ليلة الاثني عشر عاما.. الدكتاتورية تُهزم ولو بعد حين

محمد علال

 

لم يمر على الدورة الأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي التي استمرت من 20 إلى 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2018 فيلم موجع كهذا الذي جاء به المخرج الأوروغوياني الشاب ألفارو بريخنر (42 عاما) الذي يحمل عنوان “ليلة الاثني عشر عاما”، لقد جعل معظم من كانوا في القاعة أثناء عرضه ضمن المسابقة الرسمية يفجرون أنهارا من الدموع الحارقة تعزّي الوجع الذي عاشه ثلاثة رجال من المعارضة الأوروغوانية في سبعينيات القرن الماضي. وبهذا استحق العمل الفوز بثلاث جوائز منها الجائزة الكبرى “الهرم الذهبي”.

في يوم موحش جدا بالدكتاتورية في أوروغواي، وبعد أن استولى الجيش على السلطة عام 1972، تم اعتقال كل من خوسيه موخيكا (الممثل أنطونيو دي لا توري) وموريسيو روزنزوف (الممثل شينو دارين) وألتيريو فرناندز (الممثل ألفونسو تورت)، ولم يُطلق سراحهم إلا سنة 1984 عندما اندلعت احتجاجات واسعة النطاق ضد النظام العسكري أعادت الحكم المدني. هكذا يضعنا الفيلم أمام رهان كبير جدا، إما تفهم وجهة نظر الحكم الدكتاتوري العسكري وهو يقطع الطريق أمام من اعتبرهم “وحوشا” بشرية تود الفتك بالنظام، وإما أن نتجه نحو التعاطف مع هؤلاء الرجال.

 

سجن انفرادي صامت.. الطريق للجنون

كما يوحي العنوان؛ يمكث هؤلاء الثلاثة في السجن الانفرادي لمدة اثني عشر عاما، وقد أصدرت المحكمة العسكرية قرارا وحشيا جدا، فالمطلوب من المعتقلين الثلاثة الامتناع عن الحديث طيلة تلك الفترة، والامتناع حتى عن الدردشة والهمس. لقد وَجد السجان الدكتاتوري في هذه الحيلة طريقا لاقتياد أعدائه نحو الجنون، وذلك عبر الإبقاء عليهم على قيد الحياة. هكذا كانت الرغبة الجامحة وغريزة الانتقام المحرك الأساسي للفيلم، وخيط سير الأحداث منذ البداية.

أمام فيلم محكوم عليه بالصمت -حسب طبيعة القصة- فإنه لا مجال هناك للحوار الطويل، حيث تُكتب الحكاية وتُسرد تفاصيل العذاب دون تقديم المعلومات الكاملة عن الشخصيات، ودون جعلهم يثرثرون لساعتين –هي مدة الفيلم- من أجل التعريف بأنفسهم وفتح ملفات التاريخ.

أمام كل ذلك كانت الموسيقى والضوضاء أهم شريك في الفيلم، فما يحدث من أحداث هو أشبه بالخيال عندما يكون المكان فضاء للجنون، وبين العتمة والعزلة والعذاب النفسي يصبح الضحايا على بعد خطوة واحدة من قرار الانتحار أو الاعتراف أو اليأس. لهذا تنقلنا الموسيقى إلى صدى صوت الوجع عندما تنكمش أعصاب المساجين ويضيق الحال وسط لا مبالاة الجميع خلال الأسر الوحشي.

حركة الكاميرا لم تكن تصور فيلما سينمائيا روائيا طويلا فقط، فهي أقرب إلى مشروع فيلم وثائقي يستقر عند حدود الدراما ويداعب الكوميديا السوداء أحيانا. وقد كان التصوير الفوتوغرافي لوحة فنية كأنها ريشة ترسم المشاهد، وتدقق في التفاصيل والألوان والإضاءة، حيث يهتم مدير التصوير كارولس كاتلان بالظل والنور، ويتجه إلى تصوير زوايا قد لا تبدو مهمة لمصور آخر، فالكوادر القريبة التي تدقق في التجاعيد وخلايا وأظافر أيدي المساجين لا يمكن أن يقدمها إلا مصور عاشق لفن الرسم يستلهم اللقطات من رسومات الفنان الإيطالي مايكل آنجلو (1475–1564).

هكذا يكون التركيز على تصوير الجسد البشري عاريا، ليعكس مورفولوجيا (علم دراسة الشكل) الجوع والعطف والقهر الذي كان يعاني منه ضحايا الدكتاتورية، وليترك أثرا قويا خالدا في نفسية المتفرج بالتواطؤ مع الموسيقار الأرجنتيني فيديريكو جيسيد الذي لعب دورا مهما جدا في زرع مشاعر الاختناق والقسوة والإساءة جسديا وعاطفيا وعقليا للرجال الثلاثة.

