“يوم آخر من الحياة”.. الصحفي عندما يكون تحت المقصلة
عبد الكريم قادري

“سألتني المعلمة ما هو الحرف الأول في الأبجدية؟ فقلت الألف، فضحك جميع رفاقي الصغار مني، وكنت قد التحقت حديثا بتلك المدرسة، وقد تكرر على مسامعهم هذا السؤال حتى ألِفوا جوابه، صححّت لي المعلمة فقالت إنه حرف السين، الأول في اسم الرفيق “ستالين”، أما عن ترتيب الأحرف الأخرى فليسا مهما”. هكذا قال ريتشارد كابوشنسكي في كتابه الذي صدر سنة 1993 “الإمبرياليين”، وكأنه فهم العالم في سنه المبكرة، وبعد التجربة أصبح احد أشهر الصحفيين الذين ينظرون له.
ما إن يتردد اسم الكاتب والمراسل الحربي البولندي ريتشارد كابوشنسكي (1932-2007)، حتى ترتسم في الأذهان عشرات من الصور السينمائية تتداخل فيها البطولات والمواقف الإنسانية والشجاعة، وتُفسر معنى أن تكون صحفيا حقيقيا تتلقف الخبر تحت ضغوط الموت وجبروته. ما إن تسمع هذا الاسم حتى تجول بخيالك لأعماق البلدان المسحوقة والمبتلاة بالفقر والجوع وعدم الأمان، حيث المؤامرات والحيل التي تنسجها وتحبكها الدول العظمى والكيانات المُتصارعة، وهي المحطات التي توقّف فيها ريتشارد كابوشنسكي، ومشى في طريقها وعلى شوكها.
لهذا تنافس العشرات من المخرجين وحوّلوا الكثير من هذه المحطات الثرية إلى أعمال سينمائية سواء عن سيرته الذاتية أو مقتبسة من أحد كتبه مثل الفيلم الوثائقي الذي نتطرق إليه “يوم آخر من الحياة” (2018)، وهو إنتاج بولندي إسباني بلجيكي مشترك، وحافظ على العنوان نفسه للكتاب المذكور بالإضافة إلى العديد من الأعمال الأخرى؛ أفلاما روائية كانت أم وثائقية وحتى تلفزيونية.
وكل عمل من تلك الأعمال تطرق بطريقته إلى زاوية صغيرة من حياة هذا الرجل الذي عاش حياته بالعرض، مثل الفيلم الوثائقي “أفريقيا كابوشنسكي” (2015) للمخرجة الفرنسية أولغا برودهوم فارغيس، ناهيك عن أعمال أخرى وثّقت مسار هذا الصحفي والكاتب الكبير، وعُرض هذا الفيلم ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية بمهرجان الجونة السينمائي الذي عُقدت فعالياته في الفترة من 20 إلى 28 سبتمبر/أيلول 2018، ونال جائزة “سينما من أجل الإنسانية” مناصفة مع الفيلم الروائي المصري “يوم الدين” الذي أخرجه أبو بكر شوقي.
في البدء كانت الثورات
في ضوء اندلاع ثورة القرنفل في البرتغال سنة 1974 وتسليم السلطة إلى حكومة جديدة، تقرر وقف العمليات العسكرية في الدولة المُستعمَرة أنغولا، وإعلان هذه المستعمرة السابقة بلدا مستقلا، حيث تم تقديم السلطة إلى ثلاث حركات مقاومة صنعت ائتلافا مؤقتا، لكن سرعان ما دبّ الخلاف والاقتتال فيما بينها، وهي الأحداث التي أثارت فضول الصحفي المخضرم كابوشنسكي الذي كان وقتها في بداية الأربعينيات من عمره ينتصر للفكر الاشتراكي، وهو ما جعله يُقنع رئيسه في وكالة الأنباء البولندية بإرساله إلى أنغولا التي كانت تشهد حرباً أهلية دامية اندلعت ليلة استقلال البلد.
