“كتاب الصورة” لجودار.. لا تحاول أن تبحث عن معنى للفيلم

آية طنطاوي

لوحة كاشطو الأرضية للفنان جوستاف كاييبوت – من فيلم كتاب الصورة

 

“فيلم كتاب الصورة مستمر في ملاحقتي، ربما هذا هو كل ما يريده جودار” (بيلغي إبيري – موقع الطماطم الفاسدة)

نحن نعرف جيدا جدران السجن والكلمات المحفورة بداخله والظلام الذي يملأ أركانه، نعرف الرصاص وهو يخترق أجساد المستعمرين، نعرف شكل القضبان ورائحة الحديد الذي يضع حدوده أمام العالم، نعرف الظلم ورائحة القسوة، لقد اختبرنا كل هذه المشاعر وكل هذه الأماكن دون أن نراها في الواقع، كانت السينما والصور واللوحات الفنية بوابات أدخلتنا في هذه التجربة، ونحن نجلس على مقاعدنا نراقب ونحن مشدوهين وعاجزين.

كنا نظن أن فيلم “وداعًا للغة” هو آخر أفلام المخرج الفرنسي جان لوك جودار، لكن فيلمه الأخير “كتاب الصورة” فاجأنا لنتحمس لمشاهدة فيلم جديد من أفلامه. هناك متعة خاصة يشعر بها جيلنا الشاب الذي تعرف على سينما جودار من شاشات الحاسوب أو من عروض سينمائية خاصة تعرض فيلما له على شاشات متواضعة، لكن هذا لا يضاهي شعور أن تذهب إلى السينما لتحجز تذكرة لتشاهد فيلما لجودار، ذلك المخرج الفرنسي الذي حمل لواء الموجة الفرنسية الجديدة في الخمسينيات، وما زلنا إلى الآن نتعلم من سينماه مفردات جديدة مع كل مشاهدة، ونحفظ حواراته وفلسفته ومقالاته في كراسات السينما وأبطاله وإطاراته عن ظهر قلب.

“كتاب الصورة” وفن الكولاچ.. أوجه الشبه

أتصور أننا نواجه ارتباكا بشأن “كتاب الصورة” فيما يتعلق بالتصنيف النوعي للفيلم، وفي ماهية الإشكالية التي يريد الفيلم طرحها، وما الذي يعنيه الفيلم بالأساس.

فن الكولاچ هو فن القص واللصق، يعتمد على تجميع رسومات أو صور مختلفة لقصاصات فنية في لوحة واحدة. وتختلف لوحات الكولاچ حسب الأدوات المستخدمة فيها والتي تتنوع بين الرسم الزيتي والصور الفوتوغرافية وقصاصات المجلات والأخشاب وتصميم الكولاچ الديجيتال، وهو في النهاية يعتمد على خلق شيء فني من تجميعات لأشياء غير مترابطة أو ذات صلة.

هنا لا أستطيع أن أفصل “كتاب الصورة” في مضمونه البصري والموضوعي عن فن الكولاچ، فالفيلم مزيج من فوضى مقاطع الأفلام والصور والكلمات والمشاعر التي تولد بداخلنا، والتي تشكل في النهاية المعنى. جودار لا يعطينا المعنى بشكل جاهز، بل يعطينا المادة الخامة التي ستولّده، تمامًا كالأحلام أو الأفكار التي تدور في عقلنا؛ فهي لا تسعى لأن تكون منظمة بقدر ما تسعى إلى أن تكون شيئا ما مفهوما يصل في النهاية إلى معنى أو فكرة متسقة.

