“الدورادو”: الفقر في بلاد الذهب!
قيس قاسم

موضوع الهجرة سينمائياً؛ ببعديه الوثائقي والروائي مازال قوياً في ذهن منظمي مهرجان برلين السينمائي، فبعد إدراجهم فيلم “نار على البحر” للإيطالي روزي جيانفرنكو ضمن مسابقات الدورة قبل الماضية وهي من المرات القليلة، التي يتنافس فيها وثائقي على جائزة الدب الذهبي والمفاجأة الأكبر فوزه بها عن جدارة، يأتي في الدورة الحالية منظموه ويضعون فيلم “الدورادو” ضمن الخانة الرئيسة بفارق وضعه خارج المسابقة وعلى المستوى الروائي يبرز عنوان “لومونادا” للمخرجة الرومانية “لوانا أوريكارو” من بين بقية أفلام قسم “البانوراما” لما فيه من تمايز على مستوى تناول موضوع الهجرة إلى الولايات المتحدة ما يضع الاثنين؛ الروائي والوثائقي ضمن دائرة اهتمامات متابعي الدورة الثامنة والستين باعتبارها تكملة لدورات ظل موضوعا الهجرة والسياسة من بين أشد خياراتها مدعاة للجدل.
“الدورادو” نفاق سياسي
ينطلق مخرجه السويسري “ماركوس ايمهوف” من تجربته الشخصية في الهجرة أو الرحيل القسري حين احتضنت عائلته صبية إيطالية اسمها “جيوفاني” وصارت مع الوقت له أختاً، عودتها إلى موطنها الأصلي ورسائلهما المتبادلة بينهما وموتها المبكر حفزت ذاكرته ودعته للتفكير بحال ملايين المهاجرين الجدد الماريّن ببلاده سويسرا وبلد الأخت المهاجرة؛ إيطاليا. إقحامه الخاص في موضوع عام يراد به إضفاء مزيد من الحميمية على قضية هو معني بها كسينمائي أولاً وكإنسان عرف معنى أن يكون المرء مهاجراً، يترك بلاده وأهله من أجل حياة أفضل خارجها لكن المؤلم أو الأشد إيلاماً عليه لحظة اكتشافه أنه وبعد دخوله “الدورادو” أو بلاد الذهب كما هي في الميثولوجيا اللاتينية هو في الواقع مطرود منها وغير مرحب به فيها وأنها أصلاً ليست “الجنة الأرضية الموعودة” بقدر ما هي منطقة جديدة من العذاب والكراهية حين يقترن وجودهم فيها بقرار سياسي يريد طردهم منها بدهاء ودون إثارة ضجة ليتحولوا بسببها إلى ضحية مرتين؛ الأولى في المكان الذي اضطروا للخروج منه والثانية في المكان الذي حلموا أن يعيشوا فيه بقية حياتهم بسلام وأمان؟!.
بينما يترك الوثائقي مشاهده يصدق نوايا السلطات الأوروبية في حماية المهاجرين القادمين من ضفة المتوسط إلى إيطاليا من الموت غرقاً وتأمينها لهم وصولاً آمناً وإقامة شرعية بعد انتشالهم من البحر وتخليصهم من سيطرة مهربي البشر الذين غالباً ما يتركونهم عرضة للأهوال يواجهون الموت وسط أمواج البحر العاتية. اللقطات الطويلة في مفتتحه لبعض وحدات من الجيش المكلفة، ضمن مشروع أقرته الوحدة الأوروبية يهدف إلى نقل المهاجرين التائهين في البحر إلى البر وترتيب أوضاعهم، توحي بجديتهم وصدق نواياهم. مرافقة الوثائقي لعمليات الإنقاذ والرحمة التي يتحلى بها المنقذ على اختلاف مستويات وظيفته تستدعي ذاكرة مخرجه وتعيده إلى حالة الأخت الغريبة أثناء الحرب العالمية الثانية وكم عانت بسبب تركها وهي طفلة بلدها وأهلها.
لا يقارن بين الحالتين ولا يفاضل بل يستخدم مخرجه الذاكرة الشخصية كأسلوب لاستدعاء الموضوع المشترك وتدريجيا يأخذنا لنكتشف سوء أحوال المهاجر نفسه، الذي بدا في مشاهد الإنقاذ الأولى وكأنه فعلاً قد وصل “الدورادو” وأن أموره كلها في طريقها إلى الحل. المفاجأة ستأتي حين يذهب الوثائقي لمتابعة حياة من شاهد عملية إنقاذهم والكلام المرافق لها والموحي بجدية ورحمة لا حدود لها!.

