الحياة على دماء الدلافين
قيس قاسم

يبدو نهر الأمازون، في المشهد الواسع المصور من طائرة، في فيلم A River Below، مثل أفعى عملاقة تمضي في طريقها باطمِئنان إلى أعماق الغابة المطيرة. المشهد لا يفسد جماله الأخاذ سوى مشهد آخر يليه وتظهر فيه مجموعة من الصيادين المحليين وهم يقومون بقتل الدلافين الوردية النادرة وينقلونها إلى قواربهم، بعد إغراقهم لها أسفل النهر. المشهد الثاني وبكل تفاصيله المؤلمة بُث على قناة تلفزيونية برازيلية وشاهده أكثر من عشرين مليون مُشاهد. الانتقال السريع بين مشهدين متناقضين، أريد به التمهيد لمعايشة أحداث دراماتيكية تجري يومياً على طول النهر وعلى مدى عقود دون توثيق، لرصدها اقترح المخرج “مارك غريكو” الذهاب بنفسه إلى النهر ومعرفة سر ما يجري هناك.
قلة في العالم تعرف عن دلافين الأمازون الوردية، كما يعرف عالم الأحياء الكولومبي “فيرناندو تروخيلو”. هو من القلة، التي ارتبط شخصياً بها، ولولعه بها منذ طفولته سماه أهل المنطقة “أوماتشا”، أي؛ “الرجل/ الدلفين، لإيمانهم المتوارث، من أن الدلافين الوردية هي في الأصل إنسان تحول بفعل السحر إلى سمكة ثدية. يجمع العالِِم بين اخْتصاصه وبين حبه للدلافين، التي طالما اعتبرها الأذكي والألطف بين حيوانات الأرض، وبين حرصه للحفاظ على نوعها المهدد بالانقراض، بعد رصده معدلات نقص أعدادها الواضح خلال العقود القليلة الماضية. يُحيل “تروخيلو” سبب النقصان إلى عمليات صيدها على نطاق واسع، لكنه لا يملك دليلاً قوياً، قاطعاً على ذلك، لهذا كان بحاجة إلى رجل يقوم بتلك المهمة. ظهور المغامر ومعد أكثر برامج الحياة البرية شعبية في التلفزيون البرازيلي “ريتشارد راسموسن”، على الخط، كان منطقياً، لتكريسه وقتاً وجهداً كبيرين في تصوير وتسجيل مشاهد حية من الحياة البرية في الأمازون، ولقناعته الراسخة من أن عمله يسهم في الحفاظ على البيئة ويحميها من الدمار، عبرها نقلها إلى الناس مصورة.

سيشكل هو وعالم الأحياء ثنائياً، أراد الوثائقي التأسيس عليه درامياً، باعتبارهما يمثلان مساران مختلفان، يكملان بعضهما، ويتيحان فرصة عرض المشهد بكامل تفاصيله، كلٌ يأخذه من زاويته الخاصة. العالِم يقوم بجمع المعلومات عن الدلافين ويحفظها، والثاني بقوة وسيلته الإعلامية يمكن له توفير الوثيقة المصورة الضرورية لكشف خفايا تناقص أعدادها الدراماتيكي. معايشة الصحفي الحية للدلافين الوردية والسباحة معها، وتصويره جانباً من عالمها الساحر في أعماق النهر، أضفى بعداً جمالياً على الوثائقي، الحريص على عرض حياتها في وسطها الطبيعي، وما يمثله وجودها من إغناء له. معه أحضر فريق عمله المُراهن عليه كثيراً في توفير تسجيلات تؤمن التعاطف الشعبي المطلوب مع الدلافين، والذي ينتظره العلماء وحماة الطبيعة على أحر من الجمر، ليبرروا به سبب إصرارهم على كشف “الجهات” المستفيدة من قتلها، والآن جاء دور التلفزيون بقوة إقناعه البصرية، للمعاونة على فضحها.
