“طهران مدينة الحُب”.. كوميديا سوداء تسخر من تابوهات المجتمع
عدنان حسين أحمد
يندرج فيلم “طهران مدينة الحُب” للمخرج الإيراني علي جابر أنصاري -المقيم في لندن حاليا- ضمن الأفلام الدرامية المطعّمة بنَفَس كوميدي ساخر، لكنه لا يتعرّض للدين والسياسة بشكل مباشر وإنما يلامسهما بحذاقة المُخرِج البارع، ويومئ لهما من مسافة قريبة جدًا بحيث يضعهما بين بصر المتلقي وبصيرته، آخذين بعين الاعتبار أن ثقافة المخرج السينمائية قد تأسست في إيران وتعمقت في كندا وترسّخت في المملكة المتحدة التي استقر فيها مؤخرًا ونال شهادة الماجستير في الإخراج والمونتاج السينمائيَين من مدرسة الفيلم في لندن بدرجة الشرف.
لا شكّ في أنّ هذه الدراما الاجتماعية اللاذعة لا يتحملها الفضاء الإيراني، خصوصًا إذا ما انصبّت الانتقادات على جانب محدد من الأعراف والتقاليد الدينية، رغم أنّ هذه المقاربة الفنية الحسّاسة كانت على قدر كبير من الحيطة والحذر كي لا تخدش مشاعر وأحاسيس الشريحة الأوسع في المجتمع الإيراني.
قدرَ تعلّق الأمر بالحب واللذة والسعادة لا تختلف الدوافع البشرية من مكان لآخر سواء أكان هذا البلد دينيًا أم دنيويًا أم يجمع الاثنين في بوتقة واحدة، وهذا ما فعله المُخرج في فيلم “طهران مدينة الحُب”، إذ احتكّ بتاريخها الرسمي الممنهج واجترح شخصيات سينمائية يمكن أن نجدها على أرض الواقع الاجتماعي الإيراني الذي يستجيب لعلاقة الصداقة والحب، ويخترق المسكوت عنه وينتهك المحرّم، ويؤسس لأعراف جديدة تتلاقح مع منظومة القيم العالمية في الجهات الأربع من كرتنا الأرضية.
حسنًا فعل المخرج حين أشرك معه مريم نجفي في كتابة القصة السينمائية المفعمة بحواراتها الذكية المشذّبة من الثرثرة اللغوية الزائدة التي تُثقل كاهل الفيلم، فأنقذته بالنتيجة من السقوط في فخّ “سينما المؤلف” الذي يدسّ أنفه في كل شيء، حيث ترك بينه وبين فريق العمل مساحة كافية تتيح لهم أن يعبّروا عن آرائهم وتوجهاتهم الفنية في التمثيل والتصوير والموسيقى والمونتاج وما إلى ذلك، تاركًا لنفسه أن يحقق رؤيته الإخراجية من دون قمع أو استبداد.
مثلث الشخصيات الغريب
تتمحور قصة الفيلم حول ثلاث شخصيات رئيسية هي مينا التي جسّدتها الممثلة “فروغ قجابكَلي”، وحسام الذي أدّى دوره الممثل “أمير حسام بختياري”، ووحيد الذي لعب دوره بإتقان شديد الفنان “مهدي ساكي”، وهناك شخصيات مؤازرة لا يمكن لبنية الفيلم أن تستقيم بدونها مثل نيلوفر “بهناز جعفري”، وصاحب العمل الذي يشتغل عنده وحيد، إضافة إلى قارئ العزاءات الدينية الحزينة ومُنشد المناحات والفواجع التي تحثّ على البكاء وتستدر الدموع الغزيرة.
