يهود “الحاسيديم”.. واقع الغيتو وتمرد الأتباع
يُعتبر الفيلم الأمريكي “واحد منا” (One of Us) الذي أخرجته “هيدي إيوينغ” (Heidi Ewing) و”راشيل غرادي” (Rachel Grady) لحساب شبكة “نتفليكس”، واحدا من الأفلام القليلة التي نجحت أولا في التسلل داخل عالم طائفة اليهود الحاسيديم (Hasidim) في نيويورك، والذين يتركزون أساسا في حي بروكلين ويبلغ عددهم نحو 300 ألف يعيشون داخل ما يمكن وصفه بـ”الغيتو” المغلق على عادات وتقاليد تنتمي للقرن السابع عشر.
وثانيا يتميز الفيلم بموضوعه القوي، لكنه ينجح رغم الإغراء بتبني أسلوب المقابلات المتعددة بمستواه الفني الرفيع. فالمخرجتان الموهوبتان تستخدمان حركة الكاميرا والإضاءة وتكوين اللقطات مع شريط الصوت لإضفاء جماليات خاصة على الصورة، وتقريب الموضوع من المشاهدين في سياق قصصي متعدد الأوجه. يصور الفيلم المحنة التي يواجهها ثلاثة من اليهود الحاسيديم المتدينين الذين يعيشون في مجتمع مغلق بعد أن تمردوا على عالمهم، وأصبح يتعين عليهم -بالتالي- أن يدفعوا الثمن غاليا.
اقرأ أيضا
list of 4 items“اليهود واليهودية والصهيونية”.. الموسوعة التي كادت تقتل كاتبها
يهود يثرب.. الغدر الأول في تاريخ الإسلام
الصعود نحو الشتات – معاناة اليهود المغاربة في إسرائيل
في بداية الفيلم يوحي الأسلوب المستخدم في التصوير بأننا أمام فيلم بوليسي مثير يتميز بالغموض، فاللقطات قصيرة وغير مباشرة والإضاءة خافتة، وهناك شخصيات تتحرك كالأشباح في خلفية الصورة، والموسيقى تكثف الشعور بالتوتر والقلق. هناك امرأة شابة تتحرك لا نرى سوى جانب من جسدها دون وجهها، فما الذي يحدث بالضبط؟ مَن هذه المرأة التي نسمع صوتها الخائف في حين لا نستطيع أن نتبين شكلها أو ملامح وجهها؟ فهي لن تظهر أمامنا كاملة إلا بعد انقضاء الثلث الأول من الفيلم.
إيتي.. من الحاسيديم إلى “فوت ستيبس”
إنها “إيتي” الشخصية الأولى في الفيلم، وهي تتصل بالشرطة في المشهد الأول المصور بأسلوب سينما الحقيقة أو السينما المباشرة وقت وقوع الحدث، تشكو من وجود رجال نلمحهم من وراء زجاج النافذة وهم يطرقون باب منزلها بقوة في منتصف الليل ويهددونها. تطلب “إيتي” المساعدة لكن الشرطي على الطرف الآخر يسألها من هؤلاء؟ فتقول إنهم أقارب زوجها الذي كان يعتدي عليها وجاءت الشرطة وأبعدته عن المنزل، وقد تعهد بالانتقام منها وأرسل بهؤلاء لتخويفها. لكن رجل الشرطة يكتفي بالقول: إنها إذن مسألة عائلية!
تحظر الشريعة اليهودية أن يقوم يهودي بإبلاغ الشرطة عن يهودي آخر، وعبر فصول الفيلم المختلفة تروي إيتي قصتها في سياق متقطع وبالتداخل مع قصص الشخصيتين الأخريين، ومن خلال الكثير من التفاصيل نعرف أنها تزوجت -دون رغبتها- عندما كانت في التاسعة عشرة من عمرها، وكان زوجها في الثامنة عشرة، وقد التقيا وجلسا أمام بعضهما لمدة ثلاثين دقيقة ثم قال لها: لنتزوج. وتزوجا بعد سبعة أشهر، وكان يتعين عليها قصّ شعرها الأسود الجميل، وارتداء باروكة حسب ما تقضي تقاليد اليهود، ولم تفعل “إيتي” شيئا لسنوات سوى إنجاب الأطفال، فأنجبت ستة أبناء وبنات، وكانت معاملة زوجها لها تزداد سوءًا يوما بعد يوم من العنف المنزلي إلى الاعتداء الجنسي.
