“الرجل خلف الميكروفون” ينصف سيناترا تونس
قيس قاسم

لم تأتِ المخرجة السينمائية البريطانية من أصول تونسية “كلير بلحسين” إلى تونس لإنجاز فيلم وثائقي عن المغني والملحن المشهور “الهادي الجويني” الملقب لحلاوة صوته وإسهاماته في تجديد وتطوير الأغنية العربية والتونسية بشكل خاص ب””فرانك سيناترا تونس”، في إطار تخطيط مسبق أو في سياق إنتاج سينمائي عادي، بل لعبت عوامل شخصية وأخرى استثنائية غريبة في ظهوره من بينها؛ إنها في الأصل حفيدة “الهادي” والأكثر غرابة في هذا الجانب جهلها التام بمدى شهرة جَدها في بلاده، وكونه واحداً من ألمع النجوم في سماء فنها، وصار أيقونة في حقل الغناء والموسيقى التونسية.
يضاف إلى “غرائبية” مشروعها اكتشافها الجَد “الفنان” بالصدفة يوم صعدت سيارة أجرة وسمعت صوتاً شجياً يتسرب برقة من مذياعها، وحين سألت عن صاحبه عرفت من السائق أنه جدها الفنان “الهادي الجويني”. صُدمت لحظتها كونها وطيلة سنوات حياتها لم تكن تعرف قيمة جَدها ولا حقل اختصاصه، والأغرب أن والدها “ابنه” لم يخبرها شيئاً عن مجده من قبل، ما دفعها للبحث عن أسباب “التَجهيل” والذهاب بنفسها للسؤال عن جَدها في موطنه؛ تونس.
هكذا ولد فيلم The Man behind the microphne خليطاً من تجربة بحث شخصي ورغبة في رصد حياة مبدع، زامن مراحل طويلة من تاريخ بلاده الحديث، ومن عمق بحثها وتفرد أسلوب اشتغالها، وسعة مساحة أحداثه مكانياً وزمانياً اكتسب نصها أهميته، ولكونه أيضاً لم يكتفِ برسم “بورتريه” شخصي عن الفنان/الجَد فحسب، بل أرادته صانعته وفي أول عمل وثائقي طويل لها، أن يكون بحثاً عن جذورها هي وملاحقة لحيوات لازمت تجربته وتأثرت بتقلبات حياته، فكان لا بد لها من جمعها ثانية حتى تكتمل صورته في إطارها “التونسي” وارتباط ثقافات أخرى بها، عملياً تمثل هي واحدة منها.

وتريد الآن لملمة ما بقي منها لإحياء شجرة عائلة والتعرف على إرث فني كبير تركه “الجويني” بعده، لهذا جاء فيلمها مليئاً بالتفاصيل مشحوناً بالعواطف مكتوباً بلغة سينمائية شعرية أضفت الموسيقى وحلاوة صوته إلى متنه جمالاً، قد يفسر جانباً من أسباب استغراق إنجازه زمناً طويلاً، قارب عشر سنوات قضتها صانعته تنقب في أرشيف كبير وتقابل شخصيات لازمته من قرب إلى جانب محاولاتها الحثيثة لإقناع أفراد عائلته/ عائلتها بالبوح أمام كاميرتها، الذي لا يأتي إلا بعد الاطمئنان إلى الشخص الواقف وراءها ويريد (هذة المرة استثناءً) معرفة جزء من تاريخه الشخصي من خلالهم!.
