“سوف يحبونني حينما أموت”.. عن أعظم فيلم لويلز ممنوع من العرض

على الرغم من الحداثة الزمنية للولايات المتحدة الأميركية، فإنّ وَلَعَها بالتوثيق يفوق أي دولة أوروبية موغلة في القِدم، فهم يوثّقون كل شيء في بلدهم المترامي الأطراف، فما بالكم برصد وتسجيل كل صغيرة وكبيرة تتعلق بحياة المُبدعين في الفنون القولية وغير القولية.
هذا الشغف بالتوثيق لا يقتصر على المؤسسات الثقافية للدولة بحد ذاتها، وإنما يمتدّ إلى الفنانين والمثقفين أنفسهم، فكل واحد منهم يرصد الآخر ويوثق له منجزه الإبداعي ومسيرته الثقافية والفنية، تمامًا كما فعل المخرج الأميركي مورغان نيفيل الحائز على جائزة الأوسكار عن فيلم “20 عامًا من النجومية” عام 2014، فقد رصد مواطنَهُ وزميله في المهنة المخرج المتعدد المواهب أورسن ويلز، والذي اعتبرته مؤسسة الأفلام البريطانية “أهمّ مخرج سينمائي في التاريخ”، كما اعتبره الموالون والمناوئون لتجربته الإبداعية “أهمّ فناني الدراما في القرن العشرين”، وأكثر من ذلك فقد استقر رأي النقاد على أنّ فيلم “المواطن كَين” (1941) هو من أهمّ الأفلام في تاريخ السينما، وأنّ فيلم “آل أمبرسون الأجلاء” (1942) هو تُحفة فنية من دون شك لا يملّ المتلقي من مشاهدتها مرارًا وتكرارًا، وأن أفلامه الأخرى هي دروس في الفن السابع الذي أحبّه ويلز وكرّس له كل حياته، إذا ما استثنينا الهامش الضيّق الذي تركه لحياته الشخصية ومغامراته العاطفية التي لفتت الأنظار.
لم يكن مورغان نيفيل اسمًا طارئًا في المشهد السينمائي الأميركي، فقد أنجز 18 فيلمًا سينمائيًا وتلفازيًا مهمًا يؤكد بصمته الإخراجية في السينما الوثائقية، وأراد أن يعزّز رصيده بفيلم إشكالي يروي فيه القصة المثيرة لأورسن ويلز خلال الـ15 سنة الأخيرة من حياته، وذلك عندما عاد الأخير من مهجره الأوروبي عام 1970 بعد أن أمضى فيه عقدين من الزمان، وجاء بمشروع فيلم أسماه “الجانب الآخر من الرياح” الذي اشتغل عليه ويلز لسنوات طوال، وهو يتمحور على مخرج عجوز يحاول أن يُنهي فيلمه الرائع الأخير.
تركّز هذه الدراسة النقدية على الفيلم الوثائقي المعنون “سوف يحبونني حينما أكون ميتًا” للمخرج مورغان نيفيل الذي أنهمك في فحص وتدقيق وملاحقة كل التفاصيل الدقيقة ليس لفيلم “الجانب الآخر من الرياح” فحسب، وإنما لمعظم آراء وأفكار ومواقف نظيره أورسن ويلز التي جاءت في سياق الفيلم وكأنها محطات رئيسية في سيرته الذاتية والإبداعية.
أورسن ويلز.. سيرة ذاتية بامتياز
ضمن فيلم “سوف يحبونني” لمورغان نيفيل وصف العديد من النقاد فيلم “الجانب الآخر من الرياح” بأنه سيرة ذاتية، رغم أن ويلز أنكر ذلك بحجة أن الثيمة الرئيسية للفيلم تدور حول الحب والصداقة وخيانة الأصدقاء لبعضهم البعض، وهذا صحيح، لكنه لم يمنع الفيلم من الوقوف عند عدد كبير من محطات سيرته الذاتية التي أضفت عليه نكهة محبّبة، وجعلته قريبًا من المتلقّي الذي يتحرّق شوقًا لمعرفة كل الجوانب السريّة التي خبأها ويلز، أو لم يقلها علنًا في حياته لأسباب اجتماعية وأخلاقية.
