مكوين.. الأزياء عندما تصادم الجمال
رحمة الحداد

إن كتبت اسم “ألكسندر مكوين” في محركات البحث المختلفة فإنك ستجد صورا لنجمات هوليود يرتدين أثوابا باهرة الجمال ذات تفاصيل فنية دقيقة ومتميزة؛ زهور ثلاثية الأبعاد مصنوعة من الأقمشة الحريرية الرقيقة، ورسوم يدوية على الملابس تجعل كل قطعة فريدة من نوعها، أزياء مستوحاة من حقب تاريخية متنوعة تعكس ثقافة وغنى صانعيها الفني.
مجموعات الأزياء الموسمية تملك جماليات يسهل تمييزها، فهي مطعمة بالورود أو مستعارة من العصور الوسطى مثل الأحذية الضخمة الجلدية ذات المسامير الناتئة والملابس ذات الزوائد المعدنية، كل تلك التفاصيل تجعل شركة ألكسندر مكوين للأزياء متميزة ومستمرة وذات سمعة فنية مرتفعة، لكن المصمم الراحل نفسه وهو صاحب الاسم كان ليتقزز لو رأى كل تلك الملابس الجميلة.
في مشهد من فيلم مكوين الوثائقي المعروض في بانوراما الفيلم الأوروبي وقبله في مهرجان الجونة السينمائي والمرشح كأفضل فيلم وثائقي في مهرجان ترايبيكا، يصرح “لي ألكسندر مكوين” في مشاهد مصورة له أنه يريد لشركته ألا تستمر من بعده، بمعنى أن تغلق أبوابها بعد وفاته، والغريب أن السائد في شركات الأزياء أنها تستمر لأعوام وأعوام بعد وفاة المصمم الذي أنشأها فتحمل اسمه وبصمته، لكن يتولى إدارتها الفنية أحد تلامذته أو مصمم كبير آخر. لم تتحقق أمنية مكوين بل استمرت الشركة حاملة اسمه، لكنها تقوم بإنتاج كل ما نبذه واحتقره في حياته، فكيف كان يفكر لي ألكسندر مكوين عند صنعه للملابس، ولماذا كره الجمال المسطّح؟
مكوين.. موهبة فطرية
بدأ مكوين مسيرته في ورش الخياطة ثم صبيا تحت أسماء مصممين أكبر منه. ومثل الفنانين العظام كان يبهر أساتذته بقدرته الفائقة ومهارته العالية على خياطة قطع مثالية من الملابس ودون تعليم كاف، كان موهبة فطرية، ولم يكن لدى أحد شك في ذلك، فأخذ يترقى حتى تم طلبه لتولي إدارة واحدة من أكبر شركات الأزياء في العالم وهي “جيفانشي” تلك الشركة الفرنسية صاحبة الاسم اللامع، ليقلب الإنجليزي المتمرد ذو الوزن الزائد والمظهر العشوائي كيانها.
شعر مكوين بعدم الاندماج ولكن ذلك لم يوقفه عن تحقيق رؤيته، تلك الرؤية القاتمة للعالم التي جردت الأزياء من جماليتها المعهودة وحولتها إلى وسيط للتعبير الفني.

أزياء ترفض حتمية الهدف الوظيفي
منذ بداية الخلق وللملابس هدف وظيفي، فهي حماية لجسد الإنسان من التقلبات الجوية ومن الإصابات، وتتطور وظيفتها بالتدريج لكي تمثل شعوبا بعينها ثم تمييزا للطبقات الاجتماعية المتعددة والتفريق بينها، وبالطبع التفريق بين ملابس الرجال والنساء، لكن مع تطور العالم أصبحت الملابس معبرة عن الهوية الفردية للشخص.
