“مانتا راي”.. وجع الروهينغيا على امتداد النهر

عبد الكريم قادري

 

ترجّل من قاربه بعد أن اجتاز النهر يمشي بخطى متثاقلة، يبحث بين الأغصان المتساقطة اليابسة على ما تعوّد أن يبحث عنه يوميا، قدماه الحافيتان تتنقلان في الوحل، عيناه تتحركان في كل الجهات وتمسح جميع الزوايا. لقد كان بين شاطئ النهر والغابة الخضراء الكثيفة يبحث ويبحث علّه يجد ما جاء من أجله، لكن هذه المرة ليست ككل المرات، إذ عثر على ما لم يكن في الحسبان، عثر على شخص ممدد على الوحل في لحظات موته الأخيرة. اقترب منه بحذر وتحسّس نبضه وقلبه، فوجد آثار رصاصة في قلبه، حمله واجتاز به النهر إلى أن وصل به إلى دراجته النارية، أخذه إلى كوخه وأسعفه، أطعمه وسقاه وتركه يستعيد جسده المنهك وذكرياته المشوشة.

يقدم الفيلم التايلندي “مانتا راي” (2018 – 105 دقائق) للمخرج بوتيفونج أرونفينج -الذي شارك في العديد من المهرجانات الدولية آخرها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ40 في الفرة من 20 إلى 29 من شهر نوفمبر/تشرين الأول- رؤية سينمائية غير تقليدية وذات بعد جمالي وإنساني، وذلك عن التمييز العنصري والتصفية العرقية التي تقوم بها عصابات منظمة من ميانمار بحق المسلمين الروهينغيا، حيث قضت على الكثير منهم، وهجّرت آخرين قسرا من أراضيهم وممتلكاتهم إلى بلدان الجوار.

قدّم المخرج بوتيفونج أرونفينج فيلمه هذا خدمة لهذه القضية الإنسانية التي شغلت الرأي العام الدولي ولا تزال، دون أن يتورط في الخطابية التي عادة ما تأتي على ألسنة الشخصيات في بعض الأفلام، أو المُباشَرة التي تقتل جمالية الفيلم وتحصر فرصه في زوايا ضيقة، وهي صفات سلبية ابتعد عنها هذا الفيلم الذي وجد طريقه لتقديم رؤاه بطريقة محترمة، مما حمّل فيلمه بعدا إنسانيا تجاوز مآسي الروهينغيا إلى مآسي العالم الأخرى، إذ يسهل إسقاطه على أي دولة أو نظام وفي أي فترة تاريخية كانت تنتهج التصفية الجسدية خدمة لأيدولوجيتها أو توجهها العام.

 

قلة الشخصيات.. رهان سهل وصعب في آن

يُعد المشهد المذكور في مفتتح الموضوع أعلاه بؤرة الفيلم ومرتكزه الأساسي، إذ كان بمثابة البطاقة التقنية للفيلم، كما مهّد الطريق للمُتلقي ليعرف ما الذي سيشاهده وبأي خصوص، كما سهّل من خلال هذا المنطلق عملية البناء السردي للقصة وتقديمها بطريقة سلسة ومفهومة، خصوصا وأنه لم يُشوش على نفسه بتنويع الشخصيات، بل ركّز على شخصيتين أساسيتين وعمل عليهما وقدم هذه القصة من خلالهما أو بواسطتهما، وهذا رهان سهل وصعب في الوقت نفسه، سهل لأنه لم يتعب نفسه بالتعامل مع العديد من الشخصيات، وصعب لأن قلة الشخصيات تفرض أن تُقنع المُشاهد بما يودّ المخرج أن يُقدمه، وهذا يعتمد على طريقة قوية في عملية إدارة الممثلين، وذلك لتقديم أحداث هذا الفيلم الذي تجري “قرب قرية ساحلية في تايلند وعلى مقربة من البحر حيث غرق الآلاف من لاجئي الروهينغيا، يجد صياد محلي رجلًا مصابًا فاقد الوعي في الغابة، ينقذ الصياد الشخص الغريب الذي لا ينطق بكلمة، يقدم له صداقته ويطلق عليه اسم ثونجتشاي، لكن عندما يختفي الصياد فجأة في البحر يبدأ ثونجتشاي رويدًا رويدًا في الاستيلاء على حياة صديقه ومنزله ووظيفته وزوجته السابقة”.

الروهينغيا.. أسئلة تنهش الذاكرة

يقدم الفيلم الكثير من الصور والمشاهد التي تعكس مآسي ما حدث للروهينغيا، ومن بين أكثر المشاهد ألما تلك التي عكسها “ثونجتشاي” بعد أن عثر على جثة رضيع مدفونة في الأرض، وهذا أثناء عملية البحث التي كان يجريها في الغابة عن الأحجار الكريمة، وهي من بين جملة المهارات التي علمه إياها الصياد، من ضمنها أيضا قيادة الدراجة النارية والقارب وشدّ النفس تحت الماء.

