“الكيلو 64”.. وثائقي بعيد عن الطرق الممهدة

خاص-الوثائقية

الخط الأساسي للفيلم يمثل إحدى أهم نقاط جاذبيته، فصار من الشائع أن نسمع أن أحد خريجي كليات القمة قد تمرد على مجال دراسته وأنشأ مشروعًا في مجال مغاي

في ظلّ نظام تعليمي يعتمد على التلقين المباشر والحفظ الخالي من الإبداع، لا يجد معظم الطُلاب المساحة الكافية لاستكشاف أنفسهم والأشياء التي يحبون، لذا فقد صار من الشائع أن يجد أكثر من خريجٍ حديثٍ أن الشيء الذي أنفقه لتوّه من أربع إلى ست سنوات من عمره في تعلمه لا يمتّ لاهتماماته بصلة.  ومن هنا يجد نفسه في حاجة لأن يقطع رحلة جديدة يضع خلالها قدمه على أول الطريق في المجال الذي يحب.

 

وائل.. من الصيدلة إلى العمل الحُرّ

يتتبع وثائقي “الكيلو 64” الرحلة الصعبة لواحد من أولئك الشباب، من طريق الوظيفة السهل المرصوف إلى طريق العمل الحر المليء بالعقبات. هذا الشاب هو وائل الشناوي خريج كلية الصيدلة، والذي قرر ترك المعامل الكيميائية والذهاب إلى الكيلو 64 في طريق مصر إسكندرية الصحراوي، وهناك اختار وائل أن يخلع رداء الصيدلي ويتخلص من لقب الدكتور في سبيل شغفه الذي اكتشفه مُؤخرًا -في عامه الأخير من الكلية كما أدلى في أحد اللقاءات[1]– بالعمل الحر.

عاد وائل لأرض والده القديمة التي اشتراها منتصف التسعينيات بغرض استصلاحها وزراعتها، وقرر البداية من حيث انتهى والده. لم يُثبط من عزيمته حينها أن مشروع والده قد باء بالفشل قبل كل تلك السنين، ولم يقلل من عزيمته فكرة أنه يخطو بقدمه للمرة الأولى في مجال لا خبرة له فيه، وهكذا بدأ بمساعدة الأهل والأصدقاء في رحلة غير مُتوقعة صاحبته في بدايتها الآمال العالية، وتخللها طوال الوقت الكثير من الصعاب.

تحوّل الجو الماطر على سبيل المثال بالنسبة لوائل من شيء يحبه إلى باعث على القلق والمخاوف، فالأمطار والرياح الشديدة قادرة على تدمير الصوّب (البيوت أو المزارع البلاستيكية) التي تنمو داخلها النباتات، مُضيعة معها مجهود شهور متتالية، وكلفة أموال طائلة لإصلاحها مجددًا. لكن العقبة الأصعب التي واجهها وائل لم تتمثل في الظروف الطبيعية بل في التجار؛ فالمحصول الذي يكلفه الكثير من المال حتى يزرعه بجنيه واحد يرفض التجار شراءه إلا بأقل الأسعار، أسعار لا تُغطي حتى كلفة الإنتاج، ثم يبيعونها بأثمان مرتفعة ويجنون أرباحًا كبيرة من ورائها تاركين أصحاب الأراضي يواجهون خسائر مالية فادحة. في مواجهة تلك الصعاب يتسرب الشكّ أكثر من مرة إلى نفس وائل متسائلا هل أنا شخص جريء حقًا، أم محض مُتهور؟

أمام تلك العقبات سيكون من الصعب علينا التنبؤ بالنهاية التي سيلقاها وائل في نهاية رحلته، سواء بالنجاح أو الفشل، لكننا نعرف على الأقل أن الفيلم الذي صوّر ونقل تلك الرحلة لنا قد أصاب النجاح في مهمته على أكثر من صعيد، وإن احتاج شيئا من التدقيق في بعض النقاط.

وثائقي "الكيلو 64" يتتبع الرحلة الصعبة لواحد من أولئك الشباب، من طريق الوظيفة السهل المرصوف إلى طريق العمل الحر المليء بالعقبات

الكيلو 64.. فيلم عائلي

يمثل الخط الأساسي للفيلم إحدى أهم نقاط جاذبيته، فصار من الشائع أن نسمع أن أحد خريجي كليات القمة قد تمرد على مجال دراسته وأنشأ مشروعًا في مجال مغاير، لكن قليلًا ما يتسنى لنا رؤية ومعايشة من قام بهذا وفهم طريقة تفكيره. غير أن الفيلم لم يستغل تلك النقطة بالشكل الأمثل، فلم يوضح لنا مثلًا الدوافع التي وقفت وراء ما فعله وائل ولا الأسباب التي جعلته يختار الزراعة دون غيرها من المجالات لكي يشق لنفسه طريقًا بها، كما لم يُطلعنا بالشكل الكافي على حياته واهتماماته قبل ذلك المشروع حتى نشعر بالفارق الذي طرأ عليها بسببه. وعلى الجانب الآخر فقد أجاد الفيلم سرد أحداثه دون أن يُشعر المُتفرج أي اتجاه ستتخذه النهاية، كما نجح في خلق أجواء من الصدق والتلقائية منذ بدايته وحتى النهاية.