في إيطاليا نشاط الشاب النقابي بين المزارعين الأجانب يفضح الاستغلال الفظيع لهم. فهولاء يُعاملون مثل “العبيد” يتقاضون أجوراً قليلة وأحياناً كثيرة من دونها، وأن أصحاب المزارع وبخاصة مزارع الطماطم يجدون فيهم قوة عمل وفرتها الحكومة لهم مجاناً ودون مقابل، بالمعنى الدقيق للكلمة. أوضاعهم الصحية ومع الأيام تتدهور بسبب سوء ظروف سكنهم وعدم توفر مستلزمات الحياة السوية. البيوت من صفيح والقاذورات تحيطها والخوف يسكن المكان بعد اكتشاف سكانه المساكين رغبة الجهات الإيطالية إبعادهم من أراضيها والمؤلم توزع الضحايا حسب نوع جنسهم؛ وبعلم تلك الجهات التي وعدت بحل قضاياهم. الكثير من الشابات يضطررن لبيع أجسادهن والمَشاهد المصورة لبعضهن تكشف حجم الاستغلال الجسدي للمرأة المهاجرة بالمقابل يبيع الرجال قوة عملهم لأصحاب المزارع دون مقابل مجزِ.
في حديث لمتطوعة اجتماعية أفريقية يفهم المُشاهد كم عانت من استغلال يوم كانت في ليبيا إلى درجة تعجز وتخجل من البوح به. على الضفتين يتعذب المهاجر ويُستغل وفي “الجنة الأرضية” يجري التعامل معهم وفق منطق مصلحي، يتجلى بإجبارهم على ترك بصمات أصابعهم عند سلطات أول دولة يصلون إليها، وهذا يعني وفق “معاهدة دبلن” إسقاط حق المهاجر في الانتقال إلى بلد ثانٍ في حالة رفض البلد الأول طلب لجوءه، فلا يتبقى أمامهم في هذه الحالة؛ إما الهروب إلى الأمام من حدود إلى أخرى أو الذهاب إلى الشوارع حيث المافيات وعصابات الجريمة المنظمة في انتظارهم.
كل تلك الحقائق قدمها الوثائقي وتابع فوقها حالات “إقناع” المهاجرين المرفوضة طلباتهم بالعودة “الطوعية” إلى بلادهم مقابل حصولهم على مبلغ بسيط من المال. بين سويسرا وإيطاليا سيمكث الوثائقي ليصور حالة عائلة صومالية أمسكتها شرطة الحدود السويسرية قادمة من إيطاليا. قرار إبعادهم أعاد موضوع سياسة الهجرة الأوروبية وعدم موضوعيتها ثانية بأسلوب سينمائي مقنع، كون كل بلد غربي يريد التخلص منهم ومن التزاماته الإنسانية، التي بدت لنا طافحة في مشاهد الإنقاذ الأولى لكنها سرعان ما غدت معتمة وحزينة. أسلوب المقارنة بين مشاهد المهاجر أثناء الحرب العالمية الثانية وحالته اليوم تكشف كم يختزن تاريخها من آلام وكيف يتحول اللاجيء خلالها لمجرد “بصمة”، وأن الرفاهية الغربية لا تشمله حتى حين يصل إليها فهو في النهاية “كائن” جاء من خارجها لا ينتمي إلى “أرض الذهب”. يدخل صانع الوثائقي السويسري ملجأً، قديماً خصص لحماية الناس من القصف أثناء الحرب العالمية الثانية. في داخل الأنفاق يعيش اليوم مئات من اللاجئين الأفارقة حياة لا تليق بأحد. خارجها يرتفع صوت احتجاجي على وعود كاذبة ودعاية مدروسة تقول للعالم كلاماً لا صحة له؛ فالمهاجر في سويسرا الشوكولاتة والأجبان الفاخرة يعيش في حرمان تام من كل نعمها وفي ظروف غير إنسانية لا تقل قسوتها عن قسوة أمثالهم في البلد المجاور؛ إيطاليا، الذي جمع يوماً التاريخ بين تجربة مخرج الوثائقي نفسه وصبية هاربة منه كما يهرب الملايين لا إلى القارة الأوربية وحدها بل، أبعد منها؛ إلى الضفة الثانية من الأطلسي كما هربت الرومانية مارا (الممثلة مالينا مانوفيتشي) من فقر بلدها وواجهت ذلاً واستغلالاً جنسياً مؤلماً في الولايات المتحدة الأمريكية التي حلمت بتغيير حياتها نحو الأحسن، فيها!