إننا نرى فقط لقطات قريبة ليَدي إيتي ولساقيها المضطربتين، نلمح جزءا من جسدها وهي تجلس على الفراش تقول إنها أصيبت بالاكتئاب وأدخلت المستشفى. وفي لقطة مفاجئة تغادر إيتي بوابة المنزل لتذهب إلى جماعة “فوت ستيبس” (Footsteps) المكونة من مجموعة من الرجال والنساء كانوا في الماضي ضمن مجتمع اليهود الحاسيديم لكنهم تمردوا عليه وأصبحوا يساعدون كل من يريد المغادرة مثلهم، تماما كما تفعل إيتي التي قررت التمرد على الحياة داخل هذا الغيتو، وقد انفصلت عن زوجها بعد أن فاض بها الكيل، لكنه رفع ضدها قضية يطالب بالحصول على حق رعاية أبنائه الستة.
يَعتبر الحاسيديم جماعة فوت ستيبس العدو الأول في بروكلين، ويحرضون ضدها ويحشدون كل قوتهم المالية من أجل القضاء عليها، فهم يتهمونها بتخريب مجتمعهم التقليدي المتشدد الذي يحظر الكثير من وسائل الحضارة الحديثة.
الجماعة.. وسيلة الحاسيديم الوحيدة للبقاء
لدينا أيضا “آري” وهو أصغر الشخصيات الثلاث.. شاب في الثامنة عشرة من عمره، نراه وقد ذهب إلى الحلاق كي يقص شعره ويتخلص من سوالفه بعد أن تخلص من الملابس السوداء والقبعة التي تُعتبر من العلامات المميزة للحاسيديم. لقد خرج على الطائفة وأصبح يواجه وحيدا مصيره في بروكلين بنيويورك. إنه يراقب ويترقب، يتسلل إلى حفل راقص للشباب في مثل عمره، يقلب صوره المسجلة على جهاز الهاتف المحمول ويشاهد كيف كان يبدو في ملابسه الغريبة، ويقول إنه لم يكن يتعرف على نفسه أبدا في هذا الشكل.. “لم أشأ أن أعيش الكذبة”.

أمام حاخام يدعى يوسف رابابورت يجلس آري، يروي للرجل كيف قطع أصدقاؤه وزملاء دراسته علاقتهم به، يرفضون رد التحية كلما التقاهم، لا يجد الحاخام ما يقوله له إلا أن “الإنسانية ظالمة.. يجب أن يندمج الناس في جماعات وأن يصمتوا ويقبلوا بذلك. هذه هي طبيعة البشر، أن ينتموا إلى جماعة، وقد حافظنا على وجودنا بفضل هذا الانتماء”.
السيدة التي تساعد إيتي في جمعية “فوت ستيبس” تشرح أن ظاهرة الحاسيديم هي نتاج لفترة الحرب العالمية الثانية، إنهم ينتمون ليهود أوروبا الوسطى والشرقية، وقد تعرضوا للاضطهاد وعانوا كثيرا خلال “الهولوكوست”، وعندما انتهت الحرب جاؤوا إلى نيويورك واستقروا في بروكلين وانعزلوا داخل تقاليدهم وملابسهم القديمة بتأثير الصدمة الهائلة التي دفعتهم إلى ضرورة الالتصاق ببعضهم البعض وأن هذه هي الوسيلة الوحيدة للنجاة والبقاء. أي أنهم يعيشون –كما تقول- بعقلية الذين نجوا بمعجزة ما.
الإنترنت.. فخ يهدد شعب الله
في مشهد تسجيلي من الأرشيف نشاهد لقطات لتجمّع كبير من رجال الطائفة بملابسهم السوداء وقبعاتهم وهم يملؤون مدرجات ملعب بورو بارك بنيويورك (بتاريخ 20 مايو/أيار 2012). يقف حاخام مسن يلقي خطابا صاخبا في الجمع الكبير “لقد وقع الكثيرون في الفخ. نحن هنا استجابة لقادتنا الروحيين الذين قاموا بتحديد مخاطر الإنترنت، وهو أمر يهدد وجودنا باعتبارنا شعب الله”. وفي لقطة قريبة يحرك الحاخام يديه بصورة عصبية، وترتفع حدة صوته وهو يقول “لقد رأيت بعيني أشخاصا يعطون أطفالا أجهزة بلاك بيري وآيفون وأجهزة آيباد، هل فقدوا عقولهم؟”.

آري يشاهد الخطاب على شاشة التلفزيون، يتذكر أنه كان حاضرا هناك وسط الجمع، “لقد سمعت للمرة الأولى هناك عن الإنترنت وقد أردت تجربته، وكان موقع ويكيبيديا بالنسبة لي “هبة إلهية”، كان بوسعي أن أقرأ وأعرف عن أي شيء أريده، ولم أكن قد حصلت على أي تعليم، ولم أكن أعرف شيئا عن العالم”. من هنا وجد آري نفسه مشدودا إلى العالم خارج الغيتو.