قلة هي المجتمعات التي لا تزال تحتفظ بزي رسمي لشعوبها، حتى بعد تطورها الكبير فإن الأزياء في الذهن الجمعي هي عنصر ذو قيمة استهلاكية يعبر عن المكانة الاجتماعية والهوية الجنسية أو الذوق الشخصي، وتتداخل مع ثقافة الشهرة فيتهافت الناس على شراء الرائج من الملابس، أو تلك القطعة التي رأوها على المغنية أو الممثلة الشهيرة، وبالطبع للأزياء النسائية نصيب الأسد من كل تلك الديناميكيات التجارية والفنية، لكنه مثل أي فن يأتي في كل عصر رائد يغير مفاهيم العالم عنه.
في عام 1937 اشترك الفنان السريالي الأشهر سلفادور دالي مع مصممة الأزياء الإيطالية إلسا شيباريلي لصنع ثوب صيفي حريري مزين برسم كبير لسلطعون أحمر اللون. أثار ذلك الثوب جلبة في وقته وتم تحليله من منطلق فني بعدها، فالسلطعون هو فكرة سلفادور دالي وهو الفنان المشهور بصوره المثيرة للخيال والمجازات والصور المسحوبة من العقل الباطن والتي تملك إشارات جنسية ونفسية تتعدد تفسيراتها، فتم اعتبار الثوب بأنه مليء بالتلميحات الجنسية المشينة، وهو ما كان ليعتبر عاديا لو كان مجرد لوحة أو منحوتة، لكن ولأنه قطعة ملابس ذات هدف وظيفي فمن الغريب أن يحوي أي شيء أكثر من كونه جميلا.(1)
يسير لي ألكسندر مكوين على نهج كل طليعي في عصره، يصدم المحافظين بأفكاره ويلهم المنفتحين بفنه ورؤيته، يغير فكرة حتمية وظيفية الأزياء، فإذا ذهب أحدهم ليشاهد عرضا له يصعب أن يشير إلى قطعة ترتديها إحدى الموديلات ويقول أريد هذه في خزانة ملابسي، فمكوين يتعامل مع العرض كوحدة فنية متكاملة نابذا فكرة الأزياء الخاوية التي تنتمي لطبقة الأغنياء.

مكوين.. رؤية صادمة
“لقد كنت مقربا من أختي جدا عندما كنت صغيرا، رأيت زوجها يهينها ويضربها بعنف، فكل ما أريد فعله هو أن أجعل النساء يبدون أقوى” “ألكسندر مكوين”
ينقسم الفيلم الوثائقي “مكوين” إلى أجزاء معنونة، فكل عنوان وُضع له تصميم بصري يعبر عن أحد عروض ألكسندر الفاصلة في مسيرته، وربما واحد من أشهرها هو عرض بعنوان “اغتصاب الأراضي المرتفعة” عام 1995، فالاسم وحده مفجع أما عندما يبدأ العرض فتزداد تلك الفجيعة، عارضات ذوات عيون عائمة في السواد لا يظهر منها أي تعبير يرتدين أزياء يصعب وصفها بالجمال أو حتى بالجودة، إحداهما ظهرت بسترة مقطوعة من عند الصدر، واحدة أخرى تتخبط في مشيتها وكأنها ناجية للتو من حادثة اغتصاب بشعة.. لا يذهب الناس متأنقين لعروض الأزياء عادة لمشاهدة مثل تلك المشاهد، لكن رؤية ألكسندر غير قابلة للمساومة.
وضَعَ ذلك العرض مكوين في بؤرة الضوء، وانهالت عليه الاتهامات بمعاداة النساء وبتبجيل الاغتصاب، وهو ما جعل مكوين الخجول يبدأ في إبداء آرائه ويظهر في لقاءات يشرح فيها أفكاره عن الحياة والفن. فكرة العرض جاءت من حادث في منتصف القرن الثامن عشر، فقد وقع ما يُشبه التطهير العرقي من الإنجليز للأسكتلنديين، واشتهرت تلك الفترة باغتصاب الجنود الإنجليز للأسكتلنديات.
