جونسون: هزم العرب وأنهى التمييز العنصري
أمير العمري
على مدار العامين الأخيرين ظهر فيلمان عن الرئيس الأميركي الأسبق ليندون جونسون الفيلم الأول أنتج للتليفزيون وهو فيلم “طوال الطريق” All the Way وأخرجه جاي روش وقام بدور جونسون الممثل بريان كرانستون (آخر علم يرفرف، فنان الكارثة)، والثاني هو الفيلم السينمائي “إل بي جيه” LBJ ويقوم بدوره وودي هاريلسون.
ويعتبر الرئيس ليندون جونسون (1908- 1973) من أكثر الرؤساء في التاريخ الأميركي المعاصر، إثارة للجدل. فهو من جهة، ورغم انتمائه للحزب الديمقراطي، كان يعتبر من صقور الكونغرس كنائب قديم ثم زعيم للأغلبية الديمقراطية في الكونجرس. وقد اتسم عهده بعد أن أصبح رئيسا، بما شهده الشارع الأمريكي من احتجاجات عنيفة ضد حرب فيتنام، وكانت إدارته الأكثر تورطا في هذه الحرب الظالمة. واضطر إلى التخلي عن خوض سباق الرئاسة للحصول على فترة ثانية. وقد شجع جونسون إسرائيل على شن الحرب على مصر وسوريا والأردن عام 1967، ولكنه خدع العرب قبل الحرب، ثم سخر منهم بعدها، وكان يكنّ حقدا شخصيا ضد جمال عبد الناصر.
ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن بعد مشاهدة فيلم “إل بي جيه” LBJ (وهي الحروف الأولى من اسم الرئيس جونسون، أن من بين ممثلي هوليوود من يمكن أن يكون أكثر إقناعا من الرئيس نفسه في دور الرئيس. وهذا ما ينجح فيه كثيرا الممثل وودي هاريلسون الذي قام بدور جونسون، وهو مثله ينتمي إلى ولاية تكساس الجنوبية. لا يهتم روب رينر مخرج الفيلم بتناول دور جونسون في تصعيد الوجود العسكري الأميركي في فيتنام وما تسبب فيه من زيادة القوات الأميركية من 16 ألف جندي عام 1963 إلى 525 ألف عام 1967. فاهتمامه، طبقا للسيناريو الذي كتبه جوي هاريلسون، ينصبّ على ما طرأ من تحول كبير على مواقف جونسون بعد اغتيال جون كنيدي في 1963، أي بعد أن أصبح رئيسا، ثم نجح في إقرار قانون الأحوال المدنية، رغم المقاومة الشرسة من جانب حلفائه الجنوبيين في الكونجرس، وبعد أن عجزت عن إقراره الإدارات المتعاقبة منذ 1945.

بين الماضي والحاضر
يقوم السيناريو على الانتقال بين الماضي القريب، والحاضر. والحدث الأساسي الذي يعدّ العمود الفقري للفيلم، والذي يعود إليه بين حين وآخر، هو حادث اغتيال الرئيس كنيدي، لكن الفيلم لا يولي اهتماما لهذا الحدث من الناحية الجنائية التي سبق تناولها في عدد من الأفلام، أهمها جميعها “ج ف ك” (1991) لأوليفر ستون، بل يستخدمه كموتيفة متكررة لتذكيرنا بهيمنة “أسطورة كنيدي” على ذهنية جونسون، وبأنه لو لم يقع الحادث لما أصبح رئيسا.
يبدأ الفيلم بهبوط طائرة كنيدي وزوجته جاكلين، في المطار حيث يقوم الرئيس بزيارة لولاية تكساس ومعه نائبه جونسون. اهتمام الجميع يبدو مُنصبا على كنيدي ولا أحدا يُعير جونسون اهتماما. إنه وحيد وسط الحاشية رغم أنه في بلده. الموكب يستمر لكن الفيلم ينتقل إلى جونسون زعيم الأغلبية قبل أن يصبح نائبا لكنيدي. إنه رجل يجيد المناورة، يؤمن بضرورة الحلول الوسط، تذكره زوجته بأنه كان الوحيد الذي طلب يدها بعد 20 دقيقة من التعرف عليها. لقد كان يعرف ما يريده.