أعطت لنفسها بلحسين حق لعب دور “الرابط” بين الأحداث والشخصيات إلى جانب دورها كمخرجة، وبخبرتها المهنية في حقل السينما التي درستها في أرفع أكاديمياتها البريطانية وعملها في حقول الإنتاج السينمائي، حددت لنفسها خطوطاً حمراء لا يصح تجاوزها، فجاء دورها لهذا خفيفاً، يسمح لها بالغياب في اللحظة التي ينبغي لها الوقوف خلف الكاميرا، إلى جانب ملاحقة الأحداث والشخوص وفق تصاعد مواقفها وثقل حضورها، فيما تركت الجزء المهم من منجزها للمونتاج (قام به المونتيران جوني جي وآدم فينيش) وحمل بجدارة على عاتقه الوثائقي، لأن “الرجل خلف الميكروفون” أغلبية نسيجه الدرامي معتمد على الصور والتسجيلات الفيلمية القديمة والفيديو (العائلي) أضيفت إليه مقابلاتها الحية وغالباً ما كانت تأتي بعد عثورها على تسجيل أو صورة تتعلق بجانب من حياة فنان كبير، اشتغل إلى جانب الموسيقى والغناء في حقول المسرح والسينما، وصار خلال ما يقارب ستة عقود عَلماً من أَعلام ثقافة تونس المتمسكة بموروث حضاري عربي/ إسلامي والمنفتحة دوماً على ثقافة غربية.
تسجيلات كاميرا والدها لها أثناء زياراتهم الصيفية القليلة إلى تونس، قبل أن تنقطع نهائياً عند بلوغها سن الخامسة عشرة وبالتحديد بعد موت جدها (1909 ـ 1990)، تشي بانفتاح مجتمعي على ثقافة غربية وعلى تماسك عائلي لكن ما يُبيحه “فريد” لها بعد سؤالها له عن سبب انقطاع الزيارات يعكس تمزقاً داخلياً وتشتتاً لعب “الجويني” فيه دوراً. أراد والدها ترك الماضي كله وراءه وعيش حياة جديدة يتحرر فيها من أعباء “الوالد” البديل، كونه الأكبر بين إخوته وغياب والده الدائم عن البيت، فرض عليه واجبات ثقيلة ستُثقلها لاحقاً خلافات الوالدين فيما بينهما، بسبب التفاف النساء المعجبات حوله، فكان ترك تونس عام 1969 حلاً شخصياً له.

ذلك الجانب مهد للدخول في جوانب أخرى من حياة الأسرة المتأثرة بتحولات تونس السياسية والاجتماعية وبحياة الأب/ الفنان. من بين أسباب عدم اكتراث والدها بنقل قيمة والده لها؛ بساطة الجَد. فـ”الجويني” لم يكن وسط عائلته ميالاً لفرض شخصيته الفنية وفي مراحل متقدمة من الفيلم سنفهم أنه لم يكن يريد لأولاده وبخاصة بناته وزوجته صاحبة الصوت الجميل الاقتراب من ذلك العالم، الذي ظل على المستوى الاجتماعي، رغم انفتاح تونس وتأثرها بالثقافة الفرانكوفونية، “ممجوجاً”.
بعد عقدين تقريباً جاءت بلحسين لزيارة تونس وهناك بدأت رحلة اكتشافها الجَد/الفنان. لم تصدق كل ذلك الحب الذي يكنه الناس له حتى اللحظة، وخلال تجوالها في الشوارع والحارات ومقابلاتها الناس في المطاعم واستماعها إلى المختصين بالموسيقى وبعض الأدباء والكتاب عرفت قيمة الرجل، الذي تبحث عنه، وحتى تعطيه حقه وتُعيد سرد حياته استغلت كل ما تملك من قوة التعبير التشكيلي والبصري السينمائي لتوصيلها، فجاءت صورته في وثائقيها البريطاني التونسي القطري الإنتاج باهرة، بعيدة كل البعد عن تلك الشكلية المحذومة منها كل سيئاته. كان يهمها الدخول إلى صندوق العجب التونسي، وهي التي لا تعرف العربية، من خلال المفتاح السحري؛ جَدها. كان هو حقاً مفتاحها للولوج إلى تفاصيل بلاد لم تعرفها إلا قليلاً وإلى عائلة كادت خلال عشرين عاماً أن تنساها، وعليه راحت تتابع مسار حياته بجزئياتها المثيرة للإعجاب. لم تترك مرحلة دون التوقف عندها ولم تترك ملاحظة لها علاقة بتكوينه النفسي والفني إلا وسجلتها.