لقد ابتعد المخرج قدر الإمكان عن الكادرات الثابتة، واهتم أكثر بفكرة التناوب في التصوير بين الثابت والمتحرك، وكانت هذه الأخيرة تفتح الباب لكل مشهد بعد لحظات من الصمت الذي يعطي إشارة انطلاق المشاهد الثاني. الأكثر إثارة هي المشاهد التي يتم تصويرها بكاميرا تم تثبيتها على الكتف لتجتمع الواقعية والتعبيرية وسط الكوابيس التي ضبطت موعدها على عقارب ساعة الموت.

“خوسيه موخيكا” أحد المساجين الثلاثة الذين حكمت المحكمة عليهم بالسجن 12 عاما ينظر من نافذته أملا بالحرية

 

وحشية السجان.. وأسئلة تهزم الدكتاتورية

في البداية كل ما نعرفه عن الشخوص أنهم ثلاثة تم اعتقالهم من أصل مجموعة معارضة منظمة تدعى “توباموس الثورية اليسارية” التي كانت تتشكل من تسعة أشخاص، والثلاثة هم: خوسيه موخيكا ووماوريسيو روزينكوف، وإيليتريو فيرنانديز هويدوبرو. تتحرك الكاميرا خلف القضبان لتسرد الحكاية، وتتوغل تدريجيا إلى الزنزانة.

في مشهد يبدو شديد القسوة في طريقة تعامل القوات المسلحة مع الضحايا، لا يترك لنا المخرج متسعا من الوقت لنكتشف أسباب الاعتقال أو نهتم بذلك أصلا، لنقع من الوهلة الأولى في تهمة التعاطف مع المساجين أمام وحشية السجان بقرار رسمي.

جرعة ثانية من التشويق يبثها كاتب السيناريو ومخرج العمل في المشهد الثاني، هكذا ينال منا سريعا كمشاهدين، لنصبح نحن أيضا أسرى الدكتاتورية عندما يطرح العمل الأسئلة الوجودية: إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يقاوم ويبقى مقاوما، وأيهما أقوى القناعات والمبادئ التي تسكننا أحيانا أم غريزة البقاء؟

وسط تلك الأسئلة تنهزم الدكتاتورية بعد 12 عاما، لنجد الجنرال الأوروغواياني الذي أشرف على عملية اعتقال الضحايا ضعيفا ومهزوما وأكثر خوفا، وعاجزا عن الرد على خوسيه موخيكا عندما خاطبه في المشهد ما قبل الأخير “نحن نربح المستقبل دائما”، وقد تحقق ذلك فعلا كالمعجزة عندما أصبح خوسيه موخيكا لاحقا رئيس أوروغواي من 2010 إلى 2015.

رغم بشاعة وبطش النظام الدكتاتوري العسكري، ورغم موجة البكاء التي تسبب بها الفيلم لنا، فإننا نخرج من العرض أقوياء جدا، فالأمل يبقى موجودا لأنه فيلم يشبه واقع بعض البلدان العربية وسط السادية الدكتاتورية التي لا تريد أن تهدأ وهي تفتش عن طريق ثان للانتقام من المعارضة، تحمل معها عقيدة واحدة في المهمة القذرة هي قطع الطريق أمام كل من يفكر في الحرية ويرفض الخنوع. فقد كان بإمكان الجيش القضاء على الرجال الثلاثة، لكنه أصرّ على تحقيق أهداف أكثر بشاعة عبر نقل الضحايا إلى مرحلة الجنون.

 

12 سنة من العبودية.. الوجع الإنساني يتكرر

يحيلنا الفيلم إلى حكايات أفلام عالمية تحمل نفس العنوان تقريبا والوجع الإنساني نفسه، فقد سبق وأن تلقى المخرج البريطاني ستيف ماكوين سنة 2013 تسعة ترشيحات عن فيلمه “12 سنة من العبودية” (حاز على جائزة الأوسكار لأفضل سيناريو مقتبس)، وهذه التجربة الأوروغوانية المستوحاة من كتاب “مذكرات الزنزانة” لموريسيو روزنغوف وألتيرو فيرناندز جاءت لتعكس أيضا أهمية الاقتباس في السينما وهي تسرد حكايات حشدت الدكتاتورية العسكرية الرهيبة لكل أشكال العنف لقمع الحرية.

الفيلم هو الروائي الطويل الثالث في مسار المخرج، وقد اختارته دولة أوروغواي ليمثلها في مسابقة “الأوسكار” لفئة أفضل فيلم أجنبي، وذلك ليكون ضمن قائمة الـ87 فيلما التي تم قبولها للمنافسة على جائزة الدورة الـ91 للأوسكار، منها ثمانية أفلام عربية هي “إلى آخر الزمان” من الجزائر، و”الرحلة” من العراق، و”اصطياد الأشباح” من فلسطين، و”يوم الدين” من مصر، و”كفر ناحوم” من لبنان، إضافة إلى “على كف عفريت” من تونس، و”10 أيام قبل الزفة” من اليمن.


إعلان