“ارتداد”.. لماذا عادت لويزا لطائفتها المنبوذة؟

آية طنطاوي

لويزا في لقطة مقربة تجلس في صلاة ليهوه مليئة بالندم والشعور بالخزي لأن جسدها المسكين مصاب بفقر الدم، ولأنها تحمل في عروقها دماء شخص تبرع لها بالدم عندما ولدت لينقذ حياتها

كان الهواء منعشًا في هذه البقعة الصغيرة التي اجتمع فيها تشارلز راسل بأصدقائه، ربما شعروا بأنها مباركة إلهية للخطوة الجديدة التي ستغير مسيرتهم الدينية، مجلة “برج المراقبة” هي المنبر الجديد الذي سيمكنهم من إطلاق هويتهم والحديث عن هذه الطائفة الجديدة التي كوّنوا أفكارها ومذهبها المنسلّة من الديانة المسيحية، وذلك لتبشر بخلاصة ما توصولوا له من حقيقة تعاليم الكتاب المقدس؛ حيث لا ثالوث ولا مسيح مصلوبا ولا قديسين، فقط إله واحد وأرض تعجّ بالشياطين.

“ما أتمناه أن يأتي أحد من طائفة شهود يهوه لمشاهدة فيلمي، ربما يثير شيئا ما بداخلهم” (المخرج دان كوكوتاجلو) [1]

 

شهود يهوه.. آثم كل من يخالفهم

عام 1870 وبالتحديد في ولاية بنسلفينيا الأمريكية بدأ الواعظ “تشارلز تاز راسل” هو ومجموعة من التلاميذ من دارسي الكتاب المقدس في تنظيم مذهب جديد ينفصل في تعاليمه عن تعاليم المسيحية وسمّوا أنفسهم “شهود يهوه”. و”يهوه” هو اسم الله في المخطوطات الأصلية للكتاب المقدس “أنا يهوه،‏ هذا اسمي” (إشعيا ٤٢:‏٨‏)[2]. واستمرت هذه الطائفة في الانتشار إلى أن وصل عددهم وفق آخر إحصائيات إلى ما يزيد على ثمانية ملايين[3] منتشرين حول العالم في 240 دولة.

في فيلمه الأخير “ارتداد” (Apostasy) يقدم لنا المخرج الإنجليزي دان كوكوتاجلو دراما اجتماعية عن إحدى الأسر الصغيرة المنتمية لشهود يهوه في إنجلترا، حيث الأم وابنتاها الشابتان -الصغرى شديدة التدين والكبرى- ارتدوا عن معتقدهم الديني.

لا نسمع مفردات الحب والتسامح وتقبّل الآخرين في قاموس شهود يهوه، كل أحاديثهم تدور في إطار المنظمة والاجتماعات المغلقة التي يعقدونها مرتين كل أسبوع في مقرهم الخاص، فهم لا يعترفون بالكنيسة ولا يذهبون لها، ليس لهم ألبسة دينية خاصة، ولا يحتفلون بالأعياد المسيحية، فهم يعتقدون أن كل من يخالفهم آثم وكل آخر بالنسبة لهم محض آخر غريب، ولا مجال للتواصل معه إلا في حدود التبشير.

الأم وابنتاها الشابتان -الصغرى شديدة التدين والكبرى- ارتدوا عن معتقدهم الديني

لويزا.. جسد مؤمن يخالطه دم فاسد

 في أول مشاهد الفيلم نرى لويزا في لقطة مقربة تجلس في صلاة ليهوه مليئة بالندم والشعور بالخزي لأن جسدها المسكين مصاب بفقر الدم، ولأنها تحمل في عروقها دماء شخص تبرع لها بالدم عندما ولدت لينقذ حياتها. كانت طائفتها سترفض هذا التبرع لأن دمها سيصبح مختلطًا بدم آخر؛ وهو ما ترفضه تعاليم الطائفة، مما يعني أنهم كانوا مستعدين أن يعرضوها للموت في مقابل عدم مخالفة التعاليم. هذا المشهد يعكس المغزى من الفيلم ومن السينما بشكل عام، وهو الذي كشف القناع الإنساني فينا.

يقول كارل ماركس “أساس كل الفنون هو الإنسان”[4]، والكشف لكل ما هو ذاتي هو جوهر البعد الإنساني للسينما. ربما نتذكر كلمات لويزا ونبرة الانكسار في صلاتها لكن وجهها الحزين الساكن يخبرنا الكثير، ويضعنا أمام شخصية لا نعرفها من الثواني الأولى، لكننا أصبحنا أكثر قربًا منها وبشكل لا إرادي اتحدنا معها ومع مشاعرها، وفصلناها عن السياق المكاني الذي نراها فيه.

الأم تنزعج من ابنتها التي تشغل نفسها بالجامعة ودراسة الفن، فهذا بالنسبة لها عبث وتفاهة لا قيمة له

من سعة الدنيا إلى ضيق البيوت

إن النظرة الحياتية لشهود يهوه ضيقة للغاية تزيد من إغلاقهم لكل الأبواب على أنفسهم، فهم لا يهتمون إلا بأجسادهم لأنها هبة الله التي يعتبر الإهمال فيها إثما كبيرا، أما الاهتمام بعقولهم فلا يشغلهم كثيرًا بل إنهم يسعون إلى تضليلها بكل الطرق، فإذا كانت زهور عبّاد الشمس لا تحيا إلا بالتفتح تحت الشمس فشهود يهوه لا يحيون إلا خفية وبعيدًا عن الحياة ومظاهرها.

