المرأة التي فضحت الرئيس “نيكسون”
مروة صبري

حين تخرجتُ من كلية الإعلام بجامعة القاهرة كان بالكلية ثلاثة أقسام هي: إذاعة وتلفزيون، وصحافة، وعلاقات عامة وإعلان. أما الآن فحين أشاهد بعض خريجي الكلية يعملون، أستشعر أنّ الأقسام صُبّت في قسم واحد هو العلاقات العامة والإعلان للساسة والحكام، وهذا لأن الكثير من الإعلاميين ما هم سوى أدوات في يد الحكام لإشعال أو امتصاص غضب شعبي أو لإشغال الرأي العام بخبر كاذب أو تافه، حتى أننا قد نجد إعلامييْن يتصارع كل منهما بادعائه النزاهة، والمعركة أصلًا ليست بينهما بل بين من يعملان لمصلحتهما، ولهذا فقد كان مبهجًا للنفس أن أشاهد صراعا أكثر رقيا على الشاشة الفضية وذلك في فيلم “ذا بوست” (The Post) من إخراج “ستيفن سبيلبيرغ” (Steven Spielberg) وبطولة “توم هانكس” (Tom Hanks) و”ميريل ستريب” (Meryl Streep).
أروع ما في الفيلم هو أن القصة وشخوصها حقيقيون. ومع حكم دونالد ترامب وازدياد التحركات الأمريكية العسكرية في سوريا وفي أنحاء العالم، زادت الأسرار ومحاولات تحجيم شبكات إعلامية كبرى، فصار موضوع الفيلم أكثر إلحاحًا بحيث جعله المخرج أولوية وعمل على إخراجه بسرعة شديدة. وتدور أحداث الفيلم عام 1971 في حكم الرئيس نيكسون حيث حرب فيتنام، تلك الحرب التي تورط بها أربعة رؤساء أمريكيين هم أيزنهاور وكينيدي وجونسون ونيكسون. مع حلول عام 1967 كان في فيتنام خمسمئة ألف جندي أمريكي وتصاعدت المظاهرات ضد الحرب، ومع ذلك استمر المسؤولون الأمريكيون في خداع شعبهم بانتصار وشيك، ولم يفضحهم إلا تسريبات البنتاغون التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز فاستعان الرئيس الأمريكي نيكسون وقتها بقاض، واستصدر قرارًا بمنع النشر طبقا لقانون التجسس 1917 وحُولت الجريدة إلى المحكمة العليا. في هذه الأثناء وصلت التسريبات إلى صحيفة واشنطن بوست وكان اختبارًا حقيقيا للضمير الصحفي ولكاثرين غراهام صاحبة الجريدة.
كاثرين.. الشخصية القلِقة الشجاعة
بعد المقارنة مع كاثرين غراهام وبن برادلي الحقيقيين بدا واضحًا أن اختيار ستريب وهانكس كان طبيعيا، حتى لتشعر بعلاقة بين كل منهما إزاء الدور الذي يؤديانه، كما أنهما درسا الشخصيات وطريقة كلامهما ونقلاها بشكل رائع. لا يوجد ممثل ضعيف في هذا الفيلم بل الكل كان متمكنا حتى من قام بأبسط الأدوار، لكن البطولة الأساسية كانت لستريب.
أبدعت ستريب في تجسيد شخصية كاثرين غراهام التي اشتهرت بكاي غراهام (16 يونيو/حزيران 1917- 17 يوليو/تموز 2001) والتي كانت حتى انتحار زوجها فيليب عام 1963 سيدة منزل ترعى أبناءهما الأربعة، ثم ورثت صحيفة واشنطن بوست التي اشتراها والدها في مزاد بعد تعرضها للإفلاس، وفيما بعد تركها لزوج ابنته الذي أحسن إدارتها.
وقالت غراهام في كتابها “التاريخ الشخصي” (Personal History) الذي تضمن سيرتها الذاتية إنه لم يحزّ في نفسها للحظة أن والدها أعطى زوجها الجريدة ولم يعطها لها بل كانت سعيدة بذلك. وحين مات زوجها كانت لا تمتلك أية خبرة في مجال العمل لكنها كانت على ثقة بأنها لا تريد بيع الجريدة وأنها تريد توليها بنفسها. كانت تعرف أن هذا ما تريده لكنها احتاجت إلى مساعدة ابنتها في كتابة الخطاب الذي ألقته للإعلان عن ذلك. وفي لقاء للحديث مع ابنتها لالي، قالت إن والدتها كانت تتدرب على خطاباتها أمام المرآة وإنها كانت قبل اتخاذ أي قرارات تكتئب وتحمل الهمّ، وإنها بذلت مجهودا حتى تتمكن من أدواتها الإدارية والصحفية وتعلمت الكثير في طريقها المهني. وأفضل ما يلخص شخصية كاي غراهام جاء في حوار برادلي المحرر التنفيذي لواشنطن بوست (1968-1991) مع زوجته حيث أخبرها بأن غراهام وافقت على النشر فقالت إنه حينما تقضي عمرك تُعامل على أنك غائب وأن رأيك لا يهم ستصدق، وإن قرار غراهام أن تخاطر بالشركة التي هي حياتها وتعرضها للإفلاس فتلك هي الشجاعة.
بالفعل فإن غراهام كانت شخصية قلقة وتحبذ البعد عن المخاطر واللعب داخل حدود الأمان المألوفة، لكنها كانت صاحبة مبدأ وكانت أمًا وابنها شارك في حرب فيتنام. ذهبت إلى روبرت مكنامارا وواجهته وهو صديق قديم للأسرة، وكان أيضا سكرتيرا للدفاع الأمريكي تحت جون كينيدي ثمّ ليندون جونسون حتى إنّه أطلق على حرب فيتنام حرب مكنامارا وقبل اللقب بلا اعتراض. سألته غراهام كيف استطاع أن يستمر في هذه الكذبة وقد رأى ابنها يرحل وهو يعلم أنه من الممكن ألا يعود؟ وكيف يعلل نيكسون الاستمرار في حرب خاسرة مضحيا بالجنود؟ كانت الإجابة هو أن كل رئيس لا يريد أن تُنسب إليه خسارة الحرب في عهده فيماطل حتى تنتهي مدته، ولم ينس مكنامارا تحذير غراهام من نشر وثائق البنتاغون المسربة لأن نيكسون محاط برجال سوء، وأنه لو هناك ما يؤذي واشنطن بوست فسوف يجده. وكانت تلك هي النقطة الحاسمة التي أدت لقرار النشر عندما ضمنت أن الوثائق لا تتضمن ما يعرض حياة أي جندي للخطر.

