“الجمعية”.. سواعد المرأة وأثقالها

عبد الكريم قادري

 

فيلم “نانوك ابن الشمال” (1922) للمخرج الأمريكي من أصل إيرلندي روبرت فلاهرتي، أحد أهم الأفلام الوثائقية التي عرفتها السينما، بل يُعد هذا العمل بمثابة بداية التأسيس لسينما وثائقية، وتنعكس هذه الريادة في الأسبقية وعملية الخلق السينمائي الجديدة من جهة، ومن جهة ثانية في موضوع المُعايشة والإنصات للأسر والعائلات التي تعيش في الهامش، الإنسان غير المرئي، وهي الشخصية التي جسدها “نانوك” وعائلته الذين يعيشون حياة بدائية في الإسكيمو.

وقد استطاع هذا المخرج المُغامر أن يقنع هذه الأسرة بضرورة أن يتناسوا تماما الكاميرا التي تصورهم، وأن يعيشوا حياتهم اليومية التي دأبوا عليها فيما سبق من أجل تلقّف صور تؤسس لمرحلة جديدة من السينما، وفي الوقت نفسه تنقل حياة الإسكيمو عن طريق عائلة نانوك، هذه العائلة التي عاش معها، بالإضافة إلى الطبيعة التي عايشها لأكثر من سنة وثلاثة أشهر كاملة سمحت له بأن يكون فيلمه “نانوك من الشمال” من أجمل الأفلام وأصدقها.

 

 

جاءت هذه المقدمة كضرورة ملحة لربط العمل المذكور مع الفيلم الوثائقي “الجمعية” (2018) ومدته 79 دقيقة، وهو من إنتاج لبناني مصري يوناني سلوفيني، وذلك للتنبيه على أهمية فكرة المعايشة وإنفاق الوقت المناسب لإنتاج أي فيلم يسلط عدسته على نمط حياة معينة، كالفيلمين المذكورين.

ولقد فهمت المخرجة اللبنانية الشابة هذا المبدأ وطبقته على فيلمها، حتى خرج بتلك الصورة الجميلة، وهذا بعد مدة تصوير فاقت ست سنوات، وهي المدة الزمنية التي سمحت لشخصيات العمل أن تتطور، وفي ظلها ولدت أحداث جديدة رسمت حبكة درامية غنية بالقصص الجديدة، وفيها الكثير من الإثارة والتشويق.

هذه المُعايشة لم تبدأ بسهولة، بل لزمها الكثير من الوقت، حتى صنعت بينها وبين العائلات التي صورتها رابطا من الثقة المتبادلة، كما فعل فلاهرتي بعائلة نانوك. وفي هذا السياق تقول المخرجة ريم صالح في حوار أجراه معها الناقد أحمد شوقي لفائدة موقع “قنطرة” “أول سنة صوّرتها لم أخرج منها تقريبا بشيء، أهالي روض الفرج بدؤوا في التصرف بطبيعية بعد قرابة ثمانية أشهر من التصوير. هذا جعلني أدرك أن من يذهب ليصور منطقة شعبية لشهرين أو ثلاثة ثم يعود بما يسميه فيلما وثائقيا هو في الأغلب مخادع أو تعرض للخداع. في البداية يقدمون لك ما تريد أن تراه وتسمعه، ومع الوقت تسقط الحواجز ويتصرفون بتلقائية، لأن وجودك لم يعد شيئا غريبًا يستلزم أي تظاهر”.

 

المرأة.. شقاؤها الذي لا ينتهي

تجري أحداث هذا الفيلم الوثائقي “الجمعية” في منطقة “روض الفرج”، وهو أحد أقدم الأحياء الشعبية الذي يقع شمال القاهرة حيث تعيش العديد من العائلات الفقيرة في هذا الحي العريق وسط مجموعة من التناقضات التي لا يمكن أن تنتهي. وبسبب محدودية الفرص وعدم وجودها في الكثير من الأحيان، يعتمد الأفراد على بعضهم البعض، وفي خضم هذا كله تم تأسيس نظام “الجمعية” في هذا الحي من طرف مجموعة من السكان، وذلك لخلق نوع من التكافل الاجتماعي، وفي الوقت نفسه الإعداد لآلية إعانات مالية لكل من يحتاجها من الأعضاء الذين دفعوا ما عليهم من اشتراكات مالية.