هذه ليست التجربة الأولى لجودار لتقديم فيلم من هذه النوعية، فمنذ أن توقف عن تقديم سينما روائية وهو يقدم أفلاما بنفس طبيعة السرد واللغة، مثل فيلمه السابق “وداعًا للغة” وفيلم “موسيقانا”. يزخر الفيلم بمقاطع من مشاهد سينمائية مثل أفلام هيتشكوك وبازوليني ويوسف شاهين وغيرهم الكثيرين، كما يستعرض أيضًا لوحات فنية لعدد كبير من الفنانين التشكيليين مثل جوستاف كلييبوت وإدوارد مانيه وبول جوجان وماساشيو وغيرهم الكثيرين.

كل هذه اللوحات تمتزج مع السينما ومع الموسيقى والتي أرى أنها أضفت جمالا خاصا للفيلم يجعلك مشدوها أثناء المشاهدة وأنت تلاحق هذا التدفق الفني البصري، وتحاول أن تربطه مع مقولات جودار الصوتية كأنك تربط كل الخيوط وتنسج بها هذه التوليفة التي يشترك المشاهد في تلقيها ليكون جزءا منها.

“كتاب الصورة هو المزيد من الأشياء المتناقضة في آن” (ستيفاني زاكارك – موقع الطماطم الفاسدة)

الكولاچ يقتطع صورة من سياقها ليضعها في سياق آخر، فتتحول إلى وحدة متفردة ستجعلك تلتفت لها أكثر وستأخذ جزءا من تركيزك، وهذا أيضًا ما فعله جودار عندما اقتطع مشاهد متعددة من أفلام بتجاورها مع بعضها لتنتج معنى ما وموسيقى ما، وهي نظرة مختلفة لما نراه.

فن الكولاچ هو فن القص واللصق، يعتمد على تجميع رسومات أو صور مختلفة لقصاصات فنية في لوحة واحدة

إعادة إنتاج وإثارة تساؤلات

في الفصل الأول من الفيلم المعنون بـ”إعادة إنتاج” مزج جودار بين مشاهد من الواقع لتدريبات المدنيين على تدريبات عسكرية تجبرهم على الزحف، ثم انتقل إلى مشهد الطلبة العراة وهم ينبحون كالكلاب في فيلم بازوليني “سالو، أو 120 يوما من سدوم”. هنا لا يقول جودار كلمة واحدة لكن ترتيب الصور يثير في أذهاننا تساؤلات بشأن الواقع والسينما، لماذا ننتقد فجاجة فيلم بازوليني إذا كان ما صوّره يحدث بالفعل في الواقع، بل بصورة أكثر بشاعة؟ ولماذا يتحول الواقع بنا إلى فيلم مزعج؟ في النهاية نحن مجرد متفرجين على الواقع وعلى السينما وعلى هذا الفيلم الذي يشبه الحلم الطويل.

“إن الحلم كلمة، قد يبدو هذا مبهمًا لأننا نعلم أن الحلم يتألف أكثر ما يتألف من صور مرئية لا أصوات. وقد يتبادر إلى الذهن أننا نعني بهذا القول أن الحلم كالرسم وربما هذا يعرب بصورة ما عن شيء ما” (مصطفى صوان)[1]

في حديثه عن طبيعة عمله مع جودار على المونتاج يقول منتج الفيلم “إن كل مقطع لم يكن له فلسفة معينة يسيرون عليها بل كان اختيار المشاهد قائما على التفضيلات: هذا مناسب، هذا ألوانه أفضل، هذا صوته جيد.. وهكذا”.

كما حكى المنتج أن المونتاج قام به مع جودار على جهاز خاص بالمونتاج معتمدًا على شرائط فيديو للأفلام مما يعني أنه لم يعتمد على التكنولوجيا وبرامج المونتاج الحديثة في إعداد الفيلم.[1]

معروف عن جودار ميوله اليسارية وآراؤه وفلسفته التي يطلقها دائمًا عن العالم والسياسة، وموقفه من الحروب والظلم والعنصرية ومما يحدث في فلسطين المحتلة

عين على الشرق الأوسط

معروف عن جودار ميوله اليسارية وآراؤه وفلسفته التي يطلقها دائمًا عن العالم والسياسة، وموقفه من الحروب والظلم والعنصرية ومما يحدث في فلسطين المحتلة، لذا لم يخلُ الفيلم من رؤية تضعنا من جديد أمام أفكار جودار بعيدًا عن الفن والسينما، وهو الجانب المشوق أيضًا في نظرتنا له، فكأننا نرى قضايا العالم الشائكة من عيونه.