يقف آري قرب حديقة عامة في بروكلين. يقترب منه رجل من اليهود الحاسيديم بملابسه السوداء وقبعته الكبيرة.
يسأله: هل تتحدث اليديشية (لغة يهود شرق أوروبا)؟
يجيبه: نعم.
يسأله عن موقع إنترنت مجاني قريب، فيشير إليه آري نحو الطرف الآخر من الحديقة.
يقول الرجل: إن الأطفال يتجمعون هنا للذهاب إلى هذا المكان الذي يفسدهم.
يجيبه آري في تحد: أنت في القرن الحادي والعشرين ولن تستطيع أن تقف ضد هذا التطور الطبيعي.
يسأله الرجل: هل أنت واحد منا؟ ثم في اقتحام واضح للخصوصية الفردية التي لا قيمة لها عند هؤلاء: ولكن لماذا تبدو هكذا؟
آري: آه.. أتقصد شعري؟ لقد قصصته.
ينظر إليه الرجل في غضب ويقول: أرجو أن تساعدك وقفتك هنا على التضرع إلى الله أن يعيدك إلى صوابك.
لوزر.. عاشق الأفلام خِفية
الشخصية الثالثة والأكثر جاذبية وإثارة للاهتمام وربما أيضا الأكثر حيوية وتفاؤلا رغم المأساة، هي شخصية “لوزر”. نراه أولا وهو يتمايل على صوت الموسيقى داخل سيارة في ضواحي لوس أنجلوس: إنه في طريقه للبحث عن عمل كممثل، “إنني أحاول أن أعيش بشكل طبيعي، لا أشعر بأنني كنت من الحاسيديم في الماضي”. لقد هجر الطائفة قبل ثلاث سنوات، وأصبح يقيم داخل إحدى سيارات الرحلات (كارافان). لا يريد أن تؤثر صورته السابقة على صورته المستقبلية إذا حدث وأصبح ممثلا، لكنه يذهب إلى نيويورك لكي يبدأ أولا بتمثيل دور شاب من يهود الحاسيديم، فهو يعرف جيدا كيف يقوم بالدور بشكل طبيعي تماما بل ونراه أيضا يقوم بتهيئة شكله ليناسب الشكل الذي اعتاده.

لوزر يقول إن علاقته بالعالم خارج الطائفة المغلقة بدأت من مشاهدة الأفلام. كان يستأجر الأسطوانات المدمجة ويخبئها في العجلة الاحتياطية للسيارة ثم يذهب إلى غابة منعزلة ويشاهدها داخل سيارته. وذات مرة اقترب منه شرطي وسأله عما يفعله فقال إنه يشاهد فيلما، فسأله لم لا يشاهده في منزله؟ فقال: لأنني لا أستطيع.
إنه يتحدث بحماس عن الأفلام ويقول إن علاقته بالدنيا وبالمرح وبالناس بل بكل شيء تنطلق من عالم السينما. ويعترف لوزر أيضا بأنه لم يدرس شيئا عن الدنيا، وليست لديه معرفة أو خبرة في مجال ما. لكنه يعمل سائق سيارة من سيارات شركة أوبر.
عند لوزر أيضا جانبه الحزين، لقد كان متزوجا لمدة ثلاث سنوات لكنه لم يكن سعيدا، ولمدة سنة كاملة لم يتبادل الحديث مع زوجته، فذهبت إلى أمها وطلقته، وعندما اتصل لإبلاغ أمه بالطلاق أغلقت الهاتف في وجهه ولم يتبادل الاثنان الحديث لسبع سنوات، وقد أنجب من زوجته طفلين لكنه لا يراهما وإنما يتحدث معهما بالهاتف أحيانا.
الحاسيديم.. التصويت لترامب
تجوب سيارة شوارع بروكلين، في الطريق كثير من الرجال والنساء من اليهود الحاسيديم يتجهون لقضاء حاجياتهم. صوت يصدر من مكبر صوت معلق فوق سيارة يدعو الحاسيديم إلى الخروج والتصويت لصالح دونالد ترامب الذي يصفه الصوت بأنه “المرشح الذي يفهم أن حقوقنا من عند الله لا من عند الحكومة”.
الطائفة اليهودية المتدينة أسست شركة خاصة لسيارات الإسعاف وشبكة نقل ومدارسها الخاصة، وهي تحظر على أعضائها التعامل مع العالم العلماني: المطاعم والمقاهي، فلديها أماكنها الخاصة. وهي تعلق لافتات تحذر النساء من ارتداء الجوارب التي تظهر بلون السيقان.
