“سبيلبرغ” طفل هوليوود المدلل

أمير العمري

يعمل فيلم "سبيلبرج" Spielberg (2017 على الإحاطة بشخصية المخرج الكبير ستيفن سبيلبرج الذي تجاوز الثمانين من عمره، وفهم تجربته السينمائية التي امتدت لما يقرب من نصف قرن.

خلال ما يقرب من ساعتين ونصف الساعة، تسعى سوزان لاسي Susan Lacy مخرجة الفيلم التسجيلي الجديد “سبيلبرغ” Spielberg (2017) للإحاطة بشخصية المخرج الكبير ستيفن سبيلبرغ الذي تجاوز الثمانين من عمره، وفهم تجربته السينمائية التي امتدت لما يقرب من نصف قرن، كنموذج بارز لفنان السينما الذي يعكس الولع الأمريكي الخاص بالسينما، بالخيال المصور، بالعالم الذي يتجاوز الواقع ويحلق إلى أقصى درجات الخيال.   

قليلة للغاية هي الأفلام التي أخرجها سبيلبرغ ولم تحقق نجاحا، فمعظم أفلامه حققت نجاحا كبيرا بل أصبحت من أساطير هوليوود ومن أكثر الأفلام تحقيقا للنجاح التجاري في كل العصور. وحتى أشد نقاد سبيلبرغ تعصبا لسينما الفن ورفضا لسينما “التوليفة” التجارية المثيرة، يعترفون بأن “طفل الأستديو” نجح في فرض اسمه مبكرا، كأحد مؤلفي الأفلام الكبار في العالم.

سبيلبرغ نتاج للخيال الأمريكي الجامح، ولكنه أيضا، حالة خاصة من بين أبناء جيله المخرجين، فهو “طفل الأستديو” الذي لم يدرس السينما، بل تعلمها من خلال الممارسة والمشاهدة، فنحن نعرف  من خلال هذا الفيلم التسجيلي، أنه كان يتسلل إلى مواقع التصوير داخل مدينة يونيفرسال السينمائية في هوليوود، ليشاهد تصوير الأفلام وهو لايزال بعد في الثانية عشرة من عمره. وقد شاهد ذات مرة هيتشكوك وهو يخرج فيلما، وعندما ضبطه مساعدو المخرج الكبير قاموا بطرده. لكن كيف اكتشف “ستيفن” السينما؟

لقد أهداه والده المهندس، كاميرا من مقاس 8 مم، أخذ يصور بها الأفلام متأثرا بما كان يشاهده في التليفزيون والمجلات المصورة والقصص التي كان يروها له أبوه عن الحرب العالمية الثانية. وقد أراد أن يصبح مخرجا سينمائيا. وعندما شاهد فيلم “لورانس العرب” وكان في السادسة عشرة من عمره، أصبح على قناعة بأنه لا يمكن أن يصبح مخرجا، فقد وجد- كما يقول حرفيا في الفيلم- أن “السقف مرتفع كثيرا”. لكنه عاد لمشاهدة “لورانس” مرات ومرات، وأصبح مفتونا به كثيرا. وسيسعى دائما إلى بلوغ مستواه من ناحية الاهتمام بالصورة.

يعتمد فيلم “سبيلبرغ” على المزج بين سلسلة من المقابلات التي صورتها المخرجة سوزرا لاسي مع سبليبرج نفسه في أماكن متعددة عبر عام كامل، في نيويورك ولوس أنجليس وبرلين أثناء تصوير مشاهد من فيلم “جسر الجواسيس” (2015)، وبين مقاطع عديدة من أفلامه، والكثير من الصور الفوتوغرافية وأفلام الـ 8مم التي صورها ومنها أفلام عائلية يظهر فيها مع والديه وشقيقاته الثلاث اللاتي يظهرن في الفيلم في الزمن الحالي، يلقين الأضواء حول شخصية سبيلبرغ في طفولته: كيف كان وما الذي كان يحرك خياله، وكيف بدا مختلفا عن غيره من الأطفال، بل يعترف سبيلبرغ بأنه كان كثيرا ما يتعرض للاعتداءات من جانب زملائه في المدرسة، ويمكن بالتالي فهم لماذا كان يفضل الهرب من الواقع إلى الخيال. ويعتبر سبيلبرغ أهم وأفضل المخرجين الذين تعاملوا مع الخيال وجعلوا السينما كتابا مفتوحا ممتدا من الصور المتحركة، ولم يكن خياله يتوقف عند أي حد.