من قال إن الشجاعة لا تكون من قلب خائف!
أقوى لحظة ظهرت فيها عبقرية ميريل ستريب كممثلة هي لحظة القرار، فلو خسرت القضية ستخسر الشركة وكل أموالها ورخصة القنوات التلفزيونية التي تمتلكها. أسطورة واشنطن بوست قد تتحطم، فأهل الثقة حولها اهتزت ثقتهم ونصحوها بعدم الإقدام. النشر باختصار آذن بإعلان حرب لها مع الرئيس الذي يكره صحيفتها، حيث قال لها برادلي (هانكس) “إن لم نحاسبهم نحن فمن سيحاسبهم؟”، فردّت “لن نستطيع محاسبتهم إن خسرنا الجريدة”.
في لحظة نطق ميريل ستريب بقرارها فإن كمّ الرعب والتردد والاهتزاز في صوتها ثقب قلب المشاهد وأشعره بجديّة القرار وبخوفها من التبعات، لكن من قال إن الشجاعة لا تأتي من قلب خائف.. فلكلمة الحق ثمن، ومعرفة الحق شرف وابتلاء، والبحث عن هذا الحق هو المرجو من كل إعلاميّ، لأنّ الإعلام عين الشعب على الحكام وعين الضعيف على القوي، وكما جاء على لسان برادلي إن على الصحفي أن يختار بين صداقة الساسة وبين مسؤوليته المهنية، لكنه لا يمكن أن يكون الاثنان معًا.
التردد وحساب المخاطرة وانكباب الصحفيين على العمل بترتيب سبعة آلاف ورقة غير مرقمة وغير مرتبة للحاق بموعد إصدار الجريدة، تدافع الأصابع على الآلات الكاتبة، تحضير الأحرف ورصها لتكوين الصفحة الأولى، صوت المطابع، تحميل النسخ وإلقائها في الشوارع للباعة، وأخيرًا وصولها ليد القارئ العام الذي لا يعلم ما يُدبر له، لكن مطلوب منه أن يضحي بقوته ورفاهيته بل بأولاده من أجل حرب لا أمل في كسبها، حرب حصدت 58 ألف جندي أمريكي وثلاثة ملايين فيتنامي أكثر من نصفهم من المدنيين، حرب دخلتها الولايات المتحدة وأججتها الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفياتي كل يحشد مواليه.. حقًا ما أشبه الليلة بالبارحة.