وفيلم مورغان الذي نحن بصدده لا يهمل هذه المحطات أو العلامات الفارقة في سيرة ويلز الإبداعية، فسوف نفهم أن أورسن ويلز كان عبقريًا منذ ولادته تقريبًا “فقد كان يقرأ في سنّ الثانية، ويؤدي مسرحيات شكسبير في العاشرة من عمره”.
لم يتمّ التطرّق إلى زوجتيه فرجينيا نيكلسون وريتا هايوارث، لكن ابنته بياتريس تحدثت عن والدتها الأرستقراطية الإيطالية باولا موري بشكل عرضي، وربما أخذت عشيقته الكرواتية أويا كودار حصة الأسد من الحديث والظهور في الفيلم لأنها كانت ممثلة وكاتبة، وقد لعبت دورًا محوريًا في أفلامه التي أخذت منحى إيروتيكيًا (مثيرا للشهوة الجنسية) ما كان له أن يتحقق لولا جرأتها التي تجاوزت كل الحدود المرسومة آنذاك.
يركز الفيلم أيضًا على حياته الأسرية حيث ماتت أمه بياتريس إيفز ويلز في عيد ميلاده التاسع، وتوفي والده عندما بلغ أورسن سن الخامسة عشرة، ليشق طريق حياته الفنية في السينما والمسرح والإذاعة والتلفزيون من دون صعوبة تُذكر، حتى إنه أخرجَ “المواطن كين” -وهو أول فيلم طويل له- وهو في سن الخامسة والعشرين، ونظرًا لأهمية هذا الفيلم شكلاً ومضمونًا فقد عدّوه تحفة القرن العشرين، آخذين بعين الاعتبار أنه أُنجز قبل قرابة ثمانية عقود من الوقت الحاضر.
يتوقف فيلم “سوف يحبونني” في سياقه السردي عند بعض أفلام ويلز المنجزة، من بينها “لمسة شيطان” و”السيدة من شنغهاي” و”المحاكمة”، إضافة إلى الأفلام المهمة التي ذكرناها سابقًا. أما الأفلام غير المنجزة فهي “دون كيشوت” و”تاجر البندقية” و”الجانب الآخر من الرياح”، والتي يعدها بعض النقاد أهم الأفلام غير المعروضة لويلز، ولعلها تنطوي على رؤيته السينمائية وخلاصة أفكاره التي يعمل عليها في كل أفلامه، وهي الحُب بمعناه الأوسع والصداقة الحميمة، وفكرة الخيانة التي يتردد صداها في مجمل تجربته الفنية المثيرة للجدل. فيلم ويلز هو من أفلام السيرة بامتياز، وفيلم مورغان نيفيل الوثائقي “سوف يحبونني” يرصد جانبًا من هذة السيرة، وإن كان يركز في جوهره على فيلم “الجانب الآخر من الرياح” الذي ظلّ حبيس الأدراج لمدة زمنية طويلة بسبب حقوق الملكية، والتي تعود للمنتج وليس لمخرجه، الأمر الذي حرّض مورغان نيفيل على التحايل بطريقة فنية وقانونية ليُخرج وثائقيًا حُرًّا من فيلم أسير. وإنّ منْ يقرأ هذا المقال يظن أنه كُتبَ عن “الجانب الآخر من الرياح” وهو كذلك، لأن تفكير مورغان كان مُنصبًا على الفيلم خاصة وصانعه بشكل عام، لأن هذا الوثائقي لم يغادر هذين المحورين اللذين يحتاجان إلى العديد من الأفلام الوثائقية كي تفي أورسن ويلز حقه، وتمنحه المكانة التي تليق به في المشهد السينمائي العالمي.