في الفيلم لا نرى هذه الأسرة وهذا المجتمع الديني إلا في البيوت المغلقة، تحصرهم الإطارات دائمًا في زاوية صغيرة لا يستطيعون التنفس فيها، تشعر بأنهم ضئيلون للغاية ومختنقون.

في أحد المشاهد نجد الأم وابنتها تقفان على أحد الأرصفة في منتصف الطريق وفي نشاط معتاد للتبشير بطائفتهم، تقفان في صمت وسط ضجيج المدينة، لا أحد يعيرهما اهتمامه، كأنهما زهرتان ذابلتان لا تثيران الانتباه في يوم ربيعي مشمس. ما الذي سيدفع الناس إلى النظر لهما، أو إلى الانخراط في هذا المجتمع المغلق تمامًا على نفسه، أو أن يصبحوا مثل الأم وابنتها كالالآت التي لا تنتج أي مشاعر أو أحاسيس عدا صلوات خافتة في الظلام طلبًا للخلاص من الشياطين؟

الأم وابنتها تقفان على أحد الأرصفة في منتصف الطريق وفي نشاط معتاد للتبشير بطائفتهم

هرمجدون.. الصلاة في انتظار الفردوس

“تشير معركة هرمجدون إلى الحرب النهائية بين الحكومات البشرية والله،‏ فمنذ الآن تقاوم هذه الحكومات ومؤيدوها الله برفضهم الخضوع لسلطانه” (مزمور 2: 2)[1]

على الأغلب لا يفعل شهود يهوه شيئا عدا انتظار القيامة ومجيء المسيح ليدمر هذا العالم ويخلصهم منه، وبعدها لن يحيا في الأبدية أحد سواهم. هذا ما ينشدونه؛ فردوس متخيَّل ونعيم أبدي، لذا فإن الحياة ليست مبتغاهم، والتعليم والثقافة أمور لا تشغلهم كثيرًا.

تنزعج الأم من ابنتها التي تشغل نفسها بالجامعة ودراسة الفن، فهذا بالنسبة لها عبث وتفاهة لا قيمة له. لو أن معركة هرمجدون قامت ووجدها المسيح في وضع العبادة تصلي وتدعو له لكن هذا أفضل بالطبع من أن يجدها تدرس وتتعلم. ليس المقصد هو القول إن الصلوات ومناجاة الله يجب أن تكون أمورا ثانوية، لكن هل يجوز للدين أن يحثني على أن أترك تعليمي ودراستي وألا ألتفت لحياتي؟ أن لا أكون شخصا أفضل يواكب الحياة والفكر والعلم؟ بالطبع لا، وهذا جزء من طبيعة الشخصية التي يريدونها، أن تجهل كل شيء عدا تعاليمهم، وربما في الحياة الأخرى سيفعلون كل شيء.

“عندما حلّ العام الثالث صار الناس في عداء، وعندما حلّ العام الرابع ضاق بهم المكان.. ضلّ الناس في الشوارع، وعندما حلّ العام الخامس، صارت الابنة تبحث عن مدخل للأم، لكن الأم لم تفتح بابها للابنة، صارت الابنة تراقب موازين الأم، صارت الأم تراقب موازين الابنة” (ملحمة أتراخاسيس)[2]

لويزا تقرر أن تعود لدينها من جديد، لكن الثمن الذي تدفعه لتُقبل في مجتمعها مرة أخرى كان قاسيًا

لويزا.. عودة يائسة إلى الدين

يبدو الآن منطقيا أن نعرف لماذا تركت لويزا تعاليم دينها، وهذا هو جوهر صراع ديني تسعى فيه الابنة إلى أن تترك هذا الدين الذي تخجل من أن تخبر الآخرين عنه، وفي المقابل تنبذها جماعتها وتعجز أمها عن فعل أي شيء لابنتها، فكما يعاملهم المجتمع على أنهم منبوذون تتحول الابنة في نهاية الأمر إلى شخص منبوذ أيضًا، لكن من قلب أسرتها ومجتمعها الذي لا تعرف غيره وليس لها ملجأ سواه، كل العالم يلفظها كأنها أكلت التفاحة.

في مرحلة خطيرة وحساسة في حياتها تقرر لويزا أن تعود لدينها من جديد، لكن الثمن الذي تدفعه لتُقبل في مجتمعها مرة أخرى كان قاسيًا، كان يجب عليها أن تُرضي “الكبار” وأن يشعروا حقًا أنها نادمة على ارتدادها، لكن عبثًا، فكيف تثبت ذلك، وكيف سيقتنعون؟ هناك قسوة في هذه العقيدة وعدم تساهل في الغفران، تمامًا كالأساطير القديمة حيث إن غضب الإله على أحدهم يعني ضياعه إلى الأبد.

كطقس روتيني معتاد تذهب الأم إلى صالون تجميل لتعتني بأظافرها، هي ليست نموذجا للمرأة التي تعتني بجمالها لكنها تعتني بجسدها من منطلق إيماني، لكن هذه الأم نسيت تمامًا كيف تعتني بقلبها، كيف تحافظ على المشاعر الإنسانية بداخلها، ففي النهاية تذهب إلى الصالون وحيدة وتعيش كامرأة وحيدة تمامًا إلا من أظافر مقلمة بعناية.


[2]  هي إحدى أساطير الطوفان في الحضارة العراقية القديمة، كان الطوفان هو عقاب من أحد الآلهة، وبعده زادت خطايا البشر وتحولوا إلى عداء شديد بين الأباء والأبناء والغرباء.

[4] بيلا بالاش، كتاب: نظرية السينما


إعلان