يقرر جونسون خوض السباق داخل حزبه للحصول على ترشيحه لخوض انتخابات الرئاسة. لكن منافسه جون كنيدي صاحب الكاريزما الخاصة، يتغلب عليه. وهو يجلس بجوار زوجته (ليدي بيرد) على الفراش يشاهد على شاشة التليفزيون، نتيجة فرز الأصوات: لقد حصل كنيدي على 750 صوتا بينما حصل هو على 450 صوتا. يالها من خيبة أمل. فمن هو كنيدي الذي لا يمتلك خبرة مماثلة له؟ وكيف يمكن أن يصبح كاثوليكي رئيسا في بلد بروتستانتي؟ تساؤلات يطرحها جونسون بقوة وغضب.
وننتقل إلى فلاش باك آخر في مكتب كنيدي وهو مجتمع مع مساعديه وعلى رأسهم شقيقه روبرت الليبرالي الشاب المتحمس الذي يبدو صاحب التأثير الأكبر عليه. كنيدي يقرر اختيار جونسون لخوض الانتخابات في منصب نائب الرئيس. روبرت يعترض بشدة، وكذلك مساعده الذي يرى أن وجود جونسون في منصب زعيم الأغلبية في المجلس يخدم كنيدي أكثر. سينتهي الأمر بذهاب كنيدي بنفسه ليعرض الأمر على جونسون. مستشارو جونسون يرون أن وجوده كزعيم للأغلبية أفضل من منصب النائب الذي يرونه منصبا شكليا. لكن جونسون يقبل. إنه واثق من قدرته على إضفاء القيمة على المنصب الشكلي.
ينجح كنيدي متفوقا على نيكسون بأقل نسبة في تاريخ الانتخابات الأميركية، فالفارق بينهما 11200 صوت فقط. ويصبح جونسون الآن نائبا لكنيدي، وهو يسعى من اليوم الأول للحصول على سلطات تتجاوز منصبه الشكلي مثل مراقبة عمل المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي وغير ذلك، مما يجعل كنيدي ومساعديه يضحكون في سخرية، بل يقول له روبرت كنيدي بوضوح إنه لا وجود له في اجتماعات الدائرة المقربة. إنه الاذلال بعينه، وهو يشعر أنه استخدم لضمان حصول كنيدي على أصوات الولايات الجنوبية لكنه أصبح مهمشا بل إنهم يتشككون في ميوله المحافظة ومقاومته للمشاريع التقدمية التي تعتزم الإدارة الجديدة إدخالها.

الحلول الوسط
يجسد الفيلم التناقض بين كنيدي الرقيق ذي الشخصية المرحة القريبة من الجماهير، وجونسون المتجهم الصارم الذي يميل لاستخدام الألفاظ النابية، الذي يتسم بالفظاظة في تعامله مع مساعديه. وفي أحد المشاهد نرى جونسون جالسا على المرحاض وباب الحمام الملحق بمكتبه مفتوح بينما يجلس فريق مساعديه، يملي عليهم من موقعه هذا تعليماته بينما يستخدم ورق الحمام.