“لومونادا” الإذلال الأمريكي
الممرضة الرومانية جاءت إلى الولايات المتحدة وحصلت على عمل وإقامة بعد زواجها من مواطن أمريكي، لكنها تراجع الآن للحصول على “الكارت الأخضر” لتستقر نهائياً مع ولدها. ذلك ما ينقله لنا المشهد الذي يجمعها مع محقق في دائرة الهجرة يفهم من إصراره على تعجيزها بأن له مصلحة شخصية في ذلك. سرعان ما سيتأكد ذلك الإحساس ونرى كيف أجبرها على توفير متعة جسدية له بالقوة. فعل الاغتصاب سيتكرر بأشكال مختلفة لدرجة يبدو الرعب منه ومن نتائج رفضها له يسكنها بالكامل والمشهد الذي يلخص تحقيقاً روتينياً للشرطة معها بسبب تركها ولدها وحيداً في الشقة يكشف عن فظاظة ومصدر تهديد سلطوي مريع. شكل التحقيق يحيل إلى موقف جاهز من المهاجر وسوء نية مبيتة ستتصاعد نبرتها حين يحاول موظف الهجرة إخضاعها بالكامل له وتركه ظلالاً من الشك حول علاقتها بزوجها وأنها تزوجته لغرض الحصول على ما تريد. أجوبتها وخوفها يحيلان إلى واقع ما يعيشه المهاجر في “بلاد لهجرة”.
التمثيل الجيد المعتمد على عكس جوانيات الإنسان الخائف ورسم بقية الشخصيات المنتمية إلى ثقافة تسمح باستغلال الآخر ومنها سيخرج المحامي الصربي المنتحل الجنسية البوسنية ليقدم تصوراً عن طبيعة عمل دوائر الهجرة الأمريكية وكيف يمكن بسهولة اللعب عليها في مفارقة صارخة، تكشف عن فوضى موقف وتشدد غير مبرر إلا كون الغريب الخاضع لها ينبغي عليه دفع ثمن غال وفق نظرية عنصرية فوقية تقول ضمناً: شرف الحصول على فرصة العيش في أمريكا ليست متوفرة للجميع ولا يحصل عليها إلا من له القدرة على التكيّف مع شروطها. مناخ “لومونادا” خاص لا يشبه أغلبية مناخات الهجرة بخاصة اللاتينية، كونه يذهب إلى مساحة الضوء لم يسلط عليها كفاية، يمكن عنونتها بـ “مساحة الاستغلال الجنسي للمرأة الغريبة المستضعفة” بوصفها هدفاً جنسياً سهلاً متأت من ضعف موقفها القانوني وحين يدخل القانون نفسه طرفاً في المعادلة فإن المنجز بأكمله سيكون مختلفاً؛ حيوياً غير ميال إلى إطلاق الأحكام بل يترك مساحة كبيرة للواقع كي يحقق وجوده داخله وبهذا المعنى ف”لومانادا” فيه من روح الوثائقي الكثير، إلى جانب كونه مستفزاً بهدوء لا يخلو من نزعة أنثوية لدى شخصية بطلته الرومانية كونها امرأة وأما تجد نفسها ملزمة بتأمين مستقبل ولدها القادم من ثقافة مختلفة وعليها تقع مسؤولية توفير حياة جيدة له كما تحلم. يوفر الفيلم تلك الرغبة ويوحي بأنها متحققة لكنه لا يلغي تماماً احتمال دفع أثمان لها، وبهذا المعنى تترك صانعته الكثير من الأسئلة مفتوحة على أجوبة مختلفة نابعة من تجربة امرأة التي هي ليست مسلمة ولا عربية ومع ذلك وفوق ما عندها من كفاءة مهنية وشهادة أكاديمية تتعرض لإذلال وامتهان جسدي سببه الموقف العدائي العنصري من الطامح في العيش في بلد بعض أفراده يريدون منه أن يقدم لهم شيئاً خاصاً، مثل الجسد أو غيره. مساره يوحي بوجود أشكال أخرى من الانتهاك، لم نرَ إلا القليل منها!