وبغية كشف غور الشخصيات الرئيسية لا بدّ من تسليط الضوء عليها تباعًا وفحص معطياتها الثقافية والفكرية والاجتماعية، فـ”مينا” موظفة استقبال في عيادة تجميل محلية أنيقة تابعة للدكتور طاهري، لكنها تعاني من سمنة مُفرطة تجعل الآخرين لا يلتفتون إليها، ومع ذلك فهي تخدع الرجال الذين يفدون إلى العيادة وترسل لهم صورًا مزيفة لنساء جميلات، وتستعين في الأعمّ الأغلب بصوتها المثير لإغوائهم واستدراجهم إلى عالمها المجرّد من الأنوثة، فهل تُفلح في اصطياد حبيب أو حتى صديق عابر تبثه همومها ولواعجها العاطفية في هذه المدينة المعقدة التي تستدعي التقاليد القديمة ولا تغض النظر عن القيم الجديدة النابعة من قلب المجتمع أو المستوردة من الغرب على حد سواء؟
أما الشخص الثاني فهو حسام، وهو بطل سابق في رياضة كمال الأجسام نراه وقد تحوّل إلى مدرب اللياقة البدنية للمسنين، فتتعرف عليه مينا حينما يأتي إلى العيادة ويسأل عن البوتكس، فتضعه في حسابها الخاطئ كحبيب محتمل أو صديق في أضعف الأحوال، تلتقي به مثل الأخريات في المقاهي والمتنزهات والأمكنة العامة من دون خشية أو حرج، لكنها تظل تخطط لهذه اللقاءات من دون أن تشارك في واحدة منها.
ينهمك حسام باختبارات مطوّلة للتأكد من صلاحيته لدور في فيلم أجنبي يشارك فيه الممثل الفرنسي لوي جاريل غير المعروف بالنسبة لحسام، فيصبح مادة للفكاهة والتندر على ضيق أفق هذه الشخصية التي تريد أن تنغمس في عالم الفن السابع من دون أن تتسلّح بالمبادئ الأولية للسينما ومعرفة نجومها البارزين في العالم. يلتقط له المسؤول عن اختيار الممثلين صورًا متعددة بوضعيات مختلفة تُظهر عضلات جسده الرياضي اللافت للانتباه، كما نرى هذا الرياضي وهو يدرّب شابًا طموحًا من أجل إحراز لقب البطولة في رياضة كمال الأجسام.
أما الضلع الثالث الذي يكمل هذا المثلث الغريب فهو وحيد المغني المعروف في العزاءات والأحزان، لكنه يريد أن يصبح مطرب أعراس يغني في حفلات الزفاف المبهجة ويودع عالم الأحزان إلى الأبد، تساعده في ذلك المصورة الفوتوغرافية نيلوفر “بهناز جعفري” الصديقة المقرّبة لمينا والمُطلّة على عالمها الداخلي المليء بالخُدع والأحابيل. وبمَقْدَم هذه الشخصية يكون الفيلم قد اكتظ بالمواقف الكوميدية المضحكة التي تبدأ من مظهره الخارجي، لتغوص في أعماقه وتغيّر من طريقة تفكيره ونظرته للحياة، خصوصًا وأنه يريد أن يتخلى عن زوجته الأولى ويقترن بامرأة ثانية، لكن العائق الوحيد الذي يواجهه هو أن إجراءات الطلاق تستغرق وقتًا طويلاً. وفي الوقت الذي يعبّر فيه عن جانب من مشاعره العاطفية تجاه نيلوفر ويغني لها أغنية خاصة بها، تخبره بعزمها على الرحيل إلى أستراليا.
وفي خاتمة المطاف، نرى الشخصيات الثلاث وهي جالسة بشكل متباعد في حافلة لنقل الركّاب تجوب بهم في شوارع طهران مدينة الحُب المردود على نفسه، والذي لم نره متجسدًا أمامنا لكنه تحقق في مخيلة مينا على أضعف تقدير.

