استقر الفيلم عند الاقتباس من الجوانب الإنسانية في شخصية زعيم العصابة، وهو ما جعل البطل يظهر بطاقة كبيرة في الأداء تؤكد أنه ما زال قادرا على تقديم الكثير ولا داعي لقرار اعتزال التمثيل.
أمر آخر ساهم في تفكيك شفرة القصة، هو كون المخرج ديفد لوري من مدينة تكساس التي وقعت فيها الأحداث، ليتم نقل التفاصيل المهمة بعناية شديدة إلى الشاشة وبطريقة هادئة لا حشو فيها لصوت الرصاص أو القنابل وإنما بطريقة رومانسية، مع التركيز على علاقة الحب التي جمعت بطل الفيلم بعشيقته “جويل” (الممثلة سيسي سبيسك) التي لم تتخل عنه أبدا.
وفي المقابل فسّر الفيلم الجوانب الخفية لحرب العصابات التي كان يقودها فوريست تراكر، وقد استعان المخرج المولع بحكايات الإجرام بمقال نشره الصحفي ديفد غران عام 2003 في نيويورك تايمز بعنوان “الرجل العجوز والمسدس”، وهو المقال الذي تحول لاحقا لكتاب للصحفي نفسه بعنوان “الشيطان وشرلوك هولمز” عام 2010.
“صندانس” وحوار الأجيال
لا يرتبط تاريخ روبرت ردفورد بأداء أدوار مميزة في أفلام خالدة فقط، وإنما له بصمة هامة في دعم الشباب، فقد أسس برفقة المنتج فان واجينن مهرجان “صندانس” عام 1978، وذلك كنوع من الثورة على الأوسكار وهوليود التي يعتبر الطريق إليهما منعرجا صعبا وغير سهل أمام السينمائيين المستقلين ولا يزال كذلك منذ سبعينيات القرن الماضي.
وكان من الطبيعي أن نجد “الرجل العجوز” مدعوما من طرف أحد أبناء المهرجان، فقد شقّ المخرج ديفد لوري طريقه إلى العالمية من بوابة “صندانس”، وتم ترشيح فيلمه الأول “جسد معتقدات” (2013) بطولة “روني مارا” و”كيسي أفليك” لجائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان صندانس السينمائي 2013.