ومن هنا يترك الفيلم الكثير من الأسئلة دون أن يجيب عليها، من بينها هل كان الصياد الذي أنقذ الأخرس هو من بين الذين قاموا بأفعال التصفيات في حقهم؟ فهناك إيحاءات قوية في الفيلم تحيل على ذلك، من بينها ربان السفينة الذي يعمل معه الصياد حيث كان يشرف على عملية قتل ودفن أحدهم في الغابة، ناهيك عن القناع الذي كان يرتديه خلال اختفائه في كل مرة، حتى إنه قام بتصفية هذا الربان الذي لم يتركه بعد أن قرر التوقف عما كان يقوم به.

وقد كان إصرار المخرج المؤلف على زرع العديد من المثيولوجيات (علم الأساطير) في الفيلم، من بينها كمية الأضواء التي يهتم بها الصياد حيث يغطي كل جسده بها ويتجول في الغابة، ناهيك عن دأبه على البحث عن الأحجار الكريمة البراقة التي ينظفها ويرميها في البحر، لأنه يؤمن بأن رميها على الشاطئ سيجلب لها سمكة “مانتا راي” إلى الشاطئ بعد رحلاتها الطويلة في البحر، حيث ستستريح وتبقى طويلا إذا ما وجدت هذه الأحجار اللامعة.

المخرج “بوتيفونج أرونفينج” رفقة فريق العمل الذي قدم لوحة سينمائية في فيلم “مانتا راي”

 

التصوير والسيناريو والتمثيل.. لوحة ثلاثية

يقدم المخرج بوتيفونج أرونفينج هذه اللوحة السينمائية معتمدا على ثلاث خصائص أساسية، وهي التصوير للمصور “نواروفات رونجفيبونسوفيت”، والسيناريو الذي كتبه المخرج نفسه، وبدرجة أكبر التمثيل الذي عكسه كل من “وانلوب رانجكومجد” في دور صياد السمك و”أفيسيت هاما” في دور الأخرس “ثونجتشاي”، وبدرجة أقل الممثلة “راسمي وايرنا” بدور العاشقة.

وبالعودة إلى الخاصية الأولى فقد كان للماء والضوء والغابات دور أساسي في تأسيس الصورة جماليا، فكانت معظم المشاهد -خصوصا الخارجية منها- حصرا على هذه المواد؛ امتداد الأشجار في الغابة تتخللها خيوط النور التي تتسرب بين الأغصان، وسكون الماء في النهر وامتداده وتحركه في البحر، وتلونهما في عمق كل واحد فيهما، ناهيك عن انعكاس ضوء الأحجار الكريمة في كل من الماء والغابة، الماء نهارا والغابة ليلا، بالإضافة إلى عملية ضبط هذه اللقطات والمشاهد الثابتة أو المتحركة في فضاء ضيق وصعب من الناحية التقنية.

أما السيناريو فقد كُتب بطريقة تُوحي بأن صاحبه فنان تشكيلي يعرف موضوعه جيدا، ويعرف ماهية السينما ودورها، لأنه استطاع رغم صعوبة الموضوع أن يقدم فيلما سينمائيا يكاد يخلو من الحوار بين الشخصيات، فقط رَسْمٌ وبناء لمشاهد رتبها بطريقة منطقية، واستطاع أن يخلق لغة سينمائية تظهر البؤس والشقاء والحزن، وتروي القصة دون أي ثرثرة، خاصة وأن أحد شخصيات الفيلم وهو “ثونجتشاي”.

أما التمثيل فقد قدم أبطال العمل أدوارا غاية في الأهمية من خلال اللعب على الملامح التي تبين القسوة والحنان والشقاء والحزن والحسرة والندم، وهو ما يعني تدرجا في عمليات تقديم العواطف، وكل عاطفة جاءت مقنعة بشكل أساسي، حتى إن هناك تجسيدا للخواء العاطفي والروحي الذي انعكس على شخصية الصياد، وقد تم تثبيت هذا في المشهد الذي كان يرتدي فيه قناعا على وجهه، ويتوسط ناطحة سحاب لا تحتوي سوى أعمدة خرسانية وتنقصها الجدران والتأثيث، وهذا ما كان ينقص هذا الصياد الذي يمتلك أساسيات روحية تعكسها الطيبة والتضحية، لكنه يحتاج إلى التصالح مع الماضي وتصحيح الأخطاء لتغطية هذه البناية العارية.

فيلم “مانتا راي” من بين الأفلام المهمة التي أنتجت عام 2018، وقد شارك في العديد من المهرجانات الدولية من بينها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ40، حيث شارك في المسابقة الدولية وحصد جائزة الهرم الفضي، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة لأفضل مخرج مناصفة مع فيلم “دونباس” إخراج سيرجي لوزنتسا (ألمانيا، أوكرانيا، فرنسا).


إعلان