في الفصل الأخير للفيلم -والذي يشغل نصف زمن الفيلم تقريبًا- يقدم جودار الشرق الأوسط من عيون غربية ومن عيونه أيضًا، تبدو كأنها نظرة استشراقية، وتميل لأن تكون نظرة تأمل في السياق الكولاچي للفيلم. يقول في أحد مقاطع الفيلم “إن العالم العربي يوجد كعالم قائم بذاته، والغرب لم يفهمه أبدًا”. تمتزج أغاني أم كلثوم بأشعار محمود درويش وصور ألبير قصيري وفيلم جميلة بوحيرد وصوت خالد صالح من فيلم “هي فوضى”، الأطفال البسيطة في الشوارع، الفقر والموت وداعش وأعلام الدولة الإسلامية بالصحراء العربية ورمالها الذهبية”.

 طوال الفيلم يلعب جودار بالألوان ويجعلها مشبعة أكثر، فهو يعكس صورة بلاد الشرق التي تنبض بالحياة والألوان، هذه التوليفة تثير فينا شعورا غريبا بالنشوة ونحن نرى عالمنا العربي على خلفية موسيقى الناي في هذا الفيلم الذي يمزج كل العالم في شريط واحد.

بعد مسيرة ستين عاما من إخراج الأفلام -وعمره يقترب الآن من التسعين- ما زال جودار يطرح علينا الأسئلة ويتركنا نتأمل ونفكر

اللغة التي يعرفها جودار

يقول جودار في الفيلم إن الكلمات ليست لغة، ولكنه لا يقول ما اللغة؟ ما نشعر في نهاية الفيلم أن الصورة والسينما هي اللغة التي يعرفها جودار، ربما لا تسعفنا الكلمات كي نبوح ونحكي ونخطب في الملايين، لكن الصورة خير من ألف كلمة، الصورة تقول كل شيء وتؤرخ لكل شيء.

نحن الآن في عصر الصورة، ولكن هل ما زال للصورة تأثيرها كما في السابق؟ كالتأثير الذي دفع الجمهور إلى الجري خارج القاعة عند أول عرض سينمائي يرونه في حياتهم؟ هل لا تزال مشاهد العنف والقتل والحروب تفزعنا أم أننا اعتدنا عليها؟ أُفضّل أن لا أبحث عن إجابة لهذا التساؤل، وهذا ما يريده جودار أيضًا ألا نفكر فيما وراء الفيلم بقدر الانسياق وراء أجوائه وما يطبعه داخلنا من مشاعر على اختلافها.

بعد مسيرة ستين عاما من إخراج الأفلام -وعمره يقترب الآن من التسعين- ما زال جودار يطرح علينا الأسئلة ويتركنا نتأمل ونفكر، كأننا نستمع إلى قصيدة طويلة إذا انتهت كلماتها فإنها لن تنتهي بداخلنا.

“عندما يهبط الفضائيون على الأرض بعد أن تختفي البشرية من عليها سيقدم فيلم كتاب الصورة بعض الأدلة على مسرح الجريمة التي كانت هنا” (الناقد إريك كون)[1]

عُرض الفيلم في مهرجان كان 2018 في دورته الـ71 وحصل على جائزة المهرجان الخاصة، ويشهد الفيلم عرضه الأول في مصر في سينما زاوية ضمن فعاليات الدورة الحادية عشر لبانوراما الفيلم الأوروبي.

[1] مقدمة المترجم من كتاب فرويد: تفسير الأحلام


إعلان