في الفيلم أيضا مقاطع من بعض البرامج التليفزيونية من أوائل السبعينيات، يظهر فيها سبيلبرغ- وهو شاب، ضيفا على البرامج الحوارية الشهيرة، باعتباره ظاهرة جديدة خاصة في السينما، خاصة بعد ما حققه فيلم الشهير “الفكاك” (أو الفك المفترس) Jaws من نجاح تجاري غير مسبوق في العالم. وتتوقف مخرجة فيلمنا هذا طويلا عند تجربة سبيلبرغ في هذا العمل، وكيف أنه فضل عدم إظهار سمكة القرش كثيرا مفضلا استخدام فكرة البراميل المتحركة التي تطارد القرش تمهيدا للإيقاع به واصطياده، كما كان يهتم بتصوير رد فعل الناس على ظهور القرش، والأهم، أن سبيلبرغ أصر على تصوير الفيلم في المحيط وليس كما كان يريد منتجو الفيلم، داخل بحيرة خاصة مجهزة في ستديو يونيفرسال السينمائي.

ولكن كيف أمكن أن يتمتع سبيلبرغ بثقة “يونيفرسال” بحيث أسندوا إليه فيلما كبيرا كهذا؟  من أهم الشخصيات التي تظهر في الفيلم سيد شاينبرج مدير شركة يونيفرسال في ذلك الوقت، الذي ذهب اليه سبيلبرغ وعرض عليه بعض الأفلام التي صورها بنفسه بالكاميرا الصغيرة، ولكن أيضا- فيلمه الأول الذي أخرجه للتليفزيون بميزانية صغيرة وهو فيلم “المبارزة” The Duel فعرض عليه الرجل أن يتعاقد معه لمدة سبع سنوات متعهدا بدعمه سواء في حالة النجاح أو الفشل.

يعتمد فيلم "سبيلبرج" على المزج بين سلسلة من المقابلات مع سبليبرج نفسه ، وبين مقاطع عديدة من أفلامه، والكثير من الصور الفوتوغرافية.

الثقة والإصرار

عن “المبارزة” يروي سبليبرغ كيف أن المسؤولين عن الإنتاج أرادوا أن يقوم بتغيير مشهد النهاية الذي ترتطم فيه الشاحنة الضخمة بالسيارة الصغيرة بعد أن يقفز منها الراكب، وتسقط من فوق ربوة جبلية إلى الهاوية دون أن تنفجر. فقد أراد المنتجون تصوير انفجار الشاحنة واشتعال النيران فيها. لكن سبيلبرغ رفض وأصر على التمسك برؤيته الخاصة التي تتمثل في خلق الإثارة من خلال التركيز على لقطات لتسرب البترول من مخزن الشاحنة، واستمرار عجلة القيادة في الدوران لبرهة إلى أن تتوقف، وتصاعد الدخان من بطن الشاحنة.. بحيث يجعل المتفرج يشعر بما نالته هذه الشاحنة الشريرة من عقاب، كما لو كانت كائنا حيا يلفظ أنفاسه الأخيرة.  هذه الرؤية التي تعكس اهتمام سبيلبرغ بالتفاصيل الدقيقة في الصورة السينمائية، وعلاقة اللقطات ببعضها البعض ستصبح فيما بعد من العلامات المميزة لسينما سبيلبرغ في أفلامه الكبرى الشهيرة مثل “لقاءات قريبة من النوع الثالث” و”إي تي” و”الحديقة الجوراسية”.

سوزان لاسي تحاول العثور على صلة ما تربط بين الحياة الشخصية لسبيلبرغ وبين أفلامه وما تصوره من شخصيات وقصص وأحداث. إنها تنقب وتوجه الأسئلة سواء إلى ستيفن نفسه أو إلى شقيقاته الثلاث، أو إلى الذين عملوا معه. في البداية تكشف عن جانب شخصي في حياته يرتبط بانفصال والديه عندما كان في الثامنة عشرة من عمره. كان السبب الحقيقي للطلاق وقوع الأم في حب أقرب أصدقاء الزوج ورغبتها في الطلاق لكي تتزوج من عشيقها كما حدث بالفعل. لكن والدي سبيلبرغ اتفقا على أن يعلنا لأبنائهما أن السبب هو الأب نفسه، أي أنه هو الذي طلب الطلاق. هذه الكذبة التي أراد الأب من خلالها كما يقول في الفيلم حيث يظهر وقد بلغ المائة عام من عمره، أن “يحمي صورة الأم”، تسببت في ابتعاد الابن عن أبيه وانقطاع العلاقة بينهما لخمس عشرة سنة، قبل أن تحدث المصالحة بعد أن يعرف الابن الحقيقة. ينطلق الفيلم من تلك النقطة لتسليط الضوء على فكرة تأثير انفصال الوالدين وكيف انعكست على أفلام سبيلبرغ. فقد أصبح من الممكن، على سبيل المثال، النظر إلى فيلم “إي تي” باعتباره فيلما عن طفل يعاني من انفصال الوالدين، ومن غياب الأب بوجه خاص، فيذهب إلى عالم الخيال وعندما يلتقي بالكائن الغريب القادم من الفضاء يصبح انتماءه الجديد.