المخرج مورغان.. هوليود تنفيه رغم رسوخه
يتميز المخرج مورغان نيفيل بدأبه ونَفَسه الطويل ورغبته في الوصول إلى قاع الأشياء وجذورها، لذلك انتدب العديد من الشخصيات كي تدلي بدلوها، وحينما شعر ببعض الفراغات في فيلمه الوثائقي لجأ إلى ترميمها بالمعلومات الأرشيفية لأربع شخصيات مهمة ومعروفة على الصعيد الفني، وهي المخرج والممثل نورمان فوستر، والممثل والمونتير دينيس هوبر، والمخرج والممثل جون هيوستن، وأورسن ويلز صاحب المواهب المتعددة إخراجًا وإنتاجًا وتأليفًا وتمثيلاً.
أما الشخصيات الرئيسية الأخرى والمؤازرة التي اشتركت في الفيلم وكوّنت بنيته السردية فهي؛ بيتر بوغدانوفيتش وغاري غرَيفَر ومستر هانافورد وهنري جاغلوم وأويا كودار وأندريه فنسنت غومَير وسيبيل شيبرد وبياتريس ويلز، وغيرهم من الشخصيات التي أثْرت القصة السينمائية بآرائها ونقاشاتها العميقة على مدار الفيلم (مدته 98 دقيقة).
وإذا وضعنا السنوات الـ15 جانبًا التي كان يرصد فيها مورغان نيفيل شخصيته الرئيسية أورسن ويلز، فإنه كان يدقق في كل معلومة تقع بين يديه، مستفيدًا حتى من نشرات الأخبار وهي تقدّم معلوماتها المقتضبة والمركزة عن شخصية ويلز، فتصف مسيرته المهنية تارة بالواعدة جدًا، وتارة أخرى تتأسف على سنواته اللاحقة التي شعر فيها باليأس والانكسار. ولعل هذا الخبر الميتا سردي (ما وراء الرواية) يضع المتلقين أمام الانعطافة الأولى للفيلم، بأنّ هذا النجم الساطع قد انتكس أو خبا بريقه على الأقل، وهذا يعني أن المؤسسة الهوليودية قد طعنته في الظهر وخانته بمعنى من المعاني، وهي التي دفعته إلى الهجرة إلى المغتربات الأوروبية، لأن هذه الأخيرة لا يمكن تسميتها بالمنافي، فهي الأصل والمركز بالنسبة إلى أمريكا التي تبدو وكأنها انبثقت من فراغ، أو ظهرت إلى الوجود بسبب مصادفات غير متوقعة.
يتمحور فيلم مورغان حول نظيره “الجانب الآخر من الرياح” لويلز، ويتابع نموّه وكل التطورات التي حدثت بين دفّتيه، فهو يمثّل رؤية ويلز لنفسه خاصة عندما يُسأل عن فيلم جديد له، ويُقارَن دائمًا بفيلم “المواطن كَين” الذي تحوّل إلى ما يشبه اللعنة الأبدية التي تُطارده أينما حلّ أو ارتحل.
فهو يريد من أفلامه اللاحقة أن تسطّر التاريخ وأن ترتقي إلى تحفه الأولى، وهو يرى بيقين تام “أنّ الأشياء العظيمة في الأفلام هي الحوادث السماوية”، وأن تعريفه الدقيق للمخرج السينمائي هو “الرجل الذي يدير الحوادث” ويعانقها بمحبة كبيرة. وعلى الرغم من جديته المفرطة فإن هوليود نفتهُ من جنّتها الأرضية، خاصة بعد فيلم “لمسة شيطان” (1958) فلم يقترب منه أحد، كما نسيت الصحافة الشعبية أمره، ولم يتهافت الناس للعمل معه رغم شهرته ورسوخه في ذاكرة الناس، والهلع الذي سبّبه لهم حين عرض حلقة من “حرب العوالم” التي صوّر فيها إمكانية غزو الكائنات الفضائية لكوكب الأرض وتدميره، أو السيطرة على ثرواته الأساسية. بعد أن بدأت هوليود الجديدة عام 1966 مع مخرجين من أمثال فرانسيس فورد كوبولا وبراين دي بالما ومارتن سكورسيزي، وتغيّرت في السبعينيات، كان الجميع يكنّون احترامًا كبيرًا لأورسن ويلز الذي يعتبرونه بمثابة معلّم الزمن الذي يُدرِّس تلامذته ومريديه على التأمل الروحي.