انطلقت من البيت الذي ترعرع فيه وسط العاصمة تونس وسجلت تأثره مبكراً بـ”الفلامنكو” الإسباني، الذي تعرف عليه من خلال فرق أجنبية كانت تقدم عروضها في ساحات المدينة القديمة. كم سحرته تلك الرقصات وتمنى تقليدها!. سيطلب من والدته إقناع زوجها بشراء آلة موسيقية لكنها كانت تعرف استحالة موافقة الأب فقررت هي شراء آلة عود صغيرة له. تلك الآلة العجيبة ستُخرج كل مكنونات إبداعه الكامنة في داخله.
مسار بحث الحفيدة عن جَدها وضعها أمام صورتين؛ الأولى ثابتة مُشكلة من أيام زياراتها الصيفية القليلة. تتذكره فيها أنيقاً قليل الكلام حلو الملامح لكنها اليوم تكتشف فيه العبقري، المغني والموسيقار الميال إلى التجديد والجمع بين جماليات الموسيقى الغربية والشرقية وفي مراحل معينة من حياته سيمثل ذلك الجمع تحدياً، ورفضاً من قبل الفنانيين المحافظين المتمسكين بأصولية موسيقية عربية.

من الانتباهات الذكية للمخرجة بلحسين توقفها عند التفاصيل الصغيرة الواردة في أحاديث من قابلتهم. أحد مشاهير الموسيقى التونسية سيُعيب عليه عدم لبسه الزي العربي، كما سيُعاب عليها عائلياً جهلها بالعربية، التي كان التشبث بها نوعاً من التعبير عن رفض للثقافة الغربية والتي ستتجلى أكثر بعد تحرير تونس من الطغيان الأجنبي وظهور رغبة شعبية تدعو إلى الاحتفاظ بموروثها الثقافي العربي/ الإسلاموي. لم يكن “الهادي” سياسياً بالمعنى المتعارف عليه لكنه كان وطنياً وفناناً منفتحاً منذ نعومة أظافره، لهذا أحبه الناس وواجهته أيضاً بسبب حبهم له مشكلات وتحديات تَمكنَ من تجاوز الكثير منها بقوة ما كان يقدمه لجمهوره ومقدار امتنانهم له بالمقابل، على كل ما كان يفعله لإسعادهم والتعبير وجدانيا عما كان يختلج في دواخلهم.
وسط مسيرة بحثها الدؤوب ستتفاجأ الحفيدة (الإنجليزية) بالمواقف الاجتماعية الغريبة عليها، وأشدها غرابة موقف الرجل الشرقي والمجتمع من المرأة وهيمنة المواقف المحافظة رغم الانفتاح الظاهري. زواج الجَد في شبابه من امرأة يهودية وحرصه على إخفاء دينها شكل عقدة لأبنائه، رغم محاولته تجنب الحديث عنها. كان مكتفياً بحبه لها كما هي، لكنه وفي لحظة سيكشف عن أنانية حرصت الحفيدة على تثبيتها في فيلمها لأنها قررت تقديم صورة واقعية له. بناته عرضن عليها بعض مواقفه المحافظة وكيف رفض رفضاً قاطعاً عروض قدمها المخرج الإيطالي روبرتو روسيليني لواحدة منهن للمشاركة في واحدٍ من أفلامه، ونفس التجربة تقريباً مرت بها ابنته الكبيرة المتمتعة بموهبة فنية وصوت جميل.
ستُصيب بعض سلوكيات الفنان الطليعي الحفيدة بحيرة وستزداد حدة عند اكتشافها امتلاك معظم أبنائه مواهب فنية، لم يكن معنياً بها ولم يشجعهم على احترافها. والدها سيزيد من دهشتها حين يعلن لها وبالوثائق المُسجلة اشتراكه كعازف مع فرقة موسيقية قلدت أواسط الستينات فرقة “البيتلز” البريطانية كما سافر عمها مع فرقة أمريكية جالت العالم وبسبب ارتباطه بها ترك تونس وعائلته واستقر في باريس. بناته حلمن يوماً بأن يصبحن فنانات مثله لكنه رفض ذلك، وأراد لهن حياة أُسرية تقليدية. تشتت العائلة واحدة من أسبابها عدم تحقيق رغبات أفرادها وإصرار الأب على أن يبقى الفنان الوحيد فيها!.
