حياة الأبراج.. صيحة سينمائية ضد النظام الرأسمالي

أمير العمري

تمثل ظاهرة الأبراج السكنية العالية في مدن الغرب المكتظة بالسكان مشكلة تكاد تنفجر في أي لحظة، بل وقد أصبحت تتصدر عناوين الصحف كمادة مثيرة بالفعل عندما اشتعلت النيران في برج سكني في وسط مدينة لندن قبل أشهر عدة، وهو برج يقطنه الفقراء والمهمشون بشكل عام، وقد أثارت الكارثة التي نتجت عن الحريق اهتمام الرأي العام، وطرحت التساؤلات حول جدوى وجود مثل هذه الأبراج السكنية المرتفعة مع العجز عن توفير الصيانة وأدوات الأمان اللازمة لها.

وقد أصبحت الأبراج المرتفعة الشاهقة التي كانت تقام أساسا كبناء رخيص لا يحتل مساحة واسعة من الأرض؛ موضوعا لفيلمين حديثين: الأول روائي من البرازيل، والثاني تسجيلي من بلجيكا.

 

“رطب”.. حرارة الجو السائد

الفيلم البرازيلي “رطب” هو الفيلم الروائي الطويل الثاني لمخرجته “مارينا ميلياندي”، وهي تبدأ فيلمها بداية قوية توحي بأننا سنشاهد فيلما من أفلام الواقعية الاجتماعية التي تميزت بها السينما البرازيلية. زمن الأحداث قبل ثمانية عشر شهرا من موعد انعقاد دورة الألعاب الأوليمبية في ريو دي جانيرو عام 2016.

وبطلة الفيلم محامية شابة تدعى “آنا” تقطن بمفردها في شقة تقع في برج سكني بالقرب من موقع الملعب الرياضي الذي سيشهد ألعاب الدورة، وقد أسندت السلطات المحلية إلى شركة متخصصة في بناء الفنادق مهمة إخلاء البرج من السكان مع دفع تعويضات مالية لهم، ثم هدمه تمهيدا لإقامة فندق فخم مكانه، ويشهد المحيط المجاور للبرج عمليات إزالة واسعة النطاق للمباني التي يقطنها الفقراء لكي تقام مكانها عمارات فخمة.

تفوح رائحة الفساد بقوة من دوائر السلطة والحكم المحلي، وجارة “آنا” السيدة “دونا روزا” ترفض مغادرة شقتها وتصر على البقاء في هذا البرج الذي قضت فيه حياتها كلها وكانت هناك منذ إنشائه. تتضامن معها “آنا”، بل وتتولى أيضا تمثيل السكان قانونيا في مواجهة السلطات. ترسل شركة الفنادق مهندسا معماريا شابا هو “بيدرو” لفحص جميع الشقق وإعداد تقرير شامل عن حالتها. يتودد “بيدرو” إلى “آنا”، وسرعان ما تنشأ علاقة ما بينهما رغم اختلاف المواقف، لكنه مجرد موظف فني يؤدي عمله، أما “آنا” فهي ناشطة وتواصل عقد اجتماعات مع السكان والدخول في مواجهات حادة قانونية مع السلطات المحلية التي تحاول التوصل إلى حل وسط. ورغم استجابة غالبية السكان للرحيل عن شققهم، فيكفي أن يكون هناك ساكن واحد يرفض لكي تتعطل عملية الهدم التي يقف وراءها أصحاب المصالح والاحتكارات الذين يرغبون في إعادة تصميم المنطقة بأكملها لتحويلها إلى منطقة للأثرياء وطرد الفقراء منها.

يدور الفيلم في أجواء الصيف الحار في ريو دي جانيرو حيث ترتفع الحرارة والرطوبة، ويثور الغبار الناتج عن عمليات الهدم التي تنفذ بقسوة كما نرى في عدد من أفضل مشاهد الفيلم، لتوثق بأسلوب الفيلم التسجيلي ما يقع من اغتيال للمدينة بل وللحدائق المحيطة بالمنطقة القريبة من البحر أيضا تمهيدا لتحويلها إلى مبان.  يشير عنوان الفيلم “رطب”، إلى حرارة الجو الممزوجة بالرطوبة، وهو عنوان يلخص المزاج السائد في الفيلم، المزاج المتقلب المرهق الذي ينذر بسوء العاقبة. فما الذي يمكن أن يحدث؟

بطلة فيلم “رطب” المحامية الشابة “أنا” تنظر من أمام شرفة منزلها على الملعب الرياضي الذي شهد دورة الألعاب الأوليمبية 2016

 

غريب مسجى على الفراش..  فيلم رعب خيالي

من الواضح أن الوصف العام وتصوير المواجهات الشرسة التي تندلع بين السكان والشرطة، واقتحام الشرطة المبنى لإخلاء السكان بالقوة، لا يكفي لدفع الأحداث أو لإثارة اهتمام المتفرج بمتابعة فيلم روائي طويل يتجاوز زمنه 90 دقيقة، لذلك جاءت فكرة التحول التدريجي في الحبكة والأسلوب، من فيلم الدراما الواقعية الاجتماعية إلى فيلم الرعب، بحيث يصبح الرعب نوعا من التعليق المجازي على الموضوع.

يبدأ التحول مع ما تشعر به البطلة الشابة “آنا” من وجود بقعة من الطفح الجلدي على ظهرها، ثم شعورها بالإرهاق والضيق وعدم القدرة على ممارسة حياتها كالمعتاد، وبعد أن تتسع مساحة الطفح الجلدي تذهب إلى الطبيب فيقول لها إنه لم يسبق له أن شاهد شيئا مماثلا من قبل. يجري خبراء المعامل اختبارات لا تأتي بنتيجة واضحة فنوع الفطر المسبب للمرض غامض وليس له علاج. من الواضح أن هناك عدوى طفيلية انتقلت غالبا من الجدران، ومن مخلفات الهدم إلى جسد “آنا”.

لا شك في طرافة الفكرة من زاوية الربط بين ما يحدث من اغتيال للمدينة وتضييق على حياة سكان البرج، ودفع “آنا” للجنون بعد أن أصبحت الشقق المحيطة بها خالية تماما، ثم إصابتها الجسدية بهذا الفطر الغامض، لكن الفيلم يتوسع في محيط الرعب حتى يتجاوز الأمر الواقع ليدخل في دائرة الخيال الرحب. لقد أصبحت الفتاة مصابة بالهلوسة وربما يمكن استقبال ما نشاهده بعد ذلك من خلال نظرة “آنا”، فجدار الشقة نفسه يصاب أيضا بنوع من الفطر الأخضر المشقق الذي يمنحه منظرا قذرا مقززا، ويمتد تدريجيا التشقق والتلوث ليغطي باقي جدران الشقة، ثم يزحف على جسد “آنا” بالكامل ليجعل منها كائنا صدفيا غريبا له عينان.

تبرز مشكلة الأسلوب في الفيلم بعد أن نصبح أمام فيلم رعب خيالي دون أن نعرف ما إذا كان هذا الخيال ينبع من ذهن “آنا” المرهق؛ أي أنه مجرد نوع من الهلوسات البصرية، أم أنه حقيقي يعكس الواقع المادي مباشرة. فالفيلم يتعامل مع المرض الغريب باعتباره حقيقة ناتجة عن إصابة المدينة بفطر ما، يمكن أن يصيب الفاكهة والخضروات والبشر والجدران وكل شيء.

إلى أين سينتهي الفيلم بعد أن أصبحت بطلته عاجزة عن الحركة، ترقد في فراشها في الظلام الذي أصبح يطبق تماما على الغرفة بعد أن امتد اللون القاتم إلى السقف والجدران وانقطعت الكهرباء؟ ليس مهما أن ينتهي الفيلم نهاية منطقية، بعد أن خرج من دائرة الواقع إلى الخيال. فعندما يأتي رجال الإطفاء بعد أن شب حريق في المبنى أيضا، يعثرون على “آنا” بعد أن تحولت إلى ذلك الكائن الغريب المسجى على الفراش دون حول أو قوة.

 

غَنْت.. سكان مباني السبعينيات المهدومة

أما الفيلم التسجيلي البلجيكي فهو بعنوان “رابوت” وهو من إخراج “كريستينا فيندكريوف ورابوت”، ويتناول مجموعة من ثلاثة مباني عملاقة، أو أبراج سكنية ضخمة تضم 237 شقة في إحدى ضواحي مدينة غنت البلجيكية، وقد بدأت المخرجة تصوير فيلمها قبل عامين وانتهت من التصوير قبل ثلاثة أشهر من هدم المباني الثلاثة التي أقيمت في السبعينيات تحت تصور أن التخلص من مشكلة الفقر والتشرد يمكن تحقيقه بإبعاد هذا الصنف من البشر خارج المدينة، وعزلهم داخل كتل إسمنتية قبيحة.

تبدأ المخرجة فيلمها الحميمي بلقطات من زوايا منخفضة للمباني العملاقة، ثم تركز قليلا على إحدى بواباتها، وأمامها تلتقي بعدد من السكان أو بمن بقي من سكان هذه الشقق الكئيبة المظلمة، ثم تصعد معهم، تجوس بين ممرات شققهم، ترصدهم وهم يمارسون حياتهم اليومية، فهناك من قضى أكثر من ثلاثين عاما في هذا المكان وارتبط به في ذاكرته، وهو يسترجع كيف كان الوضع في البداية عندما كان هناك نوع من التضامن والتعاضد بين السكان، ثم بعد أن بدأت الروح العدائية في الانتشار مع قدوم أسر من المهاجرين، ونستطيع أن نلمح آثار المشاحنات التي جرت فيما بين السكان من خلال ما ترصده الكاميرا من عبارات تنضح بالعنصرية والعنصرية المضادة، على جدران السلم أو داخل المصعد.

تقترب المخرجة من حياة هؤلاء السكان، ومنهم من أصبح في سن الشيخوخة الآن ويقيم بمفرده بعد رحيل زوجته، يعيش على الذكرى، ويتأمل من نافذة غرفة المعيشة الأجواء الغائمة في الخارج. وهناك الأب الذي رحلت زوجته وتركت له طفلة أصبح بمفرده مسؤولا عنها، وهناك امرأة ليس لديها أثاث داخل شقتها سوى جهاز تليفزيون عتيق، ومقعد وثلاجة بداخلها عدد من زجاجات البيرة البلجيكية، تغرق نفسها في الشراب ولا تكف عن التدخين والبصق على الأرض، كما نرى بعض مدمني المخدرات ورجلا يستمتع بعمل لفافات التبغ والتدخين أمام المبنى، وآخر لا يكاد يحمل نفسه وهو يعرج لكي يصعد سلالم المبنى، ويكاد يتعثر، ورجلا يستمتع بأن تطهي له زوجته المصابة باضطراب نفسي وعصبي، بينما يجلس هو يتناول الطعام ويستمتع به وهي تراقبه في صمت.

لقطة من فيلم “رابوت”، حيث تشعر الشخصية للشعور بالألفة والحياة في هذه المباني الشبيهة بالسجون

 

سجناء المباني.. قتامة الحاضر وضبابية المستقبل

يقترب الفيلم من هذه الشخصيات ليرصد انفعالاتها أو حتى غياب الانفعالات من على وجوهها، فيعكس الشعور بالتهميش والأسى الذي يعيشونه منذ أن أصبحوا شبه سجناء داخل هذه المباني الضخمة الباردة التي تفتقد للشعور بالألفة والحياة. لكن المخرجة تفضل أيضا الإبقاء على مسافة بين هذه الشخصيات والكاميرا، فهي تضع الكاميرا (الثابتة) على مسافة من الشخصية، وتهتم كثيرا بصنع تكوينات بصرية متميزة من خلال التصوير داخل هذه الشقق الضيقة القاتمة، وتستخدم التناقض بين الضوء والظل.

وبين الداخل والخارج، تتوقف طويلا أمام الشخصية التي تصورها بحيث تتيح لنا فرصة تأملها والتعاطف معها أيضا.. صحيح أن بين هذه الشخصيات من يعبر عن أفكار “غير اجتماعية” أو حتى عنصرية، لكن المخرجة لا تدين أو تحكم عليها بل تبدو متفهمة لدوافعها، ومن دون التعليق المباشر على الوضع الاجتماعي يبدو الفيلم صيحة ضد النظام الرأسمالي الغربي الذي أنتج هذه الشخصيات المشوهة، ويحاول أن يخفي وجودها ويعزلها. لقد أصبح يتعين الآن على من بقي منهم أن يغادر قبل إزالة معالم المنطقة والتخلص من المباني، بعضهم يشعر بالأسى لاضطراره للمغادرة إلى المجهول بعد أن قضى عمره في هذا المكان وارتبط به، والبعض الآخر يتطلع إلى أمل في المستقبل مع الانتقال إلى مكان آخر ربما يكون أكثر إنسانية.

وكما يعكس هذا الفيلم مشاعر الوحدة والفراغ والشعور بالاكتئاب وعدم المبالاة بما يحدث في العالم الخارجي، فإنه يعكس أيضا الشعور بالحب والرغبة في التعاضد قبل أن يحدث الفراق مع زوال هذا العالم القديم. إنهم يرقصون على صوت الموسيقى داخل شققهم المغلقة عليهم، ويعلو الصوت تدريجيا قبل أن نرى فرقة من العازفين داخل إحدى الشقق الفارغة التي تعاني من الإهمال الطويل تبث الأمل في القادم.


إعلان