الصومالي “محمد” ضحية الفكر المتطرف
قيس قاسم

للمخرج الصومالي المُقيم في الدنمارك، “نسيب فرح” وثائقي بعنوان “محاربون من دول الشمال” أخرجه عام 2015 وفيه تناول ظاهرة انضمام صوماليين مقيّمين في دول أوربية شمالية إلى حركة “الشباب” المتشددة وانتقالهم إلى موطنهم الأصلي للعمل بين صفوفها. مقابلاته لعدد من العائدين منهم، والحرية التي تمتعوا بها في التعبير عن أفكارهم وتجاربهم الشخصية، منحته تفرداً عن أفلام أخرى تناولت “ظاهرة”، مازالت عصية على فهم المجتمعات التي نشأوا فيها، وأحد أسباب تفرده يعود إلى فهم مخرجه وكاتب سيناريوه، لموضوع بحثه وقدرته الواضحة على خلق الثقة المطلوبة بينه وبين “أبطاله”، إلى جانب معرفته الجيدة للثقافتين؛ الغربية والصومالية، ومع ذلك ظل فيلمه “تلفزيونياً” في حدود الإستطلاع وعرض العوامل “الطاردة” للمهاجر الصومالي، وأسباب ضعف إحساسه بالانتماء إلى البلاد المُقيّم فيها.
في فيلمه الجديد Lost Warrior يذهب “نسيب” ومعه مساعده الدنماركي “سورين ستين يسبرسين” إلى بحث تجربة مقاتل في حركة “الشباب” اسمه “محمد علي عمر” عمره 23 عاماً، انتقل من بريطانيا إلى مقديشو للقتال إلى جانب مسلحيها، من زوايا جديدة لم نتعرف عليها بذلك الوضوح والعمق في فيلمه السابق ولا في بقية الأفلام المتناولة نفس الموضوع، لما في قصته من خصوصية، وفرت لمُتابعها فرص استماع نادرة إلى صوت “المحارب” وهو في أوج تأزمه الوجودي، يُعبر به عن مشاعره بكل حرية ويبوح بجوانياته عن حقيقة “الكائن” الكامن فيه، والرغبة في فهمه بعيداً عن الأحكام المسبقة والتعامل الجاهز معه كـ”إرهابي” مخيف، لا يتورع عن ارتكاب المجازر وقتل المدنيين العزل!.
في رؤية مخرجه إلى ذلك الجانب “المجهول” تكمن أهمية “المحارب الضائع” على مستوى الموضوع والمعالجة، فيما لعبت ملازمة كاميرة المصور “هنريك بون أبسن” الدائمة له، دوراً مهماً في تعزيز سينمائيته. كاميرته لم تكل لحظة عن الحركة والتقاط كل مشهد وتفصيل مستجد في حكاية تنوعت مستويات سردها واغتنت بموسيقى كتبها خصيصاً لها “كريستيان ايدينس أندرسن” فيما يظل دور المحارب الضائع الأهم؛ لكرمه في التعبير وشجاعته في البوح، عن وجوده القلق، الموزع الآن؛ بين هروب من حركة “الشباب” ورغبة في العودة إلى بريطانيا وعيش حياة عادية مع زوجتة وولده المولود أثناء غيابه.