المواطن كين.. الفيلم الذي نكب ويلز
حدثت في حياة ويلز مصادفات غريبة في لقائه ببعض الشخصيات الأساسية مثل المصوّر الأميركي غاري غريفَر الذي صوّر كل ما أخرجَه أورسن خلال السنوات الـ15 الأخيرة من حياته، فقد قرأ غريفَر في مجلة “فارايتي” أن أورسن ويلز يقيم في فندق بيفرلي هيلز، فاتصل به من فوره وأخبره بأنه مصوّر يروم العمل معه، فوافق ويلز شرط أن ينجح غريفَر في بعض الاختبارات، وحين اكتشف جديّة هذا المصور وحماسه اللامحدود وافق في الحال، وأخبره بأنه ثاني مصوّر يطلب العمل معه، حيث سبقه إلى هذا الطلب المصور كريغ تولاند الذي صوّر فيلم “المواطن كَين” وبرع فيه، ومنذ تلك اللحظة التي اعتبرها ويلز مجلبة للحظ والسعد بدأ التصوير معه في فيلم “الجانب الآخر من الرياح”.
وبما أنّ ويلز يولي النمط السردي اهتمامًا كبيرًا ويُراهن على بناء الفيلم بطريقة فنية غير مألوفة آنذاك قائمة على ثنائية الاسترجاع والاستشراف، فإنه استعمل تقنية “فيلم داخل فيلم” أو كما ذهب البعض حينما قسّموا الفكرة إلى جزأين أساسيين؛ الأول هو قصة آخر يوم في حياة المخرج، والفيلم الذي صنعه المخرج وتوقف بسبب قلّة التمويل وشحّ السيولة المادية لديه. تسير هاتان القصتان في وقت واحد، لكنّ المعنى العميق يدور حول هذا المخرج العجوز الذي أحبّه الجمهور الأمريكي، لكن هوليود رفضته في لحظة غامضة، وأجبرته على اختيار المهجر الأوروبي كحلٍ بديل لانكساره الطويل الذي سبّبته مواقفه الأخلاقية الثابتة، والتي حارب فيها رموز الصحافة الأمريكية وحيتان رؤوس الأموال، ومع أن “المواطن كين” قد عُرض في الأربعينيات وأعيد اكتشافه في الخمسينيات، فإن مخرجه دفع الثمن غاليا وغادر بلاده مضطرا، وحينما عاد لم تكن طريقه معبّدة أو مفروشة بالزهور.
لا تقِل مصادفة بيتر بوغدانوفيتش غرابة عن سابقتها، فهو فضلاً عن كونه مخرجًا ومُنتجًا وكاتبًا وممثلاً، فإنه ناقد ومؤرخ سينمائي ينتمي إلى موجة هوليود الجديدة التي أشرنا إليها سلفًا، وقد أراد أن ينجز كتابًا عن أورسن ويلز لكن المشروع تعثّر قليلاً. ثم دار بينهما حوار أوضح فيه أورسن بأنه عجز عن النوم في الليلة الماضية لأنه كان منغمسًا بفكرة فيلم “تدور بين مخرج سينمائي طاعن في السن، ومخرج شاب يتفجّر حيوية ونشاطًا، لكن الخيانة تُفسد صداقتهما الحميمة”، تتردد أصداء هذه الثيمة على مدار الفيلم ولا تغادر مفاصله العديدة المتشابكة.

ويلز يتوارى خلف الأقنعة
لا يقتصر هذا الوثائقي على أفلام أورسن ويلز فقط، وإنما يتعداه إلى أفلام غالبية الشخصيات المشاركة فيه، خاصة وأن معظمهم يجمع بين خمسة أو ستة اختصاصات، فثمة إشارة إلى أفلام متعددة لبوغدانوفيتش مثل “آخر معرض صور” و”نيكولوديون”، وغيرها من أفلامه المعروفة. ولا شكّ في أن أورسن ويلز كان ممثلاً متمكنًا من أدواته الفنية، ويمحض التمثيل ذات الدرجة من الحب لمواهبه الإبداعية الأخرى، وكان يمتلك صوتًا مميزًا يُحيل إليه مباشرة وكأنه علامة فارقة.
