“دوغمان”.. المستضعف الذي أحبه الجميع

رحمة الحداد

دوغمان فيلم ذو قصة بسيطة، فهو رجل يعمل في محل للعناية بالكلاب ويتورط في الاتجار بالمخدرات لكي يتمكن من تغطية مصاريف ابنته

يوجد مصطلح مثير للاهتمام في قواميس اللغة الإنجليزية وهو “أندر دوغ” ويعني حرفيا الكلب السفلي، ويستخدم المصطلح للإشارة للشخص الذي لا يتوقع أحد فوزه في سباق ما أو في مسابقة ما، لكنه يخيّب التوقعات ويفوز.

استُخدم المصطلح لأول مرة في منتصف القرن الثامن عشر، وأول معنى له كان “الكلب المهزوم في القتال”، ثم أصبح معناه “الكلب الضعيف الذي تغلب على الصعاب وفاجأ الجميع”، ثم أصبح دارجا في الثقافة الشعبية حتى يومنا هذا بالمعنى نفسه، وأُضيف له معنى آخر تم استحداثه وهو الضحية، ضحية الظلم والاضطهاد.

 

دوغمان.. الرجل الصغير ذو الابتسامة الكبيرة

عادة ما تتردد عبارة “أنا أقف مع الشخص غير المتوقع فوزه” أي الـ”أندر دوغ”، وذلك في سياقات مثل المباريات الرياضية وما شابه، ويميل الكثيرون لتشجيع الشخص المستضعف غير الواضح، والصغير حجما الذي يستحيل عليه هزيمة الآخر العملاق بالحسابات المنطقية.

يعلم صانعو القصص هذا الميل جيدا، لذلك تَستخدم القصص ذلك باستمرار ثيمة صعود الشخص المهزوم وانتصاره على الجميع، تلك الثيمة التي تثلج صدر الإنسان العادي الذي يشعر بالاضطهاد أو باستحالة الفوز في الحياة.

يُشجع الجميع روكي عندما يفوز في آخر لحظة في مباراة ملاكمة، ويهتف الجميع بالحرية في صوت واحد مع ويليام والاس صاحب الجيش الضعيف الذي هزم الجيش الإنجليزي الأسطوري، لكن في حالة دوغمان -الفيلم الإيطالي الذي أخرجه ماتيو جاروني- لا يوجد أحد لتشجيع الضعيف بعد فوزه، ولا يوجد أحد للوقوف إلى جوار الكلب السفلي، فالرجل الكلب نفسه.(1)
في الحفل الختامي لمهرجان كان السينمائي لعام 2018 وفي فقرة إعلان الجوائز، وفي لحظة إعلان اسم الفائز بالسَّعفة (أعلى جائزة تُمنح في مهرجان كان السينمائي) في فئة أفضل ممثل، تم إعلان فوز مارشيلو فونتي عن فيلم دوغمان، الرجل الصغير ذو الابتسامة الكبيرة والموهبة الاستثنائية، مشدوها أخذ وقته في القيام من مقعده والصعود للمسرح، وعندما صعد أخذ يضحك ويستنكر الفكرة، يمد يده لاستلام السعفة ثم يتراجع، يكرر ذلك عدة مرات في إشارة لعدم التصديق وربما الإحساس بتواضع هائل يصعب تواجده مع إمكانيات مثل تلك التي ينطوي عليها جسد وعقل مارشيلو الهش.

ذاع صيت الفيلم بعد حصوله على تلك الجائزة المرموقة، لكنها ليست أول مرة يحصل فيلم لماتيو جاروني على تكريم كبير في كان، ففي عام 2008 حاز فيلمه “جومورا” على الجائزة الكبرى للمهرجان، لكن أعماله بين جومورا ودوغمان لم تكن بنفس التأثير حتى وجد ضالته في مارشيلو فونتي قلب دوغمان النابض.

صورة تجمع المخرج ماتيو جاروني مع الممثل مارشيلو فونتي

فونتي.. قصة صعود الكلب السفلي
دوغمان فيلم ذو قصة بسيطة، فهو رجل يعمل في محل للعناية بالكلاب ويتورط في الاتجار بالمخدرات لكي يتمكن من تغطية مصاريف ابنته وهي أكثر من يحبه في العالم بجانب كلابه الوفية. يلاحقه دائما بسبب المخدرات الملاكم السابق سيموني، وهو شخص ضخم متوحش يسيطر على مارشيلو الهزيل ويثير فيه الرعب، لكن مارشيلو مثل كلابه يظل وفيا له حتى يصل للحظة الانفجار.

على بساطة حبكة الفيلم وربما تطوراتها المتوقعة يبث مارشيلو فونتي الحياة في كل مشهد من مشاهد الفيلم، يتركه جاروني مخرج الفيلم يلمع ويتألق في كل لحظة له على الشاشة، أحيانا دون قطع يترك مشاعره تتدفق أمامنا دون تدخل، فتظهر حقيقية صادقة بشكل يصعب تصديقه.

يتمحور دوما الكلام عن هذا الفيلم حول أداء مارشيلو فونتي لأنه هو روح الفيلم، وبدونه لم يكن الفيلم ليتواجد من الأساس، فلطالما راود ذلك المشروع عقل ماتيو جاروني لكنه لم ينفذه إلا حين عثر على مارشيلو الرجل المثالي لتلك المهمة.