رأى مكوين أن طريقة تصويره للنساء المكدومات ذوات الملابس المنتهكة هو عرض فني ومجاز لما حدث في تلك الأراضي. يقول ردا على اتهامه بمعاداة النساء إن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، وإن فكرة اتهامه بتسليع النساء في عرضه هي العكس تماما، فلقد صوّر كيف يرى المجتمع النساء حتى وقتنا هذا.(2)

أزياء لا تصلح للعرض
“فن الأداء هو فن يرفض الاستقرار” “ألكسندر مكوين”
ما يصنعه مكوين ليست أزياء للاستخدام، إنها ليست تطبيقات فنية تصلح للاستهلاك اليومي أو للاستعراض في الحفلات، عرض الأزياء بالنسبة له هو عرض فني بحت، وربما أكثر صيغة فنية يمكن مقارنتها بما يفعله مكوين هي فن الأداء، ويمكن تعريفه بأنه عمل فني يتم من خلال أفعال تحدث أمام جمهور أو مسجلة، تلك الأفعال تكون من فعل الفنان أو بمشاركة الجمهور ويمكنها أن تكون عفوية أو مكتوبة. ومع أن اصطلاح فن الأداء تم استخدامه في السبعينيات إلا أن نوعية الفن نفسه يمكن إرجاعها لمدرسة المستقبليين والدادئيين1 في أوائل القرن العشرين.
خلال القرن العشرين كان فن الأداء يعتبر وسيلة غير تقليدية لصنع الفن، الحركة والطاقة في مقابل ثبات اللوحات والمنحوتات. وفي مرحلة ما بعد الحرب ارتبط فن الأداء بالفن المفاهيمي لطبيعتهم غير المادية، لكنه الآن مقبول كجزء من الفنون البصرية، وتستخدم الكلمة في وصف أعمال فيديو وفوتوغرافيا وغيرها، فهي أوسع من الأداء أمام الجمهور لكنه وسيط يستدعي الديناميكية والتفاعل، فأصبح فن الأداء أداة مستخدمة للاشتباك مع القيم المجتمعية واختبارها، واستخدام المساحة في التعبير عن أفكار متعددة مثل الهوية والجنسانية، وفي عام 2016 أوضح المُنظّر ويستيرمان أن فن الأداء لم يكن أبدا وسيطا، ولا شيء يمكن للفن أن يكونه إنما هو مجموعة من التساؤلات والهموم تتمحور حول كيفية تفاعل الناس مع الفن، وكيف يتفاعل الفن مع العالم المجتمعي الأوسع”.(3)

أزياء مكوين.. فن غرائبي
يمكن فهم ألكسندر مكوين من خلال منظور الفنون الطليعية وخصوصا فن الأداء، فمكوين يضع مفهوما للعرض، وهي فكرة تنبع منها بعد ذلك الأفكار المختلفة للتصميمات التي سترتديها كل عارضة، وكيف ستبدو تلك العارضة، كيف سيُغيِّر شكل وجهها لتصبح كأنها مخلوق مائي، أو كيف سيختار أن يبدو شعرها غرائبيا مثيرا للدهشة..؟ وهكذا.
في واحد من أهم عروض مكوين الذي أُفرد له قسم في الوثائقي الذي يتناول حياته بعنوان “فوس”، بدأ ذلك العرض متأخرا ساعة عن موعده، وطوال ذلك الوقت كان الجمهور ينظر ناحية صندوق زجاجي لا يرون منه غير أنفسهم، فيقول مكوين عن ذلك إنه أراد كل شخص أن يواجه نفسه أولا “هل أنا حقا جيد كما أظن نفسي؟”. عندما انفتحت الأضواء الساطعة بدأ العرض، تسير العارضات داخل صندوق زجاجي ولا يرين الجماهير خارجه، لا يرين إلا أنفسهن، ويتوسط الصندوق الزجاجي صندوق آخر مغلق، وفي نهاية العرض ينفتح الصندوق في المنتصف لتظهر سيدة ثقيلة الوزن عارية تغطيها الفراشات وعلى وجهها قناع يبدو أنه للتنفس.
