“الجايدة” .. نبش في ذاكرة القهر للمرأة التونسية
وسيم القربي

تُعتبر المخرجة التونسية سلمى بكار من أولى المخرجات اللواتي اقتحمن المجال السينمائي في تونس، وهي سليلة سينما الهواة التي كانت مدرستها الأولى قبل الالتحاق بباريس لدراسة الفنّ السينمائي. أنجزت مجموعة من الأفلام الوثائقية والروائية من أهمّها فيلم “فاطمة 75” سنة 1978 وفيلم “رقصة النار” سنة 1995 وفيلم “خشخاش” سنة 2006، قبل أن تعود لإخراج فيلم “الجايدة” سنة 2017. اشتغلت في الإنتاج وفي معالجة السيناريو لعدّة أفلام تونسية، وعُرفت بنضالاتها المناصرة للمرأة قبل أن تنخرط بعد الثورة التونسية في الحياة السياسية لتصبح نائبة بالمجلس الوطني التأسيسي.
كانت عودتها للسينما عودة قوية حيث شهدت عروض فيلم “الجايدة” نجاحا جماهيريّا كبيرا في تونس بشكل يجعله يسير نحو تحقيق أعلى مداخيل في تاريخ السينما المحلية، في فترة تشهد فيها السينما التونسية قفزة نوعية.
النضالات النسوية في الفترة الاستعماريّة: ذاكرة القهر
يحيل عنوان الفيلم إلى “دار جواد” وهو بمثابة سجن للنساء حيث كانت توضع فيه النساء اللواتي يخرجن عن طاعة أزواجهن أو الفتيات اللواتي يتمّ تعليمهن أصول الزواج وتأهيلهن قبل قدوم الزوج المرتقب، وتتولى تسيير “دار جواد” امرأة مسنّة يُطلق عليها “الجايدة” لها من الخبرة ما يكفي لتأديب النساء وإرجاعهنّ إلى بيت الطاعة ليتمّ إعادتهنّ إلى أزواجهنّ تائبات.
تدور أحداث الفيلم في الفترة المتراوحة بين 1954 و 1955 في مرحلة كانت تونس تسعى فيها للحصول على الاستقلال والتخلّص من الاستعمار الفرنسي.
طيلة 110 دقيقة يقدّم لنا الفيلم مجموعة من النماذج النسوية التي تقيم تباعا داخل “دار جواد” مع التركيز على قصص أربعة نماذج أساسية من محيط اجتماعي مختلف. النموذج النسوي الأوّل هو “بهجة” المرأة الملتزمة بخدمة عائلتها لكنّ القدر يقودها لتكتشف خيانة زوجها “سي الطيب” لها مع أختها “خديجة” في بيتها، وهو ما كان بمثابة نقطة تحوّل في تعاملها مع زوجها حيث انزوت في غرفتها رافضة التواصل مع زوجها متجاهلة توسّلاته ومقاطعة واجباتها الزوجية، ليكون مصيرها حكم القاضي الشرعي إيواءها “دار جواد” إلى حين استعادتها لرشدها.