تقول الأخصائية النفسية التي تتابع حالة إيتي إن الحاخامات يتحكمون في كل شيء، إنهم لن يسمحوا قط بتمرد أحد على الجماعة وخروجهم عليها بل سيبذلون كل ما يملكون لدفع هذا الشخص للعودة. ويقولون لأبنائهم إن من يخرج يسقط في الجريمة وينتهي إلى السجن، ونحن نشاهد كيف قاموا بطلاء وجوه صور الفتيات في كتب الأطفال المصورة باللون الأسود، تقول المرأة: بهذه الطريقة يُحكمون سيطرتهم.
تعاني “إيتي” من التهديدات المستمرة، يرن الهاتف باستمرار في منتصف الليل داخل شقتها أو أثناء قيادتها سيارتها، نراها وهي تجيب، يأتيها صوت يقول “أنت قذرة، تحملين شيئا ما ضد الله وضد اليهودية، إنك تطلقين النار على نفسك”.
في المحكمة نتابع قضية إيتي لكننا لا نرى الوجوه، فقط مجموعة من الرجال من أسفل يبدون في سراويلهم السوداء. إنها مجموعة المحامين والمساندين لزوج إيتي الذي لا نراه قط سوى في صورة قديمة. نحن في المحكمة العليا في نيويورك، ومن خلال لقطات لأوراق من ملف القضية يتعاقب ظهورها على الشاشة، نتبين أسئلة محامي الزوج وما يقوله الشهود، وإجابات إيتي عن أسئلة القاضي التي تتجاوز المنطق والعقل مثل مع من تختلطين؟ وهل أخذت ابنتك إلى منزل فلان وتعشيتما هناك؟ هل ترتدين سراويل ضيقة؟ هل هناك شيء عن حياتك الخاصة لا نعرفه؟
سينتهي الأمر بأن يأخذوا أبناء “إيتي” منها ويوزعونهم على أقارب زوجها، وسيدخل “آري” المعذب في دائرة إدمان الكوكايين ثم يدخل مصحة للعلاج من الإدمان ويحقق تقدما بعد مئة يوم، ونراه وهو يُستدعى أمام الكاميرا ليروي كيف تعرّض للاغتصاب أمام زملائه من جانب صبي كان يكبره وكان رئيسه في المعسكر الصيفي. أما “لوزر” فسوف يلتحق بورشة للتمثيل حيث يستدعى من تجربته الخاصة، وقد كتب مشهدا قصيرا لحلم رأى خلاله كلبا في الغابة عندما كان في التاسعة عشرة من عمره، وقد أسرع فاحتضن الكلب وأخذ يبكي، لقد كان يشعر بالغيرة من الكلب كونه يتمتع بما لا يتمتع به الإنسان.
وكما تدمع عينا مدرب لوزر، تدمع عينا الحاخام الذي يلتقيه آري في النهاية كي يناقشه في وجود الله. الرجل يأسى لحال الشاب بسبب ما تعرض له في الماضي، لكنه في الوقت نفسه يتطلع إلى استعادته مجددا داخل الجماعة مؤكدا أن هذا هو السبيل الوحيد لإنقاذه!
أشخاص تحت الرقابة.. بقوة القانون
يعتمد بناء الفيلم على الانتقالات المستمرة بين الشخصيات الثلاث، نراهم في حركة دائمة، يتحركون في الفضاء المفتوح قرب البحر أو داخل المسكن، يبحثون عن الصور التي كانت لهم في الماضي، يتطلعون إليها كما لو كانوا يشاهدون أناسا غرباء عنهم (من ضمنها صور حفل زفاف إيتي وزوجها الشاب وهي تبتسم في سعادة). هذه الحركة ونظرات التلصص من الردهات أو التطلع إلى الوراء أو التطلع من فتحة في الشرفة أو عبر مرآة السيارة تعكس شعورا بالقلق بوجود عين تراقب، وهي حقيقة قائمة ملموسة تنجح المخرجتان في اقتناصها لحظة وقوعها شأن الكثير من مشاهد هذا الفيلم.

فنحن نرى كيف تتعرض إيتي للمراقبة من قبل رجل من الحانقين عليها، ثم تروي هي كيف أن جارتها التي تقطن فوق الشقة التي تعلوها مباشرة كانت تقوم بتسجيل كل حركاتها خروجا ودخولا وكل ما تفعله. ورغم أنها كانت صديقتها الحميمة وكانت إيتي تروي لها كل شيء، فإنها لم تتورع وقدمت تقريرا كاملا عنها إلى المحكمة كي يستخدم ضدها.
عندما ترى الشاب الذي يصورها وهي عائدة إلى مسكنها تصرخ إيتي: هل من المعقول أن يحدث شيء كهذا اليوم في نيويورك ويتغاضى القانون عنه؟ لكن صوتها يضيع في الفراغ بالطبع، فالجماعة وحقوق الجماعة والزوج كله محمية ومصانة بقوة القانون.