السوري وبذور أرضه .. حب في المنفى
قيس قاسم

كثيراً ما نسمع عبارة “كيف خطرت على بال كاتب السيناريو هذه الفكرة؟” يرددها الناس بعد مشاهدتهم فيلماً وثائقياً موضوعه غريب عليهم، لكن كتابته ومعالجته السينمائية قريبة، في الوقت نفسه، من أحداث يعرفون تفاصيلها، فتثير مقاربتها السينمائية فيهم الدهشة، هذا الأمر يتكرر وباندهاش لافت مع فيلم المخرجة الفلسطينية جمانة مناع “حب بري”، التي أخذت مشروع؛ حفط عينات (نُسخ) من بذور مزروعات الأرض كلها في “بنوك ” خاصة، شُيدت تحت تربة الأراضي النرويجية المتجمدة، كأجراء وقائي للحفاظ على استمرار حياة البشر في حالة حدوث كارثة ما وأدت نتائجها إلى تدمير كل نباتات الأرض، حينها يمكن إعادة زرع البذور المحفوظة ثانية. هذا الجزء الأول من الفكرة لوحده يستحق البناء عليه سينمائياً، غير أن نصها يتضمن فكرة ثانية موازية، أخذتها في رحلة تقصي عجيبة من وادي “سفالبارد” النرويجي، إلى مدينة حلب السورية ثم إلى وادي البقاع اللبناني، وبين زوايا المثلث المتحركة، وفق تَغيّر الظروف البيئية وبسبب الحرب الشنيعة في سوريا وهجرة كثير من أهلها خارج حدودها، تحركت صانعته وراحت ترصد مصائر بشر وبذور ارتبطا منذ بداية التاريخ بعلاقة “حب بري” لها الفضل الكبير في استمرار وجودنا على الأرض، وبالتي فأي استغلال لها خارج أنساقها، له تبعات، توقف عندها Wild Relatives وترك تشخيصه لها ظلالاً من الشك حول “إنسانية” فكرة الحفاظ على عطايا الأرض نفسها وتجردها من المنافع!.
يرتفع صوت “جمانة” بوصفها الدليل لا الراوي، مع ارتفاع أصوات الآلات الضخمة وهي تتحرك داخل أنفاق كبيرة حُفرت تحت أرض وادي “سفالبارد” النرويجي، وما يصاحبها من عمليات تصنيف وحفظ للبذور تبقيها صالحة لسنوات طويلة، لتخبرنا بحقيقة اختلاف طريقة حفظ “مونة” المزارع العادي لبذوره، عن الجديدة “الصناعية”، وكيف كان أجدادها يختارون الأفضل منها لضمان حصولهم سنوياً على منتج جيد النوعية وافر الغلة، وتوصلت هي، من خلال مراقبتها طيلة عام كامل لطريقة حفظ البذور وزراعتها ثانية، إنها تتشابه من حيث الجوهر في أكثر المناطق الجغرافية والمناخية اختلافاً، لهذا تبدو طريقة حفظ المزارع النرويجي لبذور نباتاته قريبة من تلك التي يقوم بها المزارع الفلسطيني. الجديد في قصتها؛ كشفها الجهة المسؤولة عن “بنوك البذور” الكونية وعلاقة سوريا ولبنان بها؟

لمركز الأبحاث الزراعية العالمي “ايكاردا” فرعاً في حلب، كان “يُخزن” في بنكه قرابة 140 ألف عينة نباتية. بعد اشتداد المعارك الطاحنة في المدينة بين المعارضة والسلطة واستحالة استمرار العمل هناك قرر المركز استنساخها في وادي البقاع اللبناني. عملية نقل العينات المحفوظة من حلب إلى لبنان ثم القيام بعد زراعتها بنقل بذورها إلى بنك النرويج، تاريخياً هي الأولى من نوعها صاحبت التجربة بعض القصص الجديرة بالسرد، لعمق دلالاتها الإنسانية اهتمت بها جمانة كثيراً وحرصت على نقلها بصرياً وفق ارتباطها بالموضوع الأساس: حفظ البذور.