ما يكشفه فيلم مورغان أن ويلز كان يختبئ دائمًا وراء أقنعة متعددة، ولعل أبرزها أنفه الاصطناعي الأكبر حجمًا من أنفه الحقيقي الذي لا يحبّه ويراه بشع المنظر، بينما يرى الآخرون أن أنفه الحقيقي جميل، لكن أورسن لا يفضّله على أيّة حال، وقد قال غير مرة بأنه اختفى طوال حياته وراء الأقنعة، وصنع بها حاجزًا لإخفاء أورسن الحقيقي.

أويا كودار.. والمشهد الأيروسي
تحتل الممثلة والكاتبة الكرواتية أويا كودار مكانة مهمة في حياة أورسن ويلز، فهي النجمة المتألقة واللافتة للانتباه وحبيبته المقرّبة جدًا، بل وصفها البعض بأنها الحُب المهيمن في حياته، لكنها كانت بمنأى عن النقد والتجريح حتى لو اقترفت الأخطاء.
ثمة جُمَل شديدة الأهمية وردت على لسان “أويا” مفادها “أن أورسن كان تجسيدًا للرياح نفسها، لكنني عرفت الجانب الآخر من هذه الرياح التي لها القدرة على مداعبتك ورفعك إلى الأعلى، وجعلك ترقص”. وعلى الرغم من البحث الطويل الذي أجراه مورغان والنبش الطويل في التفاصيل، فإن هناك نقاطًا مُبهمة لم تفلح حتى ابنته بياتريس في فضّها وإزالة غموضها بصدد الحياة المزدوجة وغير المعقولة لوالدها الراحل، وتساءلت في نفسها قائلة “لماذا ظلت أمي مرتبطة بأبي رغم علاقاته المفضوحة، هذا ما لم أعرفه، ولن أعرفه أبدًا”.
استمر المشهد الإيروسي (الرغبة الجنسية الشديدة) الطويل داخل الفيلم لمدة سبع دقائق، وقد أعجب الكثير من النقاد السينمائيين، وذلك لما ينطوي عليه من لمسات فنية تتمحور على الحُب والتواصل العاطفي والرغبة الجسدية. والمُلاحَظ أن أفلام ويلز السابقة كانت تتسم بالعفة لأنه كان يظن بأنها لا تحتاج إلى التعرّي، كما يعتقد بأن الجنس الصريح يُلهي المتلقي عن الفن الحقيقي، ولا يُظهر إلاّ جانبًا شحيحًا من الخيال.
وقع اختيار ويلز على جون هيوستن لتأدية دور المخرج العجوز وذلك لأسباب عديدة، فهيوستن نجم معروف وأيقونة سينمائية محبوبة، كما أنه صديق ويلز المفضل، وكانا يتناغمان في الكثير من المواقف والرؤى الفنية، كما أن أورسن ملأ فيلمه بشخصيات معروفة في الوسط الفني الأميركي مثل السينارست جون ميليوس، والناقدة السينمائية بولين كيل، والممثل ريتش ليتل.
أما الحفل الذي أشرنا إليه في بداية المقال فهو حفل عيد ميلاد جيك هانافورد؛ المخرج السبعيني الذي مات في نهاية الاحتفال، وكانت هناك أسئلة عديدة فيما إذا كان موته حادثة طبيعية أم انتحارًا، وهذه الأسئلة تعيدنا إلى السيرة الذاتية لأورسن ويلز الذي كان يعتقد بأن والده مات منتحرًا ولم يمت موتًا طبيعيًا.
كان بوغدانوفيتش يعتبر ويلز ملهِمهُ، ويتمنى لو أنه أخرج فيلمه الأول وهو في سن الخامسة والعشرين مثل ويلز لكنه تأخر عنه بعامين. وعلى الرغم من الفارق الهائل بين المُخرجَين، فإن المتدرِّب تغلّب على مدربه وصارت لديه أربعة أفلام متتالية تجني أرباحًا تقترب من الثلاثين مليون دولار، عند ذلك أيقن ويلز باستحالة أن يكون الجميع معلّمين، ولا يمكن أن يُتّبع كل المعلمين بصدق.