رائد هوليود الجديد
أخرج ستيفن سبيلبيرغ العديد من الأفلام التي أحدثت ضجة بين الجماهير مثل “جاوس” (Jaws) الذي عرف في العالم العربي باسم “الفك المفترس”، وكذلك فيلم “أي.تي.. خارج الأرض” (E-T the Extra Terrestrial) عن كائن فضائي نزل على الأرض وتكونت بينه وبين طفل صداقة وولاء، وكذلك حديقة جوراسيك وغيرها كثير، ومن براعته يعد من أكثر المخرجين دخلًا ويُطلق عليه رائد عصر هوليود الجديد.
يتميز سبيلبيرغ بعدم خوفه من خوض نوعيات جديدة من الأفلام ولا يحدّ نفسه في تصنيف واحد، فقد أخرج الخيال العلمي والرعب، وأخرج التاريخي والدراما وغيرها، وترك بصمة مميزة خلال أربعة عقود من العمل كمخرج ومنفذ وكاتب سيناريو. اهتم بأدق التفاصيل في الفيلم من حيث الثقافة العامة للمجتمع كالملبس والحوار وطريقة التعامل بين النساء والرجال. الفيلم ينقلك إلى عام 1971 بكل ما فيه حتى السجائر والذوق العام.

عهد جديد لريادة المرأة
كاثرين غراهام هي أول من أدار صحيفة أمريكية رئيسية في الولايات المتحدة، حيث ظهرت في اجتماع المستثمرين وسط سيل من الرجال، إلا أن هناك صحفية واحدة فقط كانت طوال الفيلم،وحتى أثناء التظاهرات ضد الحرب من حركات السلام؛ ظهرت بحضور ذكوري قوي. اللقطة الوحيدة في الفيلم التي ظهرت فيها النساء أغلبية ساحقة كانت عند خروج غراهام من المحكمة العليا، فاستقبلها النساء يمنة ويسرة يمطرنها بنظرات وكلمات تسديد في إشارة لعهد جديد لريادة المرأة وحاجة المجتمع لها.

حماية حق النشر.. بالنشر
لو خسرت واشنطن بوست القضية لكانت سابقة مخزية في القانون الأمريكي، إذ كان قرار وقف نيويورك تايمز الأول من نوعه لتدخل الحكومة في تقرير ما تنشر الصحف، ولذا وكي لا تتكرر كان ولا بد من نشر تلك الوثائق لأنه كما قال برادلي “الطريقة الوحيدة لحماية حق النشر هي النشر”.
جاء قرار المحكمة العليا بستة أصوات لصالح نيويورك تايمز وواشنطن بوست وثلاثة ضدهما، وقال القاضي بلاك -أحد القضاة- في أسبابه للحكم “الصحافة لخدمة المحكومين لا الحكام، وقد ألغيت سلطة الحكومة في الرقابة على الصحافة حتى تظل الصحافة حرة إلى الأبد تنتقد الحكومة، وتمت حماية الصحافة بحيث يمكن أن تكشف أسرار الحكومة وتنقلها للشعب، ولا يمكن إلا للصحافة الحرة وغير المقيّدة أن تفضح الخداع في الحكومة بشكل فعال، ومن أهم مسؤوليات الصحافة الحرة منع أي قطاع في الحكومة من خداع الناس وإخراجهم إلى أراض بعيدة للموت من الحمى أو الطلقات والقذائف الأجنبية”.