في وادي البقاع ومن بيوت صفيح وأكواخ خشبية بائسة، بُنيت على عجل، تخرج نساء سوريات، أغلبهن شابات وصبايا، يبدو الفقر على ملامحهن وملابسهن، يصعدن حافلات تقلهن إلى المزارع أو إلى المختبرات التابعة للمركز الدولي. معظم العاملين في المزارع هم من حلب. في اجتماع الناس مع بذروهم في لبنان، تكمن مفارقة مؤلمة، تشير إلى هجرة الاثنين أرضهم مجبرين بسبب الحرب وإلى اختلال العلاقة بين الواصل وبين المُستقبِل. للكشف عن دواخلهن، بادرت جمانة لطرح بعض الأسئلة السريعة عليهن واستفسرت عن حياتهن في المزارع دون الغور عميقاً في التفاصيل. حتى أسئلتها الخفيفة تلك، كادت أن تُحرف وثائقها عن مساره، وكان من الأفضل لها الاكتفاء بأحاديثهن العفوية دون تدخل. من مشاهد الحقول المأخوذة بعدسات مفتوحة (التصوير الرائع لمارتي فولد) تتجلى حالة الاغتراب المُتشكلة بين المزارع السوري والمكان الذي ينحني جسده فوقه ساعات طويلة وفي صيف لاهب. لا خيارات لهم سوى العمل في الحقول وبأجور، مستوى عيشهم يشي بقلتها، فيما الوسيط يظله رابحاً من تلك العلاقة غير المتوازنة. يكشف الوثائقي في مرحلة متأخرة وحين يذهب لنقل آثار العلاقة الجديدة الناشئة بين الفلاح اللبناني التقليدي وبين المُنتج الزراعي/ الصناعي المستورد، والمائلة لغير صالحه بتعويض خسارته بالقادم السوري إلى أرضه، من خلال التفكير بإقامة مشاريع لإسكانه في “مخيمات” طارئة. مشروع مثل ذلك لا يتطلب من صاحبه سوى؛ جلب بضعة خيام ومساحة أرض متوفرة أصلاً.

في المختبرات اللبنانية تستمر عمليات جمع البذور ونقلها جواً إلى النرويج. حال وصولها إلى أقبية “سفالبارد” الباردة يعبر مسؤولو المركز عن فرحتهم بنجاح التجربة، فيما تكشف البحوث المختبرية عن جانب آخر؛ ربحي غير معلن. من بين مهام المختبرات التابعة لـ”ايكاردا” التوصل إلى عينات جديدة من البذور المصنعة وراثياً. مبعث الفكرة “الإنساني” تخليص البشر من الفقر عبر توفير محاصيل زراعية كثيرة، مقاومة للأمراض، تكفي الجميع وتباع بأسعار رخيصة، رهانٌ معتمد على حقيقة كون البذور المُحسنة وراثياً قادرة على توفير تلك الشروط بالمقارنة مع التقليدية “البلدية” ولكن مقابل أثمان غالية تدفعها البشرية. خلال تحريها تتوصل إلى حقيقة أن عملية بيع البذور الوراثية على المزارعين تطرد في طريقها بقية البذور الأصلية وتُغيبها من الوجود. صحيح أن الفلاح التقليدي كما تخبرنا “جمانة” كان يقوم بعمليات “مزاوجة” بين بذرتين لإنتاج ثالثة أفضل نوعياً، لكنها كانت تستغرق وقتاً طويلاً، ولا تؤثر سلباً على مبدأ؛ حفظ الأنواع الطبيعية، فيما الصناعية وخلال عام واحد يمكنها إنتاج أضعاف ما تنتجه الأصلية لهذا راحت المراكز العلمية تتسابق على إنتاج المزيد منها وتنشر ثقافة استخدامها على نطاق واسع. عملياً تُجبر تلك المراكز بما توصلت إليه من أنواع جديدة/ تجارية، الفلاح التقليدي، وفي كل مكان من العالم على شرائها من منتجيها.