“الجانب الآخر من الرياح”.. فيلم برسم العرض
أثار فيلم “الجانب الآخر من الرياح” العديد من الإشكالات أبرزها في جانب التمويل، فقد وصف الناقد بيتر بارتيل الفيلم بأنه “مسعى بائس يتشاطره أناس بائسون”، وقد أفضى هذا الرأي القاسي إلى تأخر الإنتاج، كما أصبح الممولون والكادر مضطربين لا يعرفون كيف يمكنهم أن يتجاوزوا هذه المعضلة التي وجدوا أنفسهم في مواجهتها.
يكشف فيلم مورغان بأن المصور الكبير غاري غريفَر اضطر لتصوير أكثر من مئة فيلم إباحي كي يؤمّن هاجس الطعام ويسدد احتياجاته اليومية، لكنه لم يضع اسمه على هذه الأفلام، وإنما لاذ باسم مستعار وهو أغدوف تلميغ، والذي يُقرأ بالمقلوب غمليت فودكا، ونظرًا للجهود الكبيرة التي كان يبذلها غريفر فقد انهار أكثر من مرة بسبب الإعياء.
حضر المنتج الأسباني أندريس غوميز من جهة لدعم هذا الفيلم، لكن حجم الدعم لم يكن كافيًا، ثم وعدهم بربع مليون دولار لكنه لم يفِ بوعده، وقيل إنه هرب بهذه الأموال لكنهم لم يجدوا دليلاً دامغًا ضدّه. لقد سُدت كل الطرق بوجهه، حتى إن المنتج الرئيسي نسيب الشاه المخلوع قد قاضاهم بعد الثورة الإسلامية، وكسب القضية لأن الفيلم أصبح ملك المنتج لا المخرج بحسب القوانين الفرنسية، فأودع الفيلم في أحد الأقبية الباريسية وظلّ حبيسًا حتى يومنا هذا.
وعودا على بدء، كانت الخيانة هي الثيمة الرئيسية التي تتمحور عليها أفلامه؛ خيانة الصديق لصديقه الحميم وخيانة القيم التي نؤمن بها، هذا إضافة إلى الكمية الكبيرة من الأخطاء التي نرتكبها، فمن المستحيل أن يعيش الإنسان من دون اقتراف الكثير من الأخطاء.
واجه أورسن مصيره المحتوم، وكان أكثر المؤبِّنين حزنًا عليه هو المصور غاري غريفَر، فقد بدا مُنهارًا مكسور الفؤاد، ولعل الشيء الغريب أنه وضع رفات أورسن ويلز في صندوق سيارته لعام ونصف، ولم يكن يعرف أين ومتى سيدفنه.
الكثير من الأصدقاء والمقرّبين ومحبي الفن السابع يريدون مشاهدة “الجانب الآخر من الرياح” لأنه في نظرهم أعظم فيلم لأورسن ويلز لم يُعرَض قط، وظل غامضًا ويحتاج لمن يفسّره تفسيرًا علميًا يقبل به العقل والمنطق، كما كان ويلز يحلم بتحويل “الجانب الآخر من الرياح” إلى فيلم وثائقي، وكان يتمنى من أعماقه أن يكون الجميع من مختلف الأعمار والمرجعيات جمهوره الذي يتابع أفلامه ويستمتع بها، ويفيد منها في الوقت ذاته.
يبدو أن حرص مورغان نيفيل وإخلاصه للتجربة السينمائية لنظيره أورسن ويلز هي التي دفعته بقوة لإنجاز فيلم “سوف يحبونني حينما أكون ميتًا”، وهو بمثابة تحية لويلز ولأفلامه التي ترسّخت في ذاكرة المحبّين والمُعجبين برؤيته الفنية وخطابه البصري الذي سيصمد أمام تقادم السنوات.