كوميديا سوداء تتحدى التابوهات الدينية
يمكن القول إن “طهران مدينة الحُب” هو فيلم شخصيات أكثر منه فيلم ثيمة وأفكار جانبية مؤازرة، على الرغم من توفر هذه الثيمة كمهيمنة بصرية تتغذى على مدار الفيلم الذي بلغت مدته 102 دقيقة بأفكار ومواقف طريفة متعددة وضعت الفكاهة بموازاة الجانب الدرامي وتفوقت عليه، بل إنها دمغت الفيلم بدمغة ساخرة هي أقرب إلى الكوميديا السوداء منها إلى أي شيء آخر فيما يتعلق بشخصية وحيد التي انطوت على تحولات درامية جذرية أحدثت نقلة نوعية في الفيلم، تحدى فيها صانعة التابوهات الدينية التي يصعب التحرش بها في المجتمع الإيراني الراهن الذي تقوده حكومة دينية لا تتهاون في الانفتاح على القيم الأوروبية الحديثة.
لم يقتصر نجاح الفيلم على قصته بحواراتها الذكية المعمّقة وبالرؤية الفنية للمخرج علي جابر أنصاري، وإنما تعداها إلى أداء الممثلين الثلاثة فروغ قجابكَلي وأمير حسام بختياري ومهدي ساكي الذين جسّدوا أدوارهم بحرفية عالية أبهجت الجمهور وأوصلت رسالة الفيلم إليه، كما كان لحضور النجمة بهناز جعفري دور مهم في إثراء الفيلم من الناحية الأدائية المحترفة التي سرقت فيها الأضواء في بعض اللقطات والمَشاهِد الجميلة من هذا الفيلم. وفي السياق ذاته ينبغي الإشادة بموسيقى حامد سابت، وتصوير محمد رضا، ومونتاج آشخان مهري.
علي جابر أنصاري.. رؤية إخراجية متأنية
لا بدّ من الإشارة إلى الأفلام الثلاثة الأخرى التي أنجزها علي جابر أنصاري، وذلك لأنها تشكّل امتدادًا طبيعيًا لهذا الفيلم وتعزيزًا لرؤيته الإخراجية التي يُنضجها على نار هادئة. ففي عام 2008 أخرج الفيلم القصير “صوت المسافات” (مدته 18 دقيقة) ويروي قصة اثنين من العمّال يقومان بإيصال باب خشبي ثقيل إلى الطابق التاسع عشر في شُقة فاخرة في طهران، لكنهما يكتشفان أن المصعد عاطل فيضطران إلى صعود السلالم وهما يحملان هذا الباب الثقيل، وذلك في عملية ارتقاء شاقة تشبه إلى حد كبير رحلة لاكتشاف المسافات.
أما الفيلم الثاني فهو “أمان” (مدته 28 دقيقة) وقد أنجزه المخرج عام 2011، ويسرد قصة “أمان” الشاب اليافع الذي يعمل بوابًا في بناية باذخة في العاصمة طهران وقد آنَ الأوان لأن يتزوج، وعليه أن يعود إلى قريته لتنفيذ الخطة التي رسمها في ذهنه.
وإذا كان هذان الفيلمان يتناولان حياة الطبقة العاملة والموظفين البسطاء، فإن فيلمه الروائي الطويل الأول “أوراق متساقطة” الذي وضع المخرج لمساته الأخيرة عليه عام 2013 يدور حول صراع الأجيال في الطبقة المتوسطة، فأمير ينتظر وحده في طهران عودة ابنه من كاليفورنيا لمساعدته في إدارة أعماله العائلية التقليدية، لكن آراش لا يستجيب لرغبة والده وقد اختار أن يتبع قلبه مع سبق الترصّد والإصرار. لا يتفهم الأب اختيار ولده حتى يتواصل مع المرأة التي كان سيتزوجها لو لم يتدخل والده في حينه.
نخلص إلى القول إن علي جابر أنصاري هو مخرج متأنٍ كثير التأمل للسيناريوهات والقصص السينمائية التي يكتبها بلغة بصرية أصلاً، ولا يميل إلى السرعة في إنجاز أفلامه الروائية القصيرة أو الطويلة على حد سواء، ولا غرابة في أن ينجز أربعة أفلام فقط خلال عشر سنوات. وقد أثنى النقاد والصحفيون السينمائيون على تجربته السينمائية التي تنصبّ في إطار السينما المستقلة والجادة وتراهن على النوع، وتعوّل على السويّة الفنية، وتضع الكم خارج اعتباراتها الإبداعية.