النموذج الثاني في هذا الفيلم هو “ليلى” المرأة الشابة التي تجد نفسها وحيدة بعد وفاة والديها فتضطر لتتزوج رجلا مسنّا عاجزا جنسيّا لا يستطيع القيام بواجباته. تقود النزوات “ليلى” لتعيش لحظات خفية مع عشيق اعتقدت أنّه الحبيب الموعود لكنّ هذا الأخير يتخلى عنها بمجرّد حصوله على مبتغاه منها. يكتشف الزوج خيانتها فيقرر تقديمها أمام المحكمة الشرعية التي تحكم بإدخالها “دار جواد”.
يراوح الفيلم عبر مونتاج خطّي لينتقل بين فصوله حيث يبرز الانتقال بين فصل وآخر من خلال تلك العربة التي تصل في كلّ مرة إلى بيت الطاعة لتعلن عن امرأة مقموعة بطريقة مغايرة، فالشخصية الثالثة هي شخصية “آمال” التي تجد نفسها في ذلك السجن النسوي بسبب اختلافها مع زوجها حول تدخّل حماتها في كامل تفاصيل حياتهما، ليكون ذلك الاختناق بمثابة عصيان أجبر زوجها على التخلّي عن زوجته بالرغم من محبّته لها، إلا أنّ انصياعه لأوامر أمّه فاقت تعلّقه بها.
أمّا النموذج الرابع، فهو شخصيّة البنت “حسنيّة” اليتيمة الأب والتي يلمحها خالها في الطريق بصدد التحدث مع “عثمان” المناضل الوطني الذي ينحدر من منطقة الشمال الغربي، وهو ما جعله غير لائق بنسب العائلة باعتباره من خارج تونس العاصمة. تُحرم “حسنيّة” من مواصلة الدراسة ويتمّ إدخالها سجن النساء بالرغم من أنّها من عائلة برجوازية.
تتعايش النساء داخل سجن هو عبارة عن مجموعة بيوت، فضاء مغلق موحش تعيش فيه النسوة زمناً لا معنى له بسبب اقترافهنّ لذنب قدّره أزواجهن أنّه مخالفة للأعراف الزوجية والمجتمعيّة وتجاوز للمحظور.
ينقل لنا الفيلم مجموعة من النماذج الاجتماعيّة عبر عدّة شخصيّات نسويّة تلتقي لتجعل الصورة الفيلميّة بمثابة وصف لكلّ شخصيّة على حدة، تطعّمها سلمى بكّار بنماذج نسويّة ثانوية في محاولة لإبراز صورة المجتمع التونسي من ذلك امرأة “زنجيّة” تروي بدورها عذاباتها، حيث كان يستغلّها مالكها جنسيّا إلى حين أن وقعت في شراك أخيه. تبرز لنا العلاقات المتشنّجة وعلاقات التضامن خاصّة مع قدوم كلّ سجينة جديدة إلى أن تصل ذروة الفيلم في ذلك التصالح والتضامن في ما بينها.
أمّا الشخصيّة الرئيسيّة “الجايدة” أو السّجّانة فنكتشف من خلال الفيلم أنّها تلك المرأة القاسية التي تُطوّع النساء وترجعهنّ إلى “الجادّة” مقابل حفنة من المال، حيث تُظهر ذلك الطابع الشرير لشخصيّتها من خلال سرقة بعض أغراض السجينات والاستيلاء على بعض ما يجود به الأهل. كما تُظهر “الجايدة” طابعا داخليا حنونا من خلال تمكين بعض السجينات من الالتقاء بأزواجهن أو أطفالهن، لكنّ الإيحاء الرمزي الذي يلوح من خلال هذه السّجّانة كونها هي المسجونة طيلة حياتها باعتبار أنّها لا تتجاوز عتبة باب “دار جواد” فتبقى منحصرة في ذلك الفضاء المغلق التي تكون فيه العتبة والسّجّانة الرابط بين العائلات والسجينات.

الهيمنة الذكورية وسلبية الجسد الأنثوي…
لطالما عرفت السينما التونسية اهتماما بتعبيرات الجسد وإحالاته الرمزية والفكرية من خلال معالجة قضاياه لا سيّما تلك الرؤى التي تسعى للتخلص من عقدته أو تلك الرؤى الناقدة له. في هذا السياق يأتي فيلم “الجايدة” ليكون بمثابة توثيق لصور من المجتمع التونسي في الخمسينيات، مجتمع يرزح تحت وطأة الاستعمار الفرنسي وتحت سيطرة الأعراف والعادات المجتمعية التي تنتصر لصالح الهيمنة الذكورية وتجعل من المرأة مجرّد جسد قدره العيش في منزل موصد الأبواب ليكون هذا الجسد شيئاً يستجيب لنزوات ورغبات الزوج لا غير. ومن هذا المنطلق الفكري، حاولت سلمى بكار أن تنقل مجموعة من صور المجتمع التونسي في تلك الفترة لتكون بمثابة الوثيقة الاجتماعية التي تدوّن لسنوات من ذاكرة القهر.
تبرز استباحة الجسد الأنثوي في هذا الفيلم عبر ثلاثة مراحل أساسية، المرحلة الأولى تلوح من خلال تهميش مؤسسة الزواج للمرأة واستجابة المجتمع للمنطق الذكوري المهيمن وبالتالي محو الجسد وإبرازه كمجرّد استجابة للشهوة والكبت. أمّا المرحلة الثانية فهي محو صورة المرأة من منطلق القضاء الذي اتّهم المرأة بمختلف طبقاتها الاجتماعية بالعصيان والخيانة والخروج عن الطاعة. المرحلة الثالثة التي تزيد من وحشية قمع الجسد الأنثوي هي سجن النسوة في بيت الطاعة وزيارة أزواجهن لهن هناك، حيث تُبرز المخرجة أنّ هذه الزيارة هي بدورها لا تكون إلا في سياق الرغبة وغواية الجسد. ولعلّ ما تمّ إبرازه من هيمنة ذكورية وسلبية أنثوية في هذا الفيلم يُثير جانبا آخر من سعي امرأة الخمسينيّات لتحقيق كرامتها والحفاظ على شرفها بعد أن تمّ توصيفها بالخيانة الزوجية في العديد من المشاهد وبالتالي الثأر من الرجل ليكون انتحار “ليلى” إحالة على رمزية الانتقام.
الفيلم هو مرحلة وصف وترقّب في فترة فارقة من تاريخ تونس، حيث يسود الصمت بين النسوة السجينات وتكتفي المخرجة بنقل العلاقات الاجتماعية الجديدة التي تولد في سجن النساء، ومراقبة الشارع من نافذة علوية كانت بمثابة بصيص من الأمل لتحرّر المرأة التي سيكون الزعيم بورقيبة محرّرها…

شذرات من ذاكرة المقاومة الوطنية وجماليات التصوّر النسوي في السينما التونسية…
يرتكز فيلم “الجايدة” على ثلاثة محاور فكرية أساسيّة وهي رصد الواقع الاجتماعي ونقل صور من النضال الوطني من أجل تحقيق الاستقلال وبصفة ضمنيّة تصوير للمخاض السياسي الوطني.
تنقل لنا سلمى بكار شذرات من المقاومة الوطنيةمن خلال شخصيّة “عثمان” الذي تُبرزه عاشقا للبنت “حسنيّة” وفي نفس الوقت مناضلا وطنيّا بشكل سرّي ضدّ الاستعمار الفرنسي، وقد آثرت المخرجة أن لا تركّز على الوصف الدقيق وإبراز الملاحم الوطنيّة والاقتصار على التناول الاجتماعي مقابل سرد سريع وتذكير بالنضال التونسي في منتصف الخمسينيّت.
أمّا على مستوى الخطاب السياسي الوطني فقد أشار الفيلم إلى ذلك التنافس الخفيّ حول هويّة البطل القومي الذي حقّق استقلال تونس وبالتالي إثارة ذلك الانقسام التاريخي بين الاتجاه البورقيبي والاتجاه اليوسفي…
اعتمد الفيلم في نهايته على التاريخ الحقيقي من خلال إدماج مشاهد وثائقية تمّ تصويرها سنة 1955 مع عودة الحبيب بورقيبة إلى ميناء حلق الوادي واستقبال شعبي حاشد بمناسبة الحصول على الاستقلال، وقد اعتمدت المخرجة على دمج شخصياتها الفيلمية في تلك المشاهد الوثائقية لتجمع بين الوثائقي والروائي.
مع عودة الزعيم الحبيب بورقيبة إلى تونس في جوان 1955 والحصول على الاستقلال الداخلي، تمّ إلغاء المحاكم الشرعيّة وغلق “دار جواد” وإصدار مجلة الأحوال الشخصيّة سنة 1956 التي أعادت الاعتبار للمرأة التونسية وحرّرتها من التبخيس والقمع الذكوري.

الفيلم هو مقاربة بين تحرّر المرأة المرتبط بتحرير تونس من الاستعمار الفرنسي، وهو نبش في التاريخ، ولو أنّ ذلك لا يمنع من الحديث عن زيفه إلاّ أنّ إعادة صياغة مشاهد الخمسينيّات هو نوع من حنين الذاكرة وتكريم لنضالات المرأة التي بيّنتها سلمى بكار مستندة إلى تجربتها السياسيّة، حيث ينتهي الفيلم بابنة إحدى السجينات بعد مرور نصف قرن، حيث تبرز هذه البنت كنائبة في البرلمان التونسي بصدد الدفاع عن امرأة الحداثة خاصة بعد المخاض العسير الذي شهدته تونس بعد الثورة، وهي إشارة من المخرجة أنّ نضال المرأة التونسية لا يزال متواصلا من أجل تحقيق المزيد من المكتسبات.
يلوح جليّا من خلال العودة إلى مسيرة المخرجة سلمى بكار أنّ جماليّاتها وفكرها السينمائي انطلق منذ السبعينيات مع فيلم “فاطمة 75” مواصلا بأفلام أخرى محمّلة بمواضيع مناصرة للمرأة وتهتم جلّها بقضاياها الخاصّة. ولعلّ ما يميّز السينما التونسية هو ذلك الانفتاح الفكري وانخراط المخرجات في التعبير عن أفكارهن وقضاياهن عبر صور ذاتية من خلال تحقيق مدوّنة فيلمية مهمّة أضافت لتاريخ السينما التونسية جماليات خاصة وخطابا فكريّا يحيل على مكانة المرأة في تونس. وفي هذا الإطار يمكن أن نستذكر فيلم “صمت القصور” للمخرجة مفيدة التلاتلي سنة 1994 والذي عزّز المقاومة النسويّة سينمائيا، كما يمكن أن نذكر تجارب متحرّرة أخرى مثل فيلمي “الستار الأحمر” و”الدواحة” لرجاء العماري وأفلام نادية الفاني وكوثربن هنيّة ومجموعة مهمّة من السينما الشابّة عبر تجربة الفيلم القصير.
لقد برزت صورة المرأة منذ بدايات السينما في تونس وتجلّت عبر صور عديدة منها صيغ الانسحاق والهزيمة وإبراز وعي نكوصي وتسليع الجسد إلا أنّنا نجد العديد من الأفلام التي عبّرت عن الجسد المتحرّر وعن إبداعية عادلة بشكل جعل النظرة السينمائية بحث عن جسد بديل وتحديّا للمراجع الاجتماعية المبخّسة له.
