ختان الإناث.. استباحة الانتهاك الجسدي
قيس قاسم

يُسَجَل للمخرج السنغالي الطليعي “عثمان سمبيني” تناوله المبكر لموضوع “ختان الإناث” في القارة الأفريقية سينمائياً، و جرأته في نقل الظاهرة على الشاشة عبر فيلمه “مولاده” بكل جوانبها وبأسلوب درامي مؤثر واشتغال احترافي نال عليه جائزة قسم “نظرة ما” في دورة مهرجان كان السينمائي 2004، ومعه عاد الجدل حول سينما “الموضوع”، ومدى إمكانية الجمع الموفق بين “الثيمة” وبين جماليات السينما؟ بقدر أقل حدة يُطرح ذات السؤال، أيضاً على فيلم In The Name Of Your Daughter كونه وثائقياً، يتحمل تقليل نسب “الجماليات” فيه والتركيز على مادته أكثر، خاصة حين تكون شديدة الحساسية مثل؛ ختان الإناث، غير أن اللافت في منجز الكندية “جيسيل بروتينر” إصرارها على التقاط العوالم المحيطة بقصصه، بحميمية وبأبعاد جمالية، أبعدت عنها “الفجاجة” وأكسبت أسلوب نقلها هدوءاً نادراً، تجلى في تجنبه عرض “بشاعات” عملية الختان جسدياً والاكتفاء بتعابير أخرى، كالحوارات العفوية للأطفال المتعرضين لها، والتقاط مَسْحات الحزن الدفين داخلهم، دون مبالغة، لهذا جاء وثائقيها “باسم ابنتك” سلساً، وإشكالياً في آن، أبطاله شخصيات آتية من عمق تنزانيا، البلد الذي منع رسمياً ختان الإناث بقوانين، لم يجرِ التزام بها لقوة “الموروث” الاجتماعي من جهة ولمصالح شخصية من جهة ثانية، حين راح الوثائقي يربطها ببعضها، تحول نصه إلى بحث عميق في الظاهرة.
من حسن حظ المخرجة الكندية عثورها في شمال تنزانيا على نماذج بشرية جاهزة، واقعية تخوض في صلب الموضع الذي جاءت من أجله، وما كان عليها في تلك الحالة سوى تركها تتحرك بعفوية، كما هم في الحياة. يلعبون دون ادعاء أمام كاميرتها دور “الأبطال” مع أنهم حقاً يستحقون لقب “بطل” لما يلعبونه من أدوار مهمة في مشهد “الختان” التنزاني. على تجارب ثلاث شخصيات بَنَت الكندية معمار فيلمها سردياً، وعبرها راحت توسع من دائرة بحثها لمعرفة واقع الحال بعد إقرار الحكومة منع الختان وتجريم المستمرين به.
وصلت في “موسم الختان” كما يسمونه في القرى التنزانية لكثرة العمليات التي تجري فيه استغلالاً للعطلة المدرسية في شهر ديسمبر، ووجود الفتيات الصغيرات في بيوتهن. في نفس الموسم تهرب المئات منهن خوفاً مما قد يتعرضن له من تشويه خلقي وانتهاك جسدي يؤدي إلى الموت أحياناً وحرصاً منهن على مستقبلهن أيضاً. من مشهد هروب الطفلة الشجاعة “روزي ماكوري”، 12 عاماً، سندخل إلى عالم المحققة “سيالي نيامبوتشي” ومسؤولة “بيت الأمان”، “روهبي سامويلي”، ومن خلالهن سنقترب من تخوم “ظاهرة” ملتبسة شديدة التعقيد يروح ضحيتها كل عام ملايين الأطفال الأفارقة.
تذهب مسؤولة بيت إيواء الفتيات الهاربات من الختان، وفي فترات متقاربة إلى مدارس القرى. تعرض على طلابها أفلاماً تسجيلية عن عمليات الختان وتشرح لهم آثارها السيئة على صحة المختونة، نفسياً وجسدياً وحتى اجتماعياً، باعتبار عملية الختان تتم عادة وفق الموروث الشعبي المتأصل، تمهيداً لتزويج الفتاة وتركها المدرسة والتعليم. “بيت الأمان” ومن فيه ترعاه مسؤولته بحرص وعناية ملفتة للانتباه. فهي لا تكتفي برعاية الفتيات الهاربات وجلهن لا تتعدى أعمارهن الرابعة عشرة، بل تذهب بنفسها لمقابلة عوائلهن ومخاطبتها بلغة حريصة على التفاهم والمعالجة، وفي حالة عجزها عن الإقناع تتدخل المحققة سيالي، قانونياً لردع المتجاوزين نصوص القانون الواضحة.. ومع ذلك ظلت تجري عمليات الختان ليلاً وبسرية تُصعب من مهمة ملاحقيها، فغدا الرهان على شجاعة الأطفال أمراً واقعاً وعلى التثقيف والتهديد كوسائل مساعدة.