ولقد اختارت المخرجة ريم صالح هذه التسمية عنوانا للفيلم، وفي الوقت نفسه جعلتها في المتن نقطة تجميع للعائلات، ومربطا تلتقي فيه كل عناصر الفيلم، كي تضمن من خلالها بأن موضوع الفيلم في يدها، وحتى لا ينفلت منها.

أفرز الفيلم العديد من المشاكل الاجتماعية أبرزها وأكثرها أهمية مشاكل المرأة وما تعانيه طوال حياتها، وذلك من ولادتها وحتى موتها، لهذا تم اختيار العديد من النماذج النسائية لتحديد الفئة العمرية لتلك النسوة، أهمهن “أم غريب” التي تمثل مرحلة متوسطة العمر، و”دنيا” التي تمثل الطفولة، و”العمة” التي تمثل سن الشيخوخة.

ومن هنا يمكن للمُتلقي أن يفهم بسهولة هذا الخط الذي ستكون عليه “دنيا” مثلا، حيث ستكون كـ”أم غريب” حين تصبح متوسطة العمر، وكالعمة حين تدخل سن الشيخوخة، بمعنى أن سلسلة المعاناة تترابط ولا تنتهي، وتتداول عليهن في كل مرة، فهن شخصيات محورية في هذا الفيلم، ناهيك عن أخريات لم تغفل عنهن المخرجة ريم صالح، وأظهرت مرارتهن وألمهن وسط مجتمع ذكوري ومن بينهم “نجوى” ابنة “أم غريب”.

أحداث الفيلم الوثائقي “الجمعية” تجري في منطقة “روض الفرج”، وهو أحد أقدم الأحياء الشعبية الذي يقع شمال القاهرة

 

الرجل.. هروب إلى “حب الله”

تنعكس المعاناة بشكل أساسي في حياة أم غريب التي تتكفل بأعمال البيت ورعاية عائلتها، وأكثر من هذا تتحمل مسؤولية “الدكان” بالإضافة إلى أعمال شاقة أخرى، وأكثر من هذا فقد تركها زوجها عادل وطلقها رغم المعاناة التي تحملتها في سبيله والتضحية التي قدمتها له، ومن عبثية الحياة أن يختار طريق الدروشة والصوفية ليعيش حياته في حب الله، وكما كان يقول “الفقر ليس فقر فلوس، إنما الفقر فقر نفوس، هذا سؤال يجب على كل ابن آدم أن يسأله لنفسه. فأنا حصلت على كل العالم وخسرت نفسي يعني أنا لا أساوي شيئا”.

ورغم هذا التشبع الصوفي فإنه أهمل عائلته وتركها دون أن يسأل عنها ولو لمرة واحدة، ليتم توريث هذه المعاناة لنجوى ابنتها التي تطلقت مرتين وعادت لزوجها ومن ثم تتطلق نهائيا، وهذا بعد أن اعتمد عليها زوجها في العمل وأصبح لا يحرك ساكنا في البيت ولا خارجه، أي أن نجوى هي من تتكفل بأشغال البيت، وفي الوقت نفسه تعمل من أجل جلب حاجيات العائلة من أكل وشرب ولبس.

المعاناة تنعكس بشكل أساسي في حياة “أم غريب” التي تتكفل بأعمال البيت ورعاية عائلتها، وأكثر من هذا تتحمل مسؤولية “الدكان”

 

ختان البنات.. نزوع أنثوي

أما الطفلة “دنيا” الصغيرة التي تحلم بالتمثيل، فقط تحطمت هي الأخرى، حيث توقفت عن الدراسة، وأجبرت على العمل في المقهى بعد أن طلّق والدها أمها ورحل وتزوج بأخرى. وأكثر من هذا استعرضت مشكلة في غاية الخطورة وهي قضية الختان، حيث روت بالتفصيل كيف تم ختانها، بعد أن سئلت من طفلة أخرى سيحدث لها ما حدث لدنيا.