لا تركز بلحسين على سلبيات المواقف بل تذهب إلى الإيجابي العميق منها أيضاً، وله فيها الكثير. فـ”الهادي” نقل الموسيقى التونسية إلى مستوى جديد مختلف عن السابق، وحظي بإعجاب عربي وظل فخوراً بانتمائه إلى موسيقاها وتنويعاتها الأندلسية على وجه الدقة، وطبعاً تأثره وإعجابه بالموسيقى المصرية، ومن مساوئ الصدف أن لا يتم اللقاء المنتظر بينه وبين أم كلثوم لأسباب خارجة عن إرادتهما. ستنقل كلمات أغنية “مكتوب يا مكتوب” بعضا من شجون سوء الحظ ولعبة الأقدار الحزينة.

فيما ستزداد حماسة الحفيدة لملاحقة تاريخ الجًدة وأولادها الموزعين على جهات الأرض، وتنجح إلى حد ما في جمعهم بأشكال مختلفة، فهم في النهاية أهلها وعماد مشروعها السينمائي ومن دونهم لن يكون فيلمها له معنى كبير. قدرتهم على البوح بعد طول فراق نقل الوثائقي في مرحلته الأخيرة إلى مستوى شخصي محمل بوجدانيات الافتراق والحنين إلى ماضٍ طالما تمنّوا تجاهله ولولا حضور الحفيدة إلى تونس لظلت هي أيضاً تجهل أهمية جَدها والمشاهد الأخيرة للعائلة وهي تزور المسارح التي قدم والدهم على خشباتها أعماله ثم أعادت المخرجة إحياءها بالتسجيلات التلفزيونية القديمة، تعبر عن قوة الإعجاب بما تركه لهم والدهم من إرث فني يحق لهم الافتخار به.
مع اقتراب نهايته واكتمال صورة الجَد وفق رؤية صانعته، والتحام لم شمل العائلة يخطر في البال سؤال حول قدرة الفيلم الوثائقي على الفعل المؤثر؟ ربما الجواب هذة المرة وبفعل المشاهدة الممتعة سيكون؛ بنعم قوية وبشرط تمكن مخرجته من أدواتها الفنية والفكرية وعدم خوفها في حالات الضرورة من الخلط بين الشخصي والعام، بين أن يكون في المركز وفي الأطراف ويتيح للجميع فرصاً جيدة للتعبير عن مواقفهم ورؤيتهم للمادة المطالبين الإسهام فيها، وفي حالة “الرجل خلف الميكروفون” فهم المعنيون به بأنه ليس لهم وحدهم وهذا ما عبروا عنه خلال عملية التصوير الطويلة. فهموا في النهاية معنى مقاسمة والدهم حبهم مع جمهوره، لأنه ببساطة كان فناناً يريد إسعاد الناس ويبتهج لتركه الفرحة في قلوبهم.
ففَهم دور الفنان أكثر أهمية للفنان أحياناً من حياته الخاصة وحياة عائلته هكذا هي القاعدة، التي لم يشذ “الهادي” عنها، فظل بسببها فناناً أكثر منه جَداً أو أباً. قدم لمحبيه كل ما يملك من موهبة وبالمقابل منحوه هم الحب والتقدير. كل فكرة من تلك الأفكار كانت تجد تعبيرها الرمزي في المشهد المتكرر، الذي تظهر فيه المخرجة وهي تضيف بين فترة وأخرى صورة جديدة إلى مجموعة الصورة المنثورة على الأرض والتي بمجموعها شكلت صورة الفنان وحياته، دون أن تشوهها لحظة أنانية هنا ومثلبة هناك فحب الناس له وتقييمهم لا يكتمل إلا باكتمال صورته في أذهانهم، وهذا ما سعت لتحقيقه حفيدته بأعلى درجات الجمال السينمائي.