السؤال عن دور الصورة سيُضيف تنويعاً على الوثائقي الكولومبي، الواصل إلى القائمة القصيرة لجوائز أوسكار هذا العام، وسيُمكنه من تسجيل وقائع لا نظريات فحسب، عن خطورتها في حالة إساءة استخدامها، وعن دورها في مساعدة العلماء على الوصول إلى “مساحات” يصعب عليهم الوصول إليها بأنفسهم.

الانقلاب الكبير في مسار الوثائقي سيحدث عند عرض “راسموسن” حلقة استقصائية خاصة عن صيّادي الدلافين الوردية وتصويرهم أثناء طعنهم الدلافين برماح ثقيلة، تغطسها معها إلى قاع النهر، وتقطع عليها الهواء فتموت غرقاً. يعرض البرنامج كيف تتحول لحوم الدلافين النادرة إلى غذاء رخيص لأسماك “بيراكاتينغا”، المرغوبة كثيراً عند شعوب حوض الأمازون، وسيزداد تأثيره أكثر عند نقله مشهد انتزاع جنين من بطن أمه، أثناء تقطيع أوصالها. ردود الفعل على الحلقة كان قوياً، أجبر الحكومة على إصدار قرار يمنع صيد أسماك “بيراكاتينغا” والمتجارة بها. ستقوم الشرطة بعمليات مداهمة لبيوت الصيادين وتستولي على معدات صيدهم. اعتبر العلماء البيئيون البرنامج وما خلفه من ردود فعل، نجاحاً ساحقاً لهم ولغابات الأمازون المطيرة ودلافينها، فيما فتح باب البحث واسعاً أمام العالم الكولومبي لدراسة آثار عملية “القتل” على الأحياء النهرية والبشر. بدوره راح الوثائقي وضمن حدود وظيفته السينمائية يستقصى الجهات المسؤولة عن الصيد.
سيتبيّن أن تجار الأسماك الكبار هم وراء “التعتيم” المتعمد حول قتل الدلافين، فتجارة صيد الأسماك، بتلك الطرق غير الشرعية، تدر عليهم أرباحاً خيالية تقدر بمليارات الدولارات سنوياً وأي محاولة لحرمانهم منها تدفعهم للبحث عن أساليب جديدة لضمان استمراها، لهذا عمدوا، بعد صدور قرار الحكومة البرازيلية، لتهريبها إلى كولومبيا، التي تسمح ببيعها علانية وبشكل قانوني، ما شجع عالم البيولوجيا لاستخدام “التلفزيون” وسيلة لنشر حقائق علمية تنوه بمخاطر أكل تلك الأسماك المغذاة بلحوم الدلافين، لإحتوائها على نسب عالية من مادة “الزئبق” المضرة بصحة الإنسان. كان يتوقع ردود فعل مماثلة كتلك التي أثارها البرنامج التلفزيوني البرازيلي، لكن الجهات الصحية الكولومبية التَزمت الصمت وعلى العكس راح تجارها يروجون لها عبر تمويلهم بعض برامج “إعداد الطعام” التلفزيونية، لتعرض على جمهورها طرق اعداد أطباق شهية منها بأسلوب دعائي، بدا كما لو كان رداً مبطناً على حملة العالِم وزملائه. فوق التجاهل وصلته تهديدات صريحة بالقتل، فخاف على حياته وقرر ترك الغابات، أما “راسموسن” المبهور بنجاح برنامجه الساحق فقد واجهته مشكلة جدية عرضت سمعته المهنية كلها للخطر وطرحت معها ثانية سؤال التلفزيون بقوة، حين أعلن صيادو القرية، التي صور فيها عملية قتل الدلافين، خداعه لهم، وتقديمه مبالغ من المال مقابل السماح له بتصويرهم، وعدم التزامه بتعهده؛ الاكتفاء بعرض التسجيلات على الجهات الصحية والبيئية دون أخذ طريقها إلى الشاشة.