بين لبنان والنرويج ينتقل الوثائقي فيما سوريا تحضر عبر مهاجريها ومزارعيها في البقاع، فصلتهم مع وطنهم ما أنقطعت قط، وأخبار ما يجري فيها من أحداث منقولة عبر المذياع، تجعل من حضورها “واقعاً” ممكناً سينمائياً. تنقل كاميرا الوثائقي الألماني، اللبناني النرويجي، المشترك مشهداً يجمع راهباً وباحثاً علمياً قرب كنيسة وادي سفالبارد. الراهب يطرح الأسئلة والباحث يجيب بإيجاز عليها. كلها تشير إلى تغيّرات مناخية حادة تشهدها المنطقة، من نتائجها الكارثية اختلال معيشة حيواناتها البرية وذوبان الثلوج في غير موسمها. الحقيقة الأخيرة تلغي ربما مشروع “بنك البذور” من أساسه كونه يعتمد على المواصفات المناخية والجغرافية للمنطقة، وأن بردها الشديد الرطب يؤمن حفظها قروناً، وإذا ما حدث تغيير في تلك المواصفات فستتعرض البذور للموت كما يموت كثر من السوريين أثناء رحلة انتقالهم من وطنهم نحو المجهول.

تعرف “جمانة مناع”، صاحبة الفيلم الوثائقي الممتع والعميق “مادة سحرية تسري في داخلي” ويدور حول تاريخ الموسيقى الفلسطينية وارتباطها بالموروث الوطني والثقافي لشعبها، كيف تستثمر كل تفصيل صغير تلتقطه كامرتها لصالح شغلها النهائي. وبحسها التشكيلي (بوصفها فنانة في أكثر من نوع فيه) تعرف كيف تمزج “الهامس” من الكلام مع قوة التعبير البصرية المُشكلة بعدساتها، وفق رؤية مسبقة، تشي باستيعاب جيد للمكان الذي تتواجد فيه، حتى لو كان سريعاً. من حفل افتتاح مركز “ايكاراد” في البقاع، تأخذ مقاطع من صوت شاعر ألف أغنية سريعة بالمناسبة. كلماتها تحكي جزءاً من القصة المؤلمة عن نقل البذور “البلدية” الأصلية وموتها بعيداً من أرضها، بعد مسخها. إذا أبعدنا عبارات المديح التقليدية فيها سنجد بقية العبارات تقول نفس الكلمات التي تقولها الكاميرات بلغتها وملخصها؛ إن البذور كما البشر تناجي أهلها وتريد العودة إلى أرضها! الوصف الشعري الشعبي المؤثر، كناية عن حكاية البذور المرحلة إلى النرويج والتي لم تعد كما كانت. بعد “تغيير” جيناتها، تحولت إلى أخرى تجارية لا تشبه أصلها أبداً.
الجانب المخصص لمزارع هرب من ريف حلب إلى لبنان منذ اندلاع الحرب الأهلية، تجلي جانباً من مهارة السوري، وحبه للزراعة. لم يمنعه منفاه من العمل على تكثير “الشتلات”. اعتماده على البذور “البلدية” منهج عمل جُبل عليه منذ طفولته، للحفاظ عليه يعمل على نشره وتأمين به أيضاً، قوته اليومي. تجربة الفلاح السوري ملهمة وإتاحة مساحة لعرضها، جاء في صالح العمل لا العكس، تماماً كما فعلت كاميراتها، يوم جعلت من نص “حب بري” المثير، منجزاً وثائقياً مهماً، يعكس هاجساً إنسانياً عند صانعته المهمومة بالعودة إلى الجذور وكشف الإيجابي والمتألق فيها، لهذا استحق عن جدارة المشاركة في الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي.