كان رد الفعل على العرض فضائحيا، الناس يذهبون لعروض الأزياء ليروا معاييرهم الخاصة للجمال، تلك المعايير التي أمليت عليهم إعلاميا وبالتراكم، فعند رؤية ذلك المشهد الذي يبدو منفرا يختل توازن الرأي العام في فكرة الأزياء.
استوحى مكوين تلك الصورة من الفنان البريطاني جويل ويتيكين وأعاد صياغتها على المسرح، فحول صورة فوتوغرافية ثابتة إلى فن أدائي أمام حشد، الصورة التي كانت فيها سيدة مشابهة مع قناع مشابه دبت فيها الحياة فنسمع صوت تنفسها الثقيل ونرى الفراشات المحتضرة ترفرف حولها.(4)
مكوين.. علامة تجارية تحارب صاحبها
ربما وصل مكوين لذروة الفن الأدائي في عرضه لربيع عام 1999، ففي هذا العرض هناك عارضة واحدة على المسرح ترتدي ثوبا أبيض بسيطا منفوشا، تتوسط العارضة رشاشَين آليين وتقف على أرض دوارة، يتحرك الآليان نحوها فتستجيب بحركات راقصة مفزوعة، يستمر ذلك عدة دقائق حتى تبدأ تلك الكائنات الآلية برشها بألوان بشكل عشوائي بدوران الثوب، لا يعلم أحد كيف سيبدو في النهاية ولا حتى المصمم نفسه.
نحن هنا أمام عرض يؤسس لمفاهيمه الخاصة عن الفن والأزياء، وعن التكنولوجيا والإبداع ومدى تحكمنا في تصرفاتنا من الأساس وإلى أي مدى يمكن لذكاء اصطناعي أن يسيطر على خيارتنا؟
عُرف لي ألكسندر مكوين طوال عمره القصير بعفويته وذكائه المتقد ومظهره العشوائي، كان لا يهتم بما يرتدي أو كيف يبدو، كم يزن أو كيف يصفف شعره، لكن في السنوات الأخيرة له بدأ يخسر الكثير من الوزن وبدأ يبدو أوسم، لكن أكثر حُزنا ووحدة، أثقلته الشهرة وأجهده الثراء والزحام من حوله، ولطالما كانت علاقته بالنساء في حياته قوية وانطبع هذا على عمله فانكسر شيء بداخله بعد وفاة والدته ولم ينصلح من وقتها وحتى قراره بقتل نفسه عام 2010.
اسمه لا يزال موجودا على شركته التي تصنع الأزياء الجميلة التي حاربها طوال مسيرته، لكن لم ينس أي مهتم بالأزياء أو الفن مساهمته الاستثنائية، وربما سيكون الفيلم الذي صُنع عنه وثيقة حاضرة لتذكير كل مبدع معنى أن يكون الفنان حقيقيا.
الهوامش :
1-الدادائية: هي حركة ثقافية انطلقت من زيورخ (سويسرا)، أثناء الحرب العالمية الأولى كنوع من معاداة الحرب بعيداً عن المجال السياسي، وإنما من خلال محاربة الفن السائد
2-روبرت روشينبيرغ، فنان أمريكي
المصادر:
1-عندما تصطدم الأزياء بالفن.
http://www.bbc.com/culture/story/20170929-when-fashion-and-art-collide
2-جزء من لقاء مع ألكسندر مكوين.
https://www.youtube.com/watch?v=bgxFz3cO4yI
3- فن الأداء.
https://www.tate.org.uk/art/art-terms/p/performance-art
4- عرض فوس لألكسندر مكوين.
https://vibenye.wordpress.com/2014/10/20/alexander-mcqueen-voss/