فمنذ اللحظة الأولى يخلق “الكيلو 64″ حالة طبيعية من الحميمية، فقبل حتى أن نرى شيئًا على الشاشة يتصاعد لأسماعنا صوت إذاعة القرآن الكريم، ذلك الصوت المميز لبيوت عائلات الطبقة المُتوسطة المصرية، ومن ثم تتلوه لقطات من قلب واحد من تلك البيوت؛ بيت وائل بديكوراته البسيطة المألوفة، حيث طاولة السفرة تتوسط الصالة و”النيش” (خزانة الأطباق) في أحد الأركان.

يؤسس الفيلم بتلك اللقطات للروح التي ستستمر وتسيطر على الفيلم بأكمله من بعدها، حيث يشعر المُشاهد -خاصة إذا كان شابًا- بسهولة التماهي مع القصة التي يراها ومع بطلها. وعلى مدار الفيلم أيضًا تأتي الكثير من المشاهد التي تقوّي من إحساس المُتلقي بتلقائية وحميمية ما يرى، فيُحدّث المخرج والدة وائل في أحدها وهي بملابس البيت تجلس على الطاولة مُنهمكة في لفّ أصابع المحشي، وفي واحد آخر تطوف الكاميرا مع وائل الشوارع الملاصقة لبيته بعد صلاة الجمعة.

يعزز تلك الروح بشدة استخدام المخرج للكاميرا المحمولة التي يضفي اهتزازها إحساسًا بأن ما نراه تم تصويره بكل تلقائية، ولم يتم التخطيط له ولا ترتيبه بشكل مُسبق، مما يُقوي أيضًا شعور المتلقي بصدق ما يرى. وتلعب والدة وائل ببساطتها وتلقائيتها دورًا في شعورنا بالأُلفة مع الفيلم، فيستطيع أي منّا أن يرى في طريقتها في التفكير والحديث صورة من والدته، إلا أن القليل من المشاهد كان من الواضح أنه تم الترتيب لها بشكل مُسبق، ومع إضافة أن تلك المشاهد لم تكن ضرورية في متن القصة ولم تضف الشيء الكثير، يصبح من الأفضل لو أنها حُذفت من الأساس.

لا نعرف سوى في منتصف الأحداث أن مخرج الفيلم أمير الشناوي هو في الحقيقة أخو البطل؛ يفسر هذا ما رأيناه على مدار النصف الأول من أريحية الشخصيات وتبسُّطها في الحديث مع المخرج، كما يوضح لنا سر شعورنا بمثل تلك الحميمية، حيث يعتبر هذا “فيلم عائلي” إن جاز التعبير.

الفيلم عُرِض للمرة الأولى في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الأربعين، وكان الفيلم الوثائقي الوحيد المشارك ضمن فعاليات "آفاق السينما العربية"

الكيلو 64.. تيار حداثي ونزعة ذاتية

وفقًا لمقال للمخرج التسجيلي المصري الكبير “هاشم النحاس”، فإنه يمكننا أن نضع فيلم “الكيلو 64” تحت إطار ما أسماه بـ”تيار السينما المصرية التسجيلية الحداثية”، وهو ما كتب عنه الآتي “في مقدمة سمات هذا التيار -إلى جانب حداثيته الزمنية- اعتماد أصحابه على العمل بنظام الديجيتال الذي أتاحت أجهزته الخفيفة والصغيرة حرية أوسع للحركة بالنفاذ إلى موضوعات جديدة لم يكن من الممكن معالجتها عن طريق وسائل التصوير التقليدية، ومن سمات هذا التيار الاعتماد على نظام الإنتاج المستقل الذي أتاح للمخرج حرية أوسع في التعبير عن أفكاره، بعيداً عن شروط الإنتاج التجارية التي يفرضها نظام الإنتاج القديم”.[1]

وقد طرح هاشم النحاس أعمالا حديثة لمخرجين شباب كأمثلة لذلك التيار مثل “أم غايب” لنادين صليب، والذي يتبع سيدة في الأرياف تعجز عن الإنجاب، ويتناول حياتها والضغط المجتمعي الذي تتعرض له نتيجة لإصابتها بالعقم، وفيلم “هدية من الماضي” لكوثر يونس التي تحاول فيه المخرجة ترتيب لقاء بين والدها وبين حبيبته الإيطالية بعد افتراقهما منذ 35 عامًا.

ويستطرد النحاس حديثه عن هذا التيار قائلًا “إن أهم ما يمكن أن نميز به هذا التيار، هو اتجاهه إلى التعبير الذاتي، ويتمثل في حرية اختيار المخرج لموضوعه بعيدا عن الاختيارات المؤسساتية كما في عموم الأفلام التسجيلية السابقة، وهذه السمة الأخيرة هي السمة الحاسمة التي تجمع كل ما ينطوي داخل هذا التيار وتفصله عن كل ما سبقه”.[2]

بتلك السمات التي طرحها هاشم النحاس يمكننا أن نضع فيلم “الكيلو 64” ضمن ذلك التيار الحداثي، فيظهر فيه بوضوح تلك النزعة الذاتية في اختيار الموضوع وتصويره، والتي أتاحها استخدام المخرج لكاميرات الديجيتال القليلة الكلفة.

عُرِض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الأربعين، وكان الفيلم الوثائقي الوحيد المشارك ضمن فعاليات “آفاق السينما العربية”.

[1] الحياة اليوم قصة كفاح طالب صيدلي.. وائل الشناوي صيدلي يترك الصيدلة ويختار مستقبله في الزراعة
https://www.youtube.com/watch?v=yBWg7JIzQoA


إعلان