جونسون رجل المساومات والحلول الوسط يقابل صديقه السيناتور الجمهوري المحافظ ريتشارد راسل الذي ينتمي مثله إلى الجنوب. لقد جاء يطلب الحصول على عقد من الحكومة قيمته مليار دولار لصنع طائرة عسكرية جديدة متقدمة في مصانع لوكيهد التي يديرها. جونسون يوافق على دعم طلبه لدى كنيدي شريطة أن يقوم بتوظيف عدد من كبار المهندسين السود في المصنع، لكي يتيح لجونسون مقاومة طرح قانون الأحوال المدنية الذي يعتزم كنيدي تقديمه للكونجرس. السيناتور يذكر جونسون بأنه ظل لخمسة وعشرين عاما يقاوم صدور هذا القانون. ويتعهد بأن يقاومه ويهزمه داخل الكونجرس. يستخدم المخرج روب رينر الوثائق المصورة من تلك الفترة، للمظاهرات التي شاركت فيها أعداد كبيرة من السود احتجاجا على سياسة التفرقة العنصرية. جونسون يعقد اجتماعا لمناقشة موضوع عقد لوكهيد لكنه يواجه تحديا من نائب شاب يقوم بقمعه باستخدام لغة غير مقبولة على عادة جونسون الذي أصبح يواجه أيضا مقاومة شديدة من جانب روبرت كنيدي الذي يشك في أن جونسون لا يختلف في عنصريته الجنوبية عن تشارلز راسل وعصبته في الكونغرس.
“لماذا لا تحبني؟” هذا هو السؤال الذي يوجهه جونسون إلى روبرت بعد أن يصبح رئيسا. وسيظل السؤال أيضا يلحّ عليه، وعندما يسأل زوجته ليدي بيرد (جنيفر جيسون لي): لماذا لا يحبونني؟ يصبح من الواضح أنه جونسون يعاني من الشعور بالرفض، فهو يتوق لحب الآخرين لكنه لسبب ما، لا يمكنه الحصول عليه رغم اخلاصه وتفانيه في العمل، إنه لا يستطيع منافسة كنيدي في حب الجماهير حتى بعد موت كنيدي.

في موقع الرئيس
يصور الفيلم ما وقع في 22 نوفمبر 1963 في تكساس عندما أطلق الرصاص على كنيدي وقتل، ثم تم نقل جونسون على الفور إلى الطائرة حيث يقسم اليمين القانونية قبل أن يطير عائدا إلى واشنطن وكلها أحداث حقيقية معروفة، لكن الفيلم يصور جونسون كرجل ألجمته مفاجأة الاغتيال، ورغم الصدمة إلا أننا نلمح على وجهه شعورا خفيا بالفرح ، فهو سيصبح رئيسا.
يتركز الفيلم بعد وصول جونسون إلى الرئاسة على محاولاته احتواء مساعدي كنيدي وخاصة شقيقه روبرت الذي لا يبدو مرتاحا للعمل مع جونسون في منصب المدعي العام. لقد غضب روبرت كثيرا، ووبخ جونسون بعد أن أمر الأخير بمجرد دخوله البيت الأبيض بالتخلص خلال 24 ساعة من كل متعلقات كنيدي. إن سيكولوجيا الإحساس بالضآلة والضعة أمام روبرت، وشعور جونسون الداخلي بالذنب من مقتل كنيدي بينما نجا هو، ثم حصوله على منصبه من دون انتخابات، يجعله يميل إلى القيام بما قد لا يكون متوقعا منه، أي الدفاع عن قانون الأحوال المدنية، متخليا عن تعهده لصديقه ريتشارد راسل الذي يتهمه بخيانته فيحاول أن يشرح له في واحد من أفضل مشاهد الفيلم، يدورعلى مائدة الطعام في البيت الأبيض.