وعليه قرر هذا الصحفي المقيم في العاصمة لواندا -التي تشهد فوضى كبيرة- السفر إلى أحد القادة الثوريين من أجل إجراء لقاء معه والوقوف على ما يفكر فيه لمستقبل أنغولا، وهي رحلة شبه انتحارية نظرا للظروف غير الآمنة التي كانت سائدة آنذاك، ويعتبر هذا التوقيت السؤال الفاصل في حياة كابوشنسكي.
ومن هنا يمكن أن تُقسم حياته إلى قسمين، الأول يوثق لحياته قبل اندلاع هذه الثورة والثاني إلى ما بعدها، ناهيك عن الحياة والموت بمعناهما الحقيقي، فهو يتبع جوهره ويقرر المجازفة في هذه الرحلة غير المضمونة العواقب، بحثا عن ما يرضي فضوله الصحفي وإنسانيته وانتصارا لفكره الأيدولوجي.

10 سنوات من العمل.. حيث تنعدم المراوغة
“يوم آخر من الحياة” هو فيلم من إخراج مشترك بين الإسباني راؤول دي لافوينتي والبولندي داميان نينو أخصائي المؤثرات السينمائية الخاصة. استغرق هذا العمل عشر سنوات كاملة ليخرج بصورة ترضي المخرجَين وفريق العمل، وتعكس المسار المشرّف للصحفي والكاتب ريتشارد كابوشنسكي، وهو جهد يمكن ملاحظته بسهولة تامة ضمن مفاصل هذا الفيلم الذي استقى مادته الأساسية من كتاب الشخصية الرئيسية، ناهيك عن الاستعانة بشهود عايشوا تلك المرحلة وعرفوا كابوشنسكي عن قرب، بالإضافة إلى مقاطع الفيديو والصور الفوتوغرافية التي التقطت معظمها هذا الصحفي في تلك المرحلة حين كانت الكاميرا رفيقه اليومي، ناهيك عن العصب الأساسي لهذا الفيلم وهو إعادة تمثيل الوقائع وتصويره عن طريق الرسوم المتحركة.
أصبحت الكثير من الأفلام الوثائقية الحديثة -ومن بينها هذا الفيلم- تُعيد تمثيل الوقائع عن طريق الرسوم المتحركة استنادا إلى الروايات الأقرب إلى الحقيقة، أو تتبع أهواء وأيدولوجيات المخرج والجهة المنتجة.
وفي فيلم “يوم آخر من الحياة” تم الاعتماد بشكل أساسي على كتاب الشخصية المحورية للفيلم، وهنا قلّت نسبة المراوغة، وجاءت مصداقية الفيلم أكثر واقعية بعد أن تمت إعادة تصوير الوقائع عن طريق الرسوم المتحركة، مع الحفاظ بشكل أساسي على ملامح الشخصيات الأساسية الحقيقية لحظة وقوع الأحداث من عُمران وفضاءات وديكورات وما يُصاحب المشاهد الداخلية والخارجية من إكسسورات تحاكي المرحلة وتعكس واقعيتها.
ومن هنا يمكن أن نصدق بسهولة المدة الزمنية التي تم استهلاكها لإنتاج هذا الفيلم، فهذه المشاهد الممثلة ساعدت بشكل كبير في فهم تلك المرحلة التاريخية الفاصلة في حياة كابوشنسكي، سواء ضمن فضائه الضيق داخل مكتبه في العاصمة لواندا أو في الشارع الممتد والحانات وسط الفوضى السائدة والمنتشرة في كل زاوية، أو في المطار حيث الهروب الجماعي يعكس مآسي الرحيل، أو في الطريق ورحلته إلى المنشق البرتغالي فاروسكو ولقائه بكارلوتا، مع الكثير من الأحداث والمشاهد الأخرى التي زرعت الثقة في الفيلم وتنقلت بسهولة إلى المُشاهد الذي أحس بقيمتها وأهميتها في الوقت نفسه.