يحكي جاروني في لقاء أجرته معه المدونة الإيطالية إي نينا روثي عن تفاصيل لقائه ببطل فيلمه، وذلك في صدفة مأساوية مثل الحكايات، يعيش مارشيلو في مكان حيث يوجد مركز مجتمعي تقام فيه تدريبات مسرحية، كان هناك جماعة من السجناء السابقين يتدربون على عرض ما، وكان مارشيلو يعمل حارسا هناك، ويوم تعرف عليه جاروني ذهب أحد المتدربين إلى دورة المياه ولم يعد وتوفي هناك، فحلّ مارشيلو محله في التمثيل، وهكذا قابله جاروني وقرر أن يجعل منه تلك النسخة “الممسرحة” من ذاته حتى إنه يحمل الاسم نفسه. عند رؤية أدائه لذلك الرجل المهزوم لكن العطوف المحب، المجرم الذي نتعاطف جميعنا معه، لا يمكن تصور أنه أول دور تمثيلي حقيقي له. عمل مارشيلو سابقا فردا من مجاميع في أفلام كبيرة منها فيلم سكورسيزي الشهير “عصابات نيويورك” عندما كان في الثامنة عشرة.(2)

قصة مارشيلو فونتي كممثل وشخص هي قصة صعود “أندر دوغ” بامتياز، فمن كان يتوقع أن يفوز شخص ذو خلفية فقيرة قام بدور هامشي بجانب دانيل داي لويس ولم يكن يعرف من هو بأن يفوز بواحدة من أكبر جوائز التمثيل السينمائية؟!

أما قصة مارشيلو الآخر “رجل الكلاب” فهي قصة انتصار مفجع لا يراه غيره ولا يعترف به غيره، وهو ما يجعل قصة الفيلم أكثر تأثيرا لأنها مبنية على قصة حقيقية. فبعدما يتعرض الفرد الأضعف للاضطهاد المستمر يقرر الانتقام، لكن أكبر جزء من انتقامه لا يتحقق، فهو لا يستطيع انتزاع التشجيع من جمهور ما، ولا يجد التصفيق الذي كان سيجده مستضعف ما في مباراة ملاكمة أو سباق أحصنة.

مارشيلو فونتي بجوار ليوناردو ديكابريو في كواليس "عصابات نيويورك"، التقط الصورة دانييل داي لويس الممثل الشهير الذي لم يكن يعرفه فونتي

دوغمان.. أوجه التأويل

“لا أرى أنه من الصحيح أن نتحدث عن الانتقام، لأنه ليس فيلم انتقام، لكنه يبحث عن عدالته الخاصة، لكن طريقته في ذلك ساذجة جدا”(3)

يحمل فيلم دوغمان أكثر من وجه للتأويل، حيث يمكن رؤيته كقصة عن الظلم والعدالة، والصراع بين القوي والضعيف، وعن الرغبة في أن يكون الشخص مقبولا ومنتميا لمكان ما ولأناس ما وما يتطلبه ذلك من تضحيات، وفي جزء منه إعجاب ذلك الضعيف بالقوي.

لا يهم مارشيلو بالانتقام إلا عندما يخسر كل شيء، يخسر حب جيرانه ومعارفه الذين كانوا يعتبرونه مثالا للرجل اللطيف الشريف، صديقهم وصديق حيواناتهم، لكنه أراد على الدوام أن ينال رضا الجانب الأقوى وأن يتحامى فيمن هم أكبر حجما وأكثر قسوة. يمكن نعته بالجبان، لكن كيف يكون جبانا ذلك الذي يضع أمانه الشخصي على المحكّ فقط ليؤمّن حياة من يحبهم؟ دوغمان يرسم شخصية رئيسية مركبة ومخطئة، يرسم صورة “ضد البطل” لكنه ليس الشرير الذي نحبه، هو شخص نبيل يقوم بأعمال إجرامية لكننا نحبه.

في مستوى آخر للتأويل يرى الناقد بمجلة “إندي واير” ديفد إرليش أن دوغمان يعتبر مجازا للفاشية، وأن الفيلم يرى أن الفاشية يمكن أن تتمثل في رجل واحد، رجل واحد يبدو ويتصرف كوحش يصعب إيقافه. لكن مارشيلو الذي يمكن اعتباره في ذلك السرد ممثلا لجمهور مستضعف فإنه يتغلب على ذلك الوحش عندما يطفح به الكيل، غير أنه لا يعلم ماذا يفعل بعد ذلك ولا كيف يعيش، حياته كانت مستقرة وذات مغزى وصراع يومي عندما كان ذلك الوحش حاضرا. يضيف إرليش أن دوغمان يعتمد على رؤية للوفاء تشبه التي يقدمها الكلب لصاحبه، والذي عندما يوجه للشخص الخاطئ يفجر كل منابع الشر، فالكلاب تفي لصاحبها بشكل غير مشروط لكنها لا تتفكر فيما تفعل، وعندما تنقلب عليه تتحول لكائنات شرسة يستحيل إيقافها.(4)

المصادر:
underdog -1
https://en.wikipedia.org/wiki/Underdog#cite_note-4

2- Matteo Garrone on ‘Dogman’ and the man who finally made the
film happen, his actor Marcello Fonte

https://www.eninarothe.com/faces/2018/5/19/matteo-garrone
3- نفس المصدر

4- ‘Dogman’ Review: Matteo Garrone Delivers a Neutered Revenge
Saga About Fascism and Poodles — Cannes 2018

https://www.indiewire.com/2018/05/dogman-review-matteo
garrone-cannes-2018-1201965659/


إعلان