الأمكنة المهجورة، والخراب المتحرك وسطه محمد نهاراً وليلاً يكمن سراً فيها، خوفاً من انتقام “الشباب” منه بعد تركه صفوفهم، تشي بمأزقه وصعوبة وضعه. كلامه بالإنجليزية مع قريب له من نفس عمره، عاد بدوره من بلد غربي، تعبر ضمناً عن ازدواجيّة تكوين، صارت فيما بعد سبباً لما هو فيه الآن، وإليها تقودنا تجربته عبر دروب متشعبة، إلى فكرة؛ الاختلاف، والبحث عن هوية ومعنى.
الشاب الصومالي الأصل الإنجليزي النَّشأة، هو نتاج حرب أهلية دفعت أهله خوفاً على حياته لترحيله وهو في سن الثامنة من عمره إلى بلد غريب، فيه عاش حياته “يتيماً” عند أقاربه. تكوينه المضطرب ووحدته، قادته إلى مصاحبة أصدقاء سوء، انتهى به المطاف إثرها سجيناً بتهم المتجارة بالمخدرات. من السجن خرج شاباً مختلفاً، بعد مخالطته مسلمين داخله. تأثره بأفكار المتشددين منهم سيقوده للتفكير في ترك بريطانيا إلى بلد أهله الصومال، والانضمام إلى حركة “الشباب” المسلحة، المتشددة في توجهاتها الفكرية والسياسية، كما سيُعلن هو بعد مدة من معايشته الحية لها.
قبل وصوله مقديشو وبسبب نشاطه “المتشدد” سجلته المخابرات البريطانية شخصاً غير مرغوب في وجوده على أراضيها، ولعدم حصوله على الجنسية البريطانية أصدرت أمراً بطرده منها. تلك الخلفية تفسر جانباً من حيرته وستزداد عمقاً عند إضافة مشهد الزوجة وطفله إليها.
تعَّرفَ المحارب المكلف بمهمام غير عسكرية في تنظيم “الشباب”، على “فتحي” حاملة الجنسية البريطانية المرسلة من أهلها إلى مقديشو لإعادة تأهيلها دينياً. تزوجها وهي في سن الخامسة عشر، وبعد مدة عادت وحيدة إلى لندن، وهناك في بيت أهلها رزقت بطفلها “ياسر”. قراره ترك “الشباب” جاء بعد تجربة ميدانية اكتشف خلالها ميلهم لممارسة العنف المنفلت، وإحلال الفوضى في البلاد، وبسببها فكر بالعودة إلى عائلته في لندن. على تلك الحبكة ستدخل قصص كثيرة، لها صلة بمحاولة خروج المحارب من متاهته، وسنتعرف على طبيعة الإنسان داخله، بعيداً بمسافة معقولة من تجربته القاسية مع التنظيم.

يُبدي “محمد” حباً لزوجته وطفله، أحاديثه معهم عبر “سكايب” تفيض به، لكنه يشعر بغصه في حلقه كلما جاءت سيرة عودته إليهم. وضعه كعضو “سابق” في “الشباب” وكعضو “سابق” في تنظيم متشدد في بريطانيا ضيَّعَ عليه الطريقين؛ البقاء في بلاد لا يعرف ثقافتها وعاداتها جيداً والعودة إلى بلد نشأ فيه وطرد منه بلا رجعة!. وسيط نقل مشاعره؛ أحاديثه القصيرة مع صديقه الوحيد ومع زوجته عبر “سكايب” والتلفون وفي مراحل متقدمة من زمن الفيلم (82 دقيقة) سيتجلى جزءاً مهماً وإشكالياً منها أثناء سفره إلى كينيا بطرق غير قانونية.
تحيل حياته هارباً من “الشباب” جزءاً من فهمه المتأخر لطبيعة المجتمع الصومالي، وساعدت تحقيقات الشرطة المستمرة معه على فهم تركيبته السياسية. بسبب ضعف وضعه استسهلت الشرطة استجوابه وسجنه لفترات قصيرة، وبعد مقابلته أحد أقربائه تغير الأمر. لقد جاء قريبه إليه ومعه قبيلته، التي ينتمي إليها، وعلى إثرها صارت الشرطة تعامله على أساس انتمائه. من حوارته معهم سيفهم، أن لا شيء يتحرك في البلاد خارج المعادلة القبلية وأعرافها المتوارثة. سيجد نفسه وبسببها محمياً إلى حد ما لكنه سيظل في نظرهم غريباً بسبب ما نشأ عليه من ثقافة غربية مختلفة!.
على مستوى الحل واجهته مشاكل مع “قبيلته” لرفضهم فكرة خوضه مغامرة “الهروب” وركوب البحر إلى بريطانيا.
ينتقل الوثائقي بانتقال المحارب المطرود إلى عالم التهريب والمهربين. تفاصيلها المعروضة عليه من قبل أحدهم مخيفة أقلها التعذيب في حالة عدم دفعه ثمن تهريبه إلى ليبيا عبر الصحراء والضغط على أهله وتهديدهم، للحصول على ما يريدون. بدلاً منها سنجد أنفسنا في رفقته وهو في طريقه مع والدته إلى مدينة “ايستلاي” الكينية أو “مقديشو الصغيرة” كما يسمونها لكثرة الصومالين الهاربين إليها.