خط درامي متقطع وموضوع محمل بالتناقضات
لكن في الكثير من الأحيان نجد أن الخط الدرامي الأساسي في الرسوم المتحركة قُطع لبث بعض الصور الفوتوغرافية الحقيقية والفيديوهات الملتقطة والموثقة لتلك المرحلة، بالإضافة -كما وسبق أن قلنا- لشهادة من عاشوا وكانوا شهودا على الشخصية والفترة التاريخية، وهذا من أجل إثبات وثائقية الفيلم، وعدم طرح سؤال: “هل هذا الفيلم وثائقي أو روائي”، ومن جهة أخرى ترك الباب مفتوحا أمام المُشاهد حتى لا ينغمس في مشاهد الرسوم المتحركة بدرجة كبيرة، وبالتالي يفقد حسّيته في الأحداث ووقعها التاريخي وسياقها الحقيقي، فهذا كله من ناحية الشكل.
أما من ناحية الموضوع فقد جاء الفيلم محملا بالتناقضات التي تغلف قلوب البشر مثل الطمع والتملك والخيانة والغدر والشجاعة والإقدام والحب.. وكلها أحاسيس نقلها الفيلم رغم أن الموضوع الرئيسي هو الحرب وإفرازاتها على المجتمع المحلي والدولي وما تولّده من مصالح لهذا أو ذاك، ليخرج من كل هذا؛ المخادع الذي يريد أن يستفيد من كل شيء، والحقيقي الذي لا يستفيد سوى من التجارب، ويسجل اسمه على لوح التاريخ المشرف مثل ريتشارد كابوشنسكي.
الصحفي بين الانتصار لموضوعيته أو إنسانيته
جاء موضوع فيلم “يوم آخر من الحياة” محملا بالعديد من الأسئلة عن مفهوم الكولونيالية وما بعدها، إذ إن الجميع يتكالب من أجل اقتسام الكعكة التي تركتها البرتغال خلفها وهي البلد الاستعماري في أنغولا، بمعنى أن هذا البلد الأفريقي أخرج المُستعمِر ليفكر آخرون في استعماره من جديد عن طريق خلق حروب بالوكالة، وهذا ما فعلته وكالة المخابرات الأمريكية وجيش جنوب أفريقيا والعديد من الدول الأخرى، مما جعل الدول الاشتراكية تتدخل هي الأخرى لإنقاذ هذه الثورة والمحافظة على الاستقلال.
وقد كان لا بدّ من كتابة هذه المقدمة لأن دور ريتشارد كابوشنسكي كان محوريا، فهو أول من كشف تدخل جيش جنوب أفريقيا لإخماد المقاومة التي كان يقودها البرتغالي المنشق فاروسكو، ناهيك عن رفضه إرسال خبر مشاركة كوبا في دعم حركة تحرير أنغولا بعد أن وصل إلى قناعة تامة بأن هذا الخبر يضر أكثر مما ينفع هذا البلد، وهي المرحلة المفصلية في حياة هذا الصحفي، حيث وقف أمام مفترق خطير جدا وهو طريق الموضوعية في الصحافة أو طريق الانتصار للإنسانية، وقد اختار الأخير ولم يندم عليه.
الفيلم الوثائقي “يوم آخر من الحياة” من الأعمال التي قلّصت المسافة بين ما هو روائي وما هو وثائقي، حيث زرع فيه المُخرجان مكونات الفيلم الروائي وشروطه مما سهّل عملية تقديمه للجمهور، ناهيك عن التمكن الذي أظهراه من موضوعهما، وهذا ما يوحي بأنهما أجريا الكثير من الأبحاث، حيث نرى البناء الدرامي يسير وفقا لمنطق سلس مشبع بالحبكات والتشويق والإثارة، كما رسما شخصيات العمل بعناية فائقة ليتم تقديم الفيلم على العموم في قالب جمالي سينمائي مبهر.