واحدة من عوامل تسهيل معالجة الظاهرة والقضاء عليها؛ انتفاء العنصر الديني منها. فطيلة زمن الفيلم وعلى سعة تشعب دروبه لم يتعكز المتشبثون بها على البعد الديني إطلاقاً، بدله برروا التزامهم به بالموروث الشعبي وبالعادات القبلية القديمة، والتي لا يريدون التنازل عنها، بغض النظر عن انتمائهم الديني.
أهم ما في الوثائقي؛ شهادات الأطفال وعليها سيتمكن المدافعون عنهم من خوض سجالات مع عوائلهم، وبالنسبة للمُشاهد ستُعينه على فهم الجوانب النفسية المؤثرة فيهم، فالكلام الطبي والقانوني ليس كافياً لتوصيل أحاسيس الضحايا. هم وحدهم الأقدر على نقل الحقائق والمشاعر، وعلى أساسها منحتهم صانعته مساحة كبيرة من فيلمها، تركتهم يلعبون بها كما يريدون دون تدخل منها. يصرحون فيها عن مخاوفهم بحرية لن تتوفر لهم في بيوتهم. كلامهم أمام الكاميرا لم يعزز مصداقيته الوثائقي فحسب، بل عمقت من قوة نقله المشهد العام بكل تفاصيله وبحيوية نادرة، أحالت زمنه إلى لحظات من التأثر والمعرفة ومن الإثارة، الناتجة عن ملاحقته كل إشارة، تغني معانيها مضامين بحثه البصري الصبور المُلتقطة تفاصيله بعين حساسة وبانتقالات مونتاجية تَنقل المُشاهد معها بسلاسة إلى قصص متفرعة، وتبقيه متيقظاً طيلة زمن عرضه على الشاشة.
ميزة مسؤولة “بيت الأمان” الشخصية؛ لطافتها وحسن تعاملها مع الناس، وقدرتها المدهشة على التقاط تعابيرهم العفوية ذات المغزى المبطن للبناء عليها والتدقيق في معانيها الحقيقية. لاحظت ورود عبارات مثيرة للحيرة في أحاديث الأطفال مثل؛ “يريد والدي تزويجي لرجل عجوز مقابل الحصول على الأبقار” أو “ليتقاضى مقابل ختاني عدداً أكبر منها”. إلى سوق بيع المواشي تذهب “روزي” وتحادث رجالاً جاؤوا اليها. من كلامهم ستتوصل إلى حقائق تُعينها في نشاطها التطوعي، من بين أكثرها أهمية لها؛ تفضيل الرجال الفتاة المختونة، على غيرها ولأهلها يدفعون مهراً مضاعفاً يصل أحياناً إلى عشرين بقرة. هذا يفسر لماذا يريد الآباء ختن بناتهم وهن في سن صغيرة، لا تتعدى الثامنة أحياناً. فعدد الأبقار سيرتفع بمقدار سرعة ختان البنت، والقائمون بالعملية وبأدوات بدائية، لا تتعدى شفرة حلاقة، يتقاضون مقابل عملهم مبلغاً من المال، ومع السرية المحاطة بها بعد إصدار قانون منعها ارتفعت أجورهم. على مستوى خارجي يرحب التجار ومتعهدو الحفلات بالختان لأنه يدر عليهم أرباحاً كبيرة بخاصة في موسم “الختان”. دور رئيس القبيلة الغامض تهتم “روزي” به. تذهب لمقابلة بعضهم وتسألهم عن سبب صمتهم وعدم تدخلهم فيما يجري في الظلام وفي الغابات القريبة من بيوتهم. سيَظهر من خلالها جانب منفعي يصعب التقاطه، يتمثل في حرص قادة القرى على الاحتفاظ بعلاقة جيدة مع سكانها، حرصاً منهم على ضمان كسب أصواتهم في الانتخابات المحلية للبقاء في مناصبهم.
لتحجيم عمليات المبادلة النفعية على حساب الفتيات الصغيرات، تلاحق الشرطة الجناة، وتقدمهم إلى المحاكم بعد توفير أدلة اتهامهم. أحكامها تتراوح بين ثلاثة إلى أربعة أعوام وتصل إلى العشرة في حالة وفاة الضحية نزفاً أو بسبب تلوث الجروح والتهابها. وكإجراء احترازي تسجل المستوصفات المحلية الناجيات من الختان في قوائم تؤكد سلامتهن خوفاً من تكرار المحاولة معهن ثانية في حالة عودتهن إلى بيوتهن.

فصل العودة مؤثر ويُظهر جانباً من العلاقات الاجتماعية الملتبسة والمتداخلة بين الجَهل وتصديق الخرافات، والخوف من الخيانة الزوجية، وبين رغبة أطفال في عيش حياة سوية وبناء مستقبل أفضل. ستُشعب تجربة إعادة بعض الفتيات إلى ذويهن طرق الوثائقي، فليس كل الحالات تتم بسهولة وبمثالية مرتجاة. يرفض بعض الأطفال تصديق وعود أهلهم بعدم محاولة إجبارهم على الختان ثانية، ويفضلون عليها الرجوع إلى المكان الآمن، لكنه في النهاية يظل بالنسبة إليهم مكاناً غريباً لا يشبه بيوتهم، والحياة فيه لا تشبه حياتهم في قراهم ومع أصدقائهم وأقاربهم.
حزن دفين ينقله الوثائقي بعناية ويحرص على تقديمه كما هو، مصحوباً ببعض الأمل النابع من إجراءات مقترحة لتسهيل إعادة الصلة بعوائلهم بضمانات قانونية وأخلاقية. يراجعها الوثائقي بتمعن فيجد فيها الكثير من الخروقات ما يشير إلى استمرار الظاهرة ومعها ضحاياها. أعدادهم كبيرة تقدر في عموم البلاد بمئات الآلاف، أغلبيتهم من الأطفال، الذين خُربت أجسادهم وتحطمت آمالهم، بحكم فعل متوارث مبني على أوهام ومخاوف غير مبررة، تسمح للكبار بخرق حقوق كائن ضعيف، حرص “باسم ابنتك” على عرضها بما يكفي للتفكير ملياً بفداحة ما يجري باسم التقاليد وأحياناً باسم أطفال أبرياء، بعضهم تمتع بشجاعة نادرة، هرب رافضاً الخنوع وبعد نجاته ذهب إلى توعية أمثاله والحديث أمامهم في مدارسهم بكل صدق عن تجربته وبما أحسه خلالها من آلام وأحزان، وشعور عميق بانتهاك جسده بالقوة.