يجلس الاثنان على المائدة وبين حين وآخر، تدخل خادمة جونسون السوداء تقدم طبقا جديدا. راسل يتحدث بألفاظ حادة عن السود، ويقول إن هذا القانون لن يفعل لهم شيئا لأنهم عمليا منبوذون في الجنوب. وجونسون يحاول أن يشرح له أن هذه السيدة التي تخدمه منذ سنوات وأنهم يعتبرونها جزءا من العائلة، وأنها عندما سافرت إلى بلدها في الجنوب شعرت بالغربة ولم يكن مسموحا لها بالنزول من سيارتها ولا تناول الطعام في أي مكان، وحتى عندما أرادت قضاء حاجتها كان يتعين عليها أن تقضيها على أحد جانبي الطريق. لماذا؟ أليست كائنا إنسانيا مثلنا؟ بم ستشعر إذا ما جلست بجوارنا؟
لكن تناقضات جونسون ودفاعه الحار عن اختيار الطريق الصعب، لا يمنع من شعوره بأنه تناقض مع مبادئه القديمة: في لقطة شديدة الذكاء، يتوقف أمام تمثال لينكولن (بطل تحرير الزنوج) ويخاطبه: إنني أقوم الآن بتنظيف الفوضى التي خلفتها أنت! المشهد النهائي هو المشهد الأكبر في الفيلم، وفيه يقف جونسون أمام الكونغرس ويلقي خطابه البليغ الذي سيطرح من خلاله ضرورة تحقيق أفكار كنيدي العظيمة التي لم يمهله القدر لتنفيذها. ويبدو الخطاب شديد التأثير ويحظى بإعجاب الجميع بمن فيهم روبرت كنيدي نفسه. لقد نجح جونسون في اللعب على العاطفة الخاصة تجاه كنيدي مصورا نفسه باعتباره امتدادا له. ألم يقل لمساعديه: هناك حصان الاستعراض. وهناك حصان العمل”.

أسلوب الاخراج
الانتقال المتواصل من حادث اغتيال كنيدي وما قبله وما بعده، لم يكن مناسبا لموضوع الفيلم. فقد تسبب في الشعور بنوع من “الآلية” التي لا تضيف شيئا خاصة وأن السيناريو يستعيد حرفيا ما وقع بعد الاغتيال بأسلوب شبه تسجيلي يخلو من الخيال السينمائي، كما أن الفيلم يعاني بشكل عام، من غياب الصراع الدرامي، فشخصية روبرت كنيدي الذي تنازع جونسون، شخصية نمطية مهتزة وكاريكاتورية، تجعله يبدو كما لو كان حاقدا على تولي جونسون الرئاسة وضياع سيطرة أسرته على السلطة. والتجريد التام للفيلم تقريبا (باستثناء عبارة أو اثنتين) من موضوع تورط جونسون في حرب فيتنام يبدو اختيارا غير منصف أيضا.
إننا أمام عمل يخلو- بشكل واضح- من الخيال في صياغة الأحداث، لكنه يبرع في رسم معالم الشخصية بحيث يقنعنا بانتقالها من الانغلاق الى الانفتاح. وتظهر على الشاشة في نهاية الفيلم عبارات تخبرنا أن جونسون كان وراء ما عرف بمشروع “الحرب على الفقر”، والتأمين الصحي، وتنمية المجتمعات الريفية، وتشريعات حماية البيئة، ودعم التعليم والفنون والخدمات العامة، وانهاء التفرقة في جميع مرافق الحياة بموجب تشريعات قانونية واجبة، وإقرار قانون الهجرة الذي سمح باستقبال أعداد كبيرة من خارج أوروبا.
لا شك أن هذا أساسا فيلم من أفلام الأداء العظيم، فوودي هاريلسون في دور جونسون، رغم اختلاف الملامح الشكلية، يبرع في تقمص الشخصية، يعبر عنها ربما أفضل منها، يستخدم قدرته الفذة على التماهي مع الموقف من مشهد إلى آخر، فيبدو كما لو كان يؤدي في استمرارية من دون أي انقطاع، أي في حالة هارمونية واحدة تصبغ الفيلم كله بحضوره المدهش. أبلت جنيفر جيسون لي في دور “ليدي بيرد” زوجة جونسون بلاء حسنا، وكان حضورها يبدو كما لو كانت قد أصبحت مرآة جونسون الداخلية، تعيده الى نفسه وتدفعه للتعامل مع الجوانب الجيدة في شخصيته، وترد له ثقاه في قدرته على الإنجاز والفعل.