ردود الفعل الغاضبة على فعلته، بخاصة من وسائل إعلام محلية وعالمية، وزيارة الوثائقي لأهالي القرية، التي باتت من دون مصدر عيش، بعد منع الصيد عليهم، وتلقيهم تهديدات من التجار بقتلهم جميعاً باعتبارهم “خونة” باعوا أسرارهم مقابل المال، سترافقها انقلابات في المواقف والكثير من المفاجآت. التدقيق في شكوى سكان القرية المعزولة، أخذت الوثائقي إلى مسارات جديدة لم يحسب حسابها في البداية ولم تكتب على الورق من قبل على الأرجح. مرونته في التعامل معها جعلت منه وثائقياً ديناميكياً يتمتع في الوقت نفسه بقدرة على الاحتفاظ بالهدف النهائي. يأخذ النقاش المحتدم حول نزاهة العمل التلفزيوني ومصداقيته، والحدود الفاصلة بين نبل الغايات ووسائل تحقيقها، الفيلم إلى مواقع لا يريد صانعه الانغماس بها كلياً، ونسيان أسباب مجيئه إلى الأمازون. لهذا ظل يوازن طيلة الوقت بين أسئلة الإعلام وبين قرار المضي في طرق موازية قد توصله إلى النهاية، التي وضعها لنفسه والمتثملة في معرفة مصير الدلافين وحوض الأمازون المتأثر سلباً بنقصان أعدادها.
توقف الوثائقي عند قرار الحكومة البرازيلية المتعجل وغير المدروس بعناية، كونه قطع دون تمحيص مصدر عيش قطاع من سكانها، دون تقديم بديل معقول لهم. اعتيادهم العيش على حساب دماء الدلافين غير مبرر بقلة حيلتهم وخضوعهم لتجار الأسماك، لذلك كان على الحكومة العمل على وقف نزيف الدلافين دون معاقبتهم جماعياً. إلى تلك النقطة سيعود النجم التلفزيوني “راسموسن” ويصلح بعض ما أفسده، عبر اقناعه الحكومة بعودة الصيادين إلى مهنتهم الوحيدة، وفق شروط والتزامات تحمي البيئة وتحميهم معاً.
للوصول إلى الطرف المؤثر “الغائب” حاول “نهرٌ أدنى” الصبور، المتأني في بحثه والعميق في معانيه، والجامع بين كل تلك المواصفات وبين الالتزام بجماليات الصورة وملازمة الكاميرا للأحداث المتغيرة طيلة زمنه، والركون إلى ما تلتقطه عدساتها دون اعتماد على تسجيلات تلفزيونية كان بالإمكان توفرها عن طريق اشراك الصحفي وما يتوفر عليه من خامات فيلمية باعتباره طرفاً فاعلاً في العمل، حاول الوصول إليها عبر رجوعه إلى عالم الأحياء، قبل عودته ثانية إلى بلاده، في محاولة مستبسلة منه لكشف الحقائق المتعلقة بالأسماك “المسمومة” بعد إعلان جهات صحية كولومبية، صحة نِسب الزئبق، التي ذكرها في برنامجه، وتطابقها الكلي مع توصلت إليه مختبراتها. ينقل المشهد الختامي الذي يظهر فيه بصحبة شرطي خاص، كُلف بحمايته أثناء دخوله كولومبيا كباحث، لا يسعى إلى استقصاء الحقائق العلمية فحسب، بل ويكشف فساد حكومات تواطأت مع تجار يغتنون ببيعهم أسماكاً غير صالحة للاستهلاك البشري، قوتها لحوم دلافين رائعة الجمال شديدة الذكاء، أهل الأمازون ما زالهم يعاملونها كـ”كائنات” أسطورية خارجة من مياه نهرهم العظيم ويريدون لها، أن تظل فيها ما دامها مستمرة الجريان بين أراضي غاباتهم الكثيفة!.