وقد اتُهمت المخرجة باستغلال هذه الطفلة وبراءتها لعكس صورة سيئة عن المجتمع المصري، ليكون ردها “في إحدى المرات بعد انتهاء التصوير وقبل سفري جاءت تطلب مني الحضور (تقصد دنيا) الشهر التالي لأنها ستجري ختانها، فزعتُ وحاولت إقناع والديها بإيقاف الأمر، حتى إنني استعنت بشيخ لإقناعهم بأن الفعل ليس من الإسلام. اقتنع الوالد فعلًا وسافرت على هذا الأساس لأعود فأكتشف أن دنيا استخدمت أموال الجمعية لتُجري الختان دون علم والدها. هنا كان من الضروري أن أضع الحكاية في الفيلم لأن الناس تعتقد أن الختان تعذيب يتم اختطاف الفتيات لإجرائه، لا يعلمون أنه عميق في الثقافة لدرجة أن الفتيات يطلبنه ويفخرن به باعتباره علامة نضج. أنا بالطبع ضده وسأعمل ما في وسعي لإيقافه، لكن من الواجب تصحيح هذا الفهم الخاطئ”.

مشاكل المرأة التي عكسها الفيلم لا تنتهي، من بينها مثلا مأساة العمة وبكاؤها في المقبرة واستنجادها بالأموات بعد أن عجز الأحياء عن مساعدتها، حيث تم طردها، وأصبحت تنام في الدكان رغم تقدمها في السن.

المخرجة افتتحت فيلمها بتثبيت كاميراتها على صورة سكك الحديد المحاذية لحي “روض الفرج”، في إشارة للألم والأمل

 

القطار.. حين يتحول إلى لازمة

افتتحت ريم صالح فيلمها بتثبيت كاميراتها على صورة سكك الحديد المحاذية لحي “روض الفرج”، وقد تتالت صورة القطار في الفيلم عدة مرات وبأشكال مختلفة، قطار ذاهب وآخر عائد وسكك حديد، وقُدمت هذه المشاهد أكثر من مرة وفي أوقات مختلفة مما جعل المعاني تتسع والجمالية تكبر، إذ قامت بتوزيع هذه اللقطات على أوقات مختلفة في الفيلم، فكل صورة تعكس حالة ما: الفرح والحزن، الألم والأمل، المستقبل والماضي واستمرار الحياة.

ومن المعروف أن القطار حين يسير لا ينتظر أحدا حسب المثل المعروف، فهو يسير في اتجاهه ولا يحفل بالعراقيل التي يمكن أن تواجهه، وكذلك هي حياة أهالي “روض الفرج”، وأكثر من هذا فقد جُسّدت حتى صفير القطار ودخانه ليصبح الأمر لازمة للفيلم ونقطة ارتكاز يتم العودة لها بين زمن وآخر؛ الليل والنهار أو مرحلة وأخرى. ناهيك عن استخراج جمالية شوارع الحي وزواياه التي جسد إطارات سينمائية غاية في الجمال؛ أبواب ونوافذ ومجاميع بشرية، أفراد في مختلف حالاتهم، بداية الإضاءة في الليل وبداية الصباح، عملية فتح المحال التجارية وإغلاقها، صوت الأذان والمسحراتي.

ومن هنا يمكن الاستنباط بأن المخرجة تعرف جيدا من أين يمكن لكاميراتها أن تتصيد الجمال، لأنها خَبِرت هذا الحي وعرفته جيدا. فريم صالح ممثلة ومخرجة ومنتجة لبنانية درست الإخراج وعلم النفس بجامعة لاو، وعُرفت ريم ممثلة قبل أن تتجه إلى الإخراج، وعملت في العديد من المسرحيات باللغتين العربية والإنجليزية، ومثلت في فيلم “لما حِكْيِتْ مريم” (2011) للمخرج أسد فولدكار، وهو الفيلم نفسه الذي عملت فيه مساعد مخرج، كما أخرجت العديد من البرامج الوثائقية للتلفزيون من بينها “عمالقة الطرب” و”محطات”.

عرض فيلم “الجمعية” في قسم البانورما بمهرجان برلين السينمائي في دورته الأخيرة، كما شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان الجونة السينمائي الذي استمر من 20 حتى 28 سبتمبر/أيلول 2018.


إعلان