العلاقة الزوجية الآخذة بالفتور، ستأخذ الوثائقي إلى شوارع شرق مدينة لندن، وتنقل لنا مقاطع من حياة الزوجة وتصادمها الدائم مع أهلها، الدافع لها بقوة للتفكير بالإستقلال عنهم. تعقيدات حياتها وصعوبتها ومواجهتها اليومية لأنواع من العنصرية المعلنة تضغط عليها وعلى الزوج اليائس من إيجاد حل نهائي لمحنته.
ما يلفت في اشتغال الوثائقي الدنماركي الإنتاج، انتباهه خلال تسجيله فصول من حياة المحارب الصومالي لأدق التفاصيل المتعلقة بها والذهاب إلى أقصى نقطة من أجل الإحاطة بها وعدم إهمال أي إشارة تسهم في تعزيز معمارة السردي وتقوي من متنه الحكائي، مثل؛ إعلان رغبته الحقيقة في ترك الماضي وراءه، وكيف تجاهلتها السلطات البريطانية ـ رغم أهمية ما تعنيه تلك الخطوة في حياته ـ مثلما رفضت تصديق انسلاخه الكلي عنه. على العكس عملت على إبقائه حاضراً بقوة في معادلة مصالحها الأمنية.
حواره عبر السكايب مع إحدى المحاميات المدافعات عن حقوق الأنسان، عرض عليها رفع دعوة “لم شمل” لأسرته تفضح قساوة القوانين البريطانية وعماها عن رؤية الإنساني، بتجرد من ماضي أعلن “المتهم” طلاقه النهائي معه ومع ذلك ظل “مدموغاً” به، ليظله بالنسبة إليهم؛ ذاك الشخص الخطير المهدد الأبدي لحياتهم. صعوبة تفهم طرده من بلاد عاش وترعرع فيها، ومشاكله المتفاقمة مع زوجته وانغلاق كل الطرق أمامه جرته كلها إلى عزلة وإلى انسجاب داخلي، ستخف وطأته قليلاً عند وصول زوجته إلى كينيا بصحبة ابنه الذي ألتقاه لأول مرة منذ ولادته.

تلك الفترة “المريحة” رغم فشله في الحصول على جواز سفر رسمي، سرعان ما ستتحول إلى كابوس بفعل غعلان زوجته قرار عودتها إلى بريطانيا مع طفلها، لتتركه ضائعاً في متاهته الأفريقية. عند الموضوع الأفريقي يتوقف الوثائقي سريعاً، لاقتراب نهاية رحلته مع المحارب الضائع بين دول وأنظمة ومنظمات متشددة وعلاقات اجتماعية متأثرة بها بقوة. رفض الزوجة عرضه لها بالبقاء في كينيا تبرره بعدم رغبتها العيش في قارة تخلصت من همومها وبؤسها بوصولها إلى لندن ولا تريد لابنها عيش نفس تجربتها فيها، موقف لا يريد المحارب الخوض فيه، فما كان يأمله من عودتها هو أهم بالنسبة اليه، من كل تلك الأماكن والحدود والقوانين، لكنه بدلاً منها دخل في جدل طويل مع والدته وسؤالها عن سبب عدم مساعدتها له في توفير المال للمهربين وتركه وحيداً يوم كان طفلاً في بلاد غريبة دون السؤال عنه طيلة سنوات، وفي ثناياه كان يلمح بشكل مبطن إلى معاقبة قبيلته له ثانية لتركه تنظيماً إسلاميا متشدداً؟.
يترك الوثائقي الباب موارباً في ملاحقة ما تبقى من قصته، القريبة من قصص الأفلام الروائية ذات الحبكات الدرامية الحيوية، فوثائقي “نسيم فرح” السلس في تصعيده الدرامي المشوق، فيه الكثير من أسلوب الاشتغال الروائي، المكتوب بروح حكائية نَقَلها بكل ذلك البهاء البصري المصاحب لها، “أبطاله”، المتعاملون مع الكاميرا وكأنها خيال آلة لم يعِق حركتهم ولا أثر على انسيابية كلامهم المؤثر، مثل بقية القصص الواردة في متنه، والمعلن عن نهايتها بكلمات تظهر على الشاشة السوداء: “محمد” ظل في كينيا مقيماً مؤقتاً، زوجته بعد رفض دوائر الهجرة طلب لّم شمل أسرتها، ظلت تعيش مع أهلها في انتظار خلاص زوجها؛ “المحارب القديم” من متاهته!.