الزاوية الأخرى التي يخصص لها الفيلم قسما لا بأس به، تتعلق بيهودية سبيلبرج التي كان ينكرها في طفولته وشبابه.

جيل سبيلبرغ

يتوقف الفيلم أيضا أمام علاقة سبيلبرغ الخاصة ومهارته في التعامل مع الممثلين الأطفال. وفي الفيلم لقطات نادرة له مع درو باريمور (التي كانت طفلة شاركت في فيلم إي تي) مع زميلها كيفن مارتل. وتتحدث باريمور في الفيلم عن علاقتها بسبيلبرغ وكيف كان يديرها، لكن الشخصيات الأكثر بروزا التي نراها في الفيلم هي شخصيات السينمائيين الذين ظهروا في نفس الوقت مع سبليبرغ وكانوا بمثابة جيل جديد جاء إلى هوليوود في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات مثل فرانسيس كوبولا ومايكل سكورسيزي وبريان دي بالما وجورج لوكاش الصديق المقرب من سبيلبرغ والذي شجعه وأنتج له سلسلة أفلام “انديانا جونز” التي تتوقف عندها المخرجة لكي ترصد سيطرة فكرة العلاقة بين الأب والابن، من خلال تصوير العلاقة بين هاريسون فورد وشون كونري في فيلم “انديانا جونز: الحملة الصليبية الأخيرة” كمثال.

لم تترك سوزان لاسي أحدا من الذين عملوا مع سبيلبرغ إلا وجاءت به إلى فيلمها، وكثيرا ما فشلت في منح الكثيرين منهم المساحة الزمنية المناسبة للحديث، أو أنها بترت المقابلات حفاظا على زمن الفيلم خاصة أنه من إنتاج شركة إتش بي أوه HBO التليفزيونية. ومن هؤلاء توم كروز وأوبرا وينفري وليوناردو دي كابريو وهاريسون فورد وداستين هوفمان وكريستيان بيل وسالي فيلد وتوم هانكس وهولي هانتر وبن كنجسلي.. وغيرهم، كما يظهر عدد من أهم الفنيين الذين عملوا معه طويلا مثل مدير التصوير الراحل فيلموس زيجموند، ومدير التصوير يانوش كامنسكي، والمؤلف الموسيقي جون وليامز (صاحب الموسيقى المميزة في فيلم “الفكاك”). وكان معظمهم يلقون ببعض كلمات التقدير والإشادة، بحيث كثيرا ما بدا الفيلم أقرب ما يكون إلى أفلام التكريم، لا ينقذه من هذا الطابع السطحي سوى تخصيص مساحة جيدة لتسليط الضوء على العلاقة بين أبناء جيل سبيلبرغ من المخرجين الذين كما يقول كوبولا في الفيلم، بدأوا بدايات متواضعة وكافحوا لإقناع ستديوهات هوليوود بمواهبهم، ثم حققوا جميعا نجاحات كبيرة. ولكن سبيلبرغ يظل حالة خاصة بين أبناء جيله، كونه طفل هوليوود المدلل الذي جاء من داخل الإستديوهات وكان حريصا على إرضاء المنتجين، وهو ما يأخذه عليه بعض من يتحدثون في الفيلم من النقاد، الذين يشرحون تأثير ما يقدمه من تنازل على حرية المخرجين، بينما يصر هو أنه تمكن بفضل ما حققته أفلامه الأولى من نجاح تجاري، من الإعلاء من شأن المخرج، وأصبح بالتالي يتمتع بحريته في فرض ما يشاء من أفكار.

يتوقف الفيلم أيضا أمام علاقة سبيلبرج الخاصة ومهارته في التعامل مع الممثلين الأطفال.

العودة إلى اليهودية

الزاوية الأخرى التي يخصص لها الفيلم قسما لا بأس به، تتعلق بيهودية سبيلبرغ التي كان ينكرها في طفولته وشبابه، رغم أننا نشاهد من خلال صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود، كيف كانت نشأة سبيلبرغ في طفولته نشأة يهودية أصولية (ضمن يهود الحسيديم) بتأثير جديه اللذين جاءا كمهاجرين إلى أمريكا من أوروبا الشرقية. لكنه وجد نفسه تدريجيا- كما يقول- يرفض يهوديته، ويخفيها بل ويتجاهلها تماما (هناك حديث عن ما ناله من زملائه في المدرسة من أذى لكونه يهوديا).. وقد تزوج في البداية من إيمي إيرفنغ وأنجب منها ولدا، لكنه انفصل عنها بالطلاق (يقول في الفيلم إنه شعر بالأسى من تكراره ما  سبق أن فعله أبوه وانعكس سلبا على طفولته).. ثم تزوج كيت كابشو عام 1991 التي لم تكن يهودية. وهي ستلعب دورا كبيرا في تغيير حياته لأنها أصرت قبل الزواج على اعتناق اليهودية، ومن هنا بدأ سبيلبرغ في العودة إلى اكتشاف يهوديته، ثم أخرج فيلمه الشهير “قائمة شندلر” (1994) بعد أن ظل يؤجل المشروع لعشر سنوات. ومن الواضح أن سبيبلبرغ لم يكن يرغب في أن ترتبط صورته لدى الجمهور الأمريكي بيهوديته شأن الكثير من السينمائيين اليهود في الولايات المتحدة الذين يميلون أكثر إلى التماثل مع عموم الأمريكيين، يخفون يهوديتهم ويتخذون لأنفسهم أسماء غير يهودية. ومن الطريف أن سبيلبرغ يروي في الفيلم كيف كان يخجل من جيرانه عندما كان جده يأتي إلى منزل الأسرة ويناديه وهو مازال على عتبة الباب باسمه اليهودي “شلموتيل”!

يتوقف الفيلم طويلا أمام العمل في “قائمة شندلر”، كيف كان سبيلبرغ يشعر بوطأة العمل وهو في معسكر أوشفتز الذي جرى فيه تعذيب اليهود، ثم أمام الممثلين الألمان الذين يقومون بأدوار الجنود النازيين، ثم يروي الممثل ليام نيسون كيف شعر بعدم الارتياح من طريقة سبيلبرغ وهو يدفعه لأداء مشهد معين مرات عدة كما لو كان من الممثلين المبتدئين، وذهب يشكو ذلك إلى زميله بن كنجسلي الذي طالبه بالتروي وقبول الأمر والانسجام مع عالم سبيلبرغ وأسلوبه.

ينتهي الفيلم بالممثل دانييل داي لويس (الذي يظهر بعد إعلانه اعتزال التمثيل) لكي يتحدث وهو يضحك مستعيدا تجربته في العمل مع سبيلبرغ في فيلم “لينكولن” الذي نال عنه جائزة الأوسكار للمرة الثالثة، ويقول إن سبيلبرغ سيظل حتى آخر يوم في حياته، يواصل حماسه في صنع أفلامه كما لو كان مدفوعا بقوة سحرية.

يعاني الفيلم بعض الشئ من تزاحم الشخصيات، والانتقال بين المقابلات المختلفة، والالتزام بالتوافق بين الصوت والصورة بشكل آلي، أي بين ما يتحدث عنه المتدخلون وما نراه من لقطات من الأفلام، وكذلك من ازدحام الكثير من المقاطع من الأفلام. وعلى حين أرادت المخرجة اتباع طريقة العرض الكرونولوجي (الزمني) في التعامل مع أفلام سبيلبرغ، إلا أنها بدأت تقفز بين الأفلام من دون ترتيب زمني، تعود الى فيلم سابق لتربط بينه وبين ما يقوله سبيلبرغ، ومن دون أن يمنع هذا من غياب بعض الأفلام غيابا تاما، ففي مقابل التركيز على “انقاذ الملازم ريان” و”ميونيخ” كمثالين على اتساع دائرة اهتمامات سبيلبرغ، يغيب أي ذكر لأفلام مثل “تقرير الأقلية” Minority report و”نهاية الخط” The Terminal وغيرهما،

لكن “سبيلبرغ” يظل رغم ذلك، مرجعا بصريا شديد الأهمية لفهم سيكولوجية شخصية وأفلام هذا الطفل الذي يصف نفسه بأنه “لا يكبر أبدا” والذي يعتبر السينما وسيلة للعلاج النفسي!

 

 


إعلان