“فنانون حقيقيون”.. مستقبل السينما المرهون بآلات الذكاء الصناعي

 

ثمة أفلام روائية قصيرة تستطيع أن تعالج قضايا كبيرة ومعقدة، إذا تضافرت فيها القصة المحبوكة بنسقها السردي الناجح، والرؤية الإخراجية القادرة على احتواء الفكرة الرئيسية، وعدم السماح بتشظّيها، إلاّ بما يخدم البنية المعمارية للفيلم القصير الذي يحتاج دائما إلى التكثيف والاختزال وسلاسة الصورة البصرية.

هكذا هو الحال في فيلم “فنانون حقيقيون” (Real Artists) للمخرجة الأمريكية “كاميو وود”، إذ تناولت في 12 دقيقة فكرة الأفلام المصنوعة بالذكاء الصناعي، معتمدة في ذلك على قناعة راسخة مفادها “أنّ الفنان العظيم سيفعل كل ما بوسعه لخلق رؤية عظيمة، حتى لو تطلّب الأمر مشاهدة الأفلام في غرفة مظلمة.

يُعتبر هذا الفيلم النوعي من الأفلام المستقبلية التي تنطلق من الحاضر بثورته الإلكترونية المعروفة، وتمتد إلى عمق السنوات والعقود القادمة، ولعلها تحدث في مدن فاسدة وشرّيرة، أكثر من وقوعها في مدن فاضلة، خشيةً من تمرّد الحواسيب الذكية وانفلاتها من عقالها.

الفيلم من بطولة الممثلة الأميركية “تيفاني هاينز” والممثلة من أصول يابانية “تاملِن توميتا”.

“بيغ سيمي”.. أفكار الذكاء الصناعي تصنع فيلما

توحي قصة الفيلم بأنها بسيطة من الخارج فهي عبارة عن لقاء بين “صوفيا بيكر” (جسدت الدور بإتقان شديد الممثلة الأميركية “تيفاني هاينز”) وبين المديرة التنفيذية “آن بالادن” (أدّت دورها بطريقة مُبهرة الممثلة الأمريكية ذات الأصول اليابانية “تاملِن توميتا”)، وهي ذات شخصية تنطوي على بعض الغموض المُستحَب.

كما أن الفيلم معقد في مقاربته الفنية، لأن مُخرجته تسعى إلى تحويل الخيال إلى واقع ملموس بواسطة “بيغ سيمي”، وهو أعظم المؤلفين في تاريخ الأفلام، و(Big Semi) هو اختصار للدراسات السيميائية الكبيرة.

في المستقبل -وربما يكون قريبا جدا- ستكون صناعة الأفلام بطريقة مغايرة عن ما نعرفه اليوم، إذ يقوم “بيغ سيمي” بجمع آلاف الأفكار العشوائية من قاعدة بيانات كبيرة جدا، ثم يقوم بتوليد حبكة لكل فكرة على انفراد، ثم يصنع فيلما عشوائيا باستعمال الشخصيات والحوارات المخزّنة التي تسفر عن آلاف النتائج من الأفلام المتنوعة الأفكار.

وبغيةَ فحص هذه النتائج لا بد من عرض هذه الأفلام على جمهور واسع من محبّي الفن السابع، كي يعرفوا ردود أفعال المُشاهدين، خصوصا أنهم يعرضون هذه الأفلام على ألف شاشة لمئتي شخص، ويقومون بذلك 12 مرة في اليوم الواحد على مدى 365 يوم في السنة، حتى يكون الفيلم مثاليا بعد التعديلات والتحسينات التي تطرأ عليه، اعتمادا على آراء المتلقين.

يناقش الفيلم فكرة صناعة الأفلام بطريقة مغايرة لما نعرفه اليوم حيث يقوم “بيغ سيمي” بجمع آلاف الأفكار العشوائية من قاعدة بيانات كبيرة جدًا

آلة التوليد المعقدة.. حبال عاطفية تنحت تفاصيل الفيلم

فيلم “ميثوس” الذي تقدّمت به “صوفي بيكر” إلى هذه المؤسسة ما يزال بحاجة إلى التعديل، رغم أنها فتاة موهوبة تسعى المؤسسة لاستقطابها إلى أستديوهات سيمفور للمرئيات، وأن سيرتها الذاتية والإبداعية مشرّفة، وأنها كانت تعمل بوقت كلي، وهناك كثير من التوصيات المميزة التي تعزز كفاءتها الإبداعية. ولا شك أن المديرة “آن بالادن” تعترف بذكاء “صوفي” وموهبتها الخارقة، لكن عليها أن تندمج في المناخ الجديد الذي لم تألفه من قبل.

فالفيلم من وجهة نظرهم هو “آلة توليد معقّدة” يضخون فيها لحظات مفرحة ومبهمة في الوقت ذاته، وربما يتبعونها بلحظات من الخوف، ثم ينتظرون فيها استجابات الجمهور، ويطلقون عليها توصيف “الحِبال العاطفية” التي توفر للمؤسسة ما يريدون مشاهدته وسماعه، ثم يوكل الأمر إلى “بيغ سيمي”، ليصنع من الأفكار العشوائية مادة يريدها الجمهور، ويستأنس بها، ويتفاعل معها.

وبما أن المؤسسة قد وضعت ثقتها في “صوفي” فإنها لن تجلس في غرفة مظلمة كي تشاهد أفلامها المفضلة، بل ستعمل مباشرة مع “بيغ سيمي” لتصنع الأفلام المُلهمة التي لا تحتاج إلى تعديل أو لمسات نهائية، فهذا الـ”بيغ سيمي” مؤلف كبير بكل ما تنطوي عليه الكلمة من معنى، ولن يقترف أخطاء جسيمة، طالما أن الحبال العاطفية موجودة على مدار السنة، ولا تكفّ عن تزويده بالملاحظات التي تغربل أي فيلم مُقترَح من أخطائه وشوائبه البسيطة.

أدت الممثلة “تاملِن توميتا” دورها بطريقة مُبهرة حيث قامت بدور “آن ﭘالاد” المديرة التنفيذية، وكانت تنطوي شخصيتها على بعض الغموض المُستحَب.

“اللوح الفارغ”.. ضغطة زر تعبث بمحفوظات الذاكرة

يطرح الفيلم فكرة “الصفحة البيضاء” (Blank Slate) التي تقول إن الأفراد يولدون من دون معرفة عقلية سابقة، وأن عقولهم أشبه باللوح الفارغ، وأن المعرفة تُكتسب بواسطة القراءة والتجربة والإدراك. ورب سائل يسأل: كيف يستطيع المُشاهد أن ينسى هذا الكم الكبير من الأفلام التي شاهدها كي يتسنى له أن يشاهد فيلما جديدا بذاكرة طازجة؟

يأتي الجواب سريعًا بأن اختراع “الصفحة البيضاء” (Tabula Rasa) وهو نفسه “اللوح الفارغ” المُشار إليه سلفًا؛ قد يسبّب فقدانًا لذاكرة المُشاهد، يمكِّنهُ من رؤية الفيلم الجديد بمنظر آخر وذاكرة بصرية طريّة تؤهله لأن يعطي ما لديه من آراء في هذا الفيلم الذي شاهده توًا.

كانت “آن بالادن” تتمنى انضمام “صوفي” إلى فريق العمل، وهذا ما حدث فعلا، ولو رفضت هذا العرض النادر فإن الزر الموجود على هذه الطاولة سيرسل إشارة انتهاء المقابلة، والسوار الذي يطوّق يدها سيرسل في الحال إشارة إلى “اللوح الفارغ” الذي يجعلها تنسى كل شيء حدث في هذه الظهيرة وتغادر المكان بذاكرة نظيفة.

“تاملن توميتا”.. أداء متقن ومكتبة سينمائية ضخمة

لا بد من الإشادة بدور الممثلتين اللتين تناصفتا دور البطولة في هذا الفيلم المكثف، وهما “تاملِن توميتا” و”تيفاني هاينز”، أما “تاملِن” فهي فنانة ومطربة أمريكية ذات أصول يابانية، وقد مثّلت في 26 فيلما سينمائيا جسّدت في بعضها أدوار البطولة مثل “فتى الكاراتيه” (Karate Kid)، “قصص الروبوت” (Robot Stories)، “اليوم بعد غد” (The Day after Tomorrow)، “اعشقني كما أنا” (Love Me as I Am)، إضافة إلى أفلام أخرى.

كما اشتركت في أعمال تلفزيونية جاوزت الثمانين عملا، أبرزها “هيروشيما تنهض من تحت الرماد” (Hiroshima: Out of the Ashes)، “المنطقة المحترقة” (The Burning Zone)، “سبعة أيام” (Seven Days)، “الرجل الأخير على كوكب الأرض” (The Last Man on Planet Earth)، “عقول إجرامية” (Criminal Minds)، “محطة برلين” (Berlin Station) وغيرها من الأعمال الفنية المعروفة.

ما يميز “تاملِن” في هذا الفيلم هو أداؤها المتقن المتناغم مع الدور الذي أُسنِد لها في فيلم يمكن أن نطلق عليه صفة “التكنولوجي” شكلا ومضمونا، مبنى ومعنى.

مخرجة الفيلم الأميركية “كاميو وود” والتي تناولت في 12 دقيقة لا غير فكرة الأفلام المصنوعة بواسطة “الذكاء الاصطناعي” .

“تيفاني هاينز”.. حرفية عالية تواكب النزعة التكنولوجية

الممثلة الثانية في الفيلم هي الأمريكية “تيفاني هاينز” التي رأيناها في عدد من الأفلام السينمائية أهمها “تناغم تام” (Perfect Combination)، “القهوة السوداء” (Black Coffee)، “سموم” (Toxin) وغيرها من الأفلام والأعمال التلفزيونية، وقد جسدت الدور المُسنَد إليها في هذا الفيلم بحرفية عالية، وبدت مُقنعة جدا للجمهور.

أشرنا غير مرة إلى أنّ هذا الفيلم تكنولوجي النزعة، أي أنه يعتمد على المعطيات التكنولوجية المتطورة، وهذا ما حدث مع “الصفحة الفارغة” و”بيغ سيمي” و”السوار” الذي يمحو الذاكرة وما إلى ذلك. قد يبدأ الفيلم من الزمن الحاضر لكنه يستشرف المستقبل، إذ ينحسر دور المؤلف لتحل محله الآلة التي تستطيع أن تنتج فيلما يتسق تماما مع تطلعات المتلقين.

 

“كاميو وود”.. إرهاصات مخرجة كرّست نفسها للفن السابع

بقي أن نشير إلى دور مخرجة الفيلم الشابة “كاميو وود” التي تقيم وتعمل في سان فرانسيسكو، وهي منهمكة الآن بإنجاز فيلمها الروائي الطويل الأول الذي يحمل عنوان “أتافيست” (The Atavist)، وجدير بالذكر أن “كاميو” أحبّت السينما منذ شاهدت فيلم “أماديوس” (Amadeus) على الشاشة الكبيرة، فقررت أن تكرّس حياتها للفن السابع، ولعلها تتخصص بالسينما المستقبلية التي لمسنا إرهاصاتها في هذا الفيلم المتمحور حول فكرة